يوم سنوي لإحياء سربرنيتسا.. ما الهدف من إقراره بعد 30 عاما على المجزرة؟

12

طباعة

مشاركة

رغم أنها تبدو خطوة روتينية، إلا أن إقرار الأمم المتحدة يوما سنويا لإحياء وتخليد ذكرى الإبادة الجماعية في سربرنيتسا، يحمل معاني مهمة، بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي في غزة.

توقيت القرار بدا كأنه تلويح مباشر لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ومجرمي الحرب الصهاينة، إذ إن مجزرة سربرنيتسا حدثت منذ 30 عاما تقريبا، وربما جاء طرح الموضوع الآن بهدف سياسي، أكثر منه صحوة ضمير من العالم لتوجيه رسالة لتل أبيب.

وذكرى مذبحة سربرنيتسا هي واحدة من أبشع المجازر في التاريخ الحديث، ارتكبها الصرب الأرثوذوكس ضد سكان "البوسنة والهرسك" المسلمين في يوليو/تموز 1995.

وراح ضحيتها حوالي 8 آلاف شخص من المسلمين البوشناق أغلبهم من الرجال والصبيان في مدينة سربرنيتسا خلال حرب البوسنة والهرسك ونزح عشرات الآلاف من المدنيين المسلمين من المنطقة. 

وارتكب المجزرة وحدات من الجيش الصربي تحت قيادة الجنرال راتكو ملاديتش بتواطؤ ودعم من بعض الدول الاوروبية، خاصة هولندا.

ويشكل المسلمون أغلبية سكان البوسنة، وعانوا من حروب وويلات بسبب عدوان ومذابح الصرب ضد المسلمين بين عامي 1992 و1995 وقتل في هذه الحرب 300 ألف أغلبهم من المسلمين، كان أخطرها مذبحة سربرينيتسا.

وتتألفُ البوسنة من ثلاث مجموعات عرقية وهي: البوشناق (مسلمون) وهم الغالبية، الكروات (كاثوليك) والصرب (أرثوذوكس).

أهمية القرار

وكانت موافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 مايو/أيار 2024، على مشروع قرار يعتمد 11 يوليو/تموز يوما لذكرى الإبادة الجماعية في سربرنيتسا، ذات أهمية كبيرة بالنظر لرسائل القرار.

فمن جهة، يبدو القرار كأنه موجه للصرب الذين يتحرشون بالبوسنة ويدقون طبول الحرب فيها مجددا منذ أقر برلمان صرب البوسنة 10 ديسمبر/كانون الأول 2021 انسحابه من المؤسسات الفيدرالية المشتركة بين الصرب والكروات والمسلمين في دولة البوسنة وتشكيل جيش صربي مستقل.

ومن جهة ثانية، يحمل دلالات تهديد وتذكير لدولة الاحتلال الإسرائيلي أن مصيرهم سيكون مثل مصير مجرمي حرب البوسنة، في ظل جرائم الإبادة البشعة التي ارتكبوها في غزة وكل فلسطين.

والقرار قدمته ألمانيا ورواندا التي شهدت إبادة عرقية في التسعينيات، وقرابة 40 دولة وحظي بأغلبية 84 صوتا من أصل 193 عضوا.

وامتنعت 68 دولة من التصويت على مشروع القرار فيما رفضته 19 دولة، وغابت إسرائيل عن جلسة التصويت.

ورغم أن قرارات الجمعية العامة ليست ملزمة، فإنها تتمتع بثقل سياسي وتبعث برسالة قوية إلى المجتمع الدولي.

وكان مستغربا رفض دول عربية واسلامية التصويت مع القرار والوقوف على الحياد مثل الإمارات والجزائر والبحرين والسودان ولبنان وكازاخستان وطاجيكستان.

وشدد القرار على "أهمية مواصلة الجهود للتعرف على ضحايا الإبادة والعثور على جثثهم"، و"ضرورة تقديم جميع المجرمين إلى العدالة".

ويدين إنكار الإبادة الجماعية في سربرنيتسا، كما يستنكر "تمجيد الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية ومجرمي الحرب"، في رسالة مهمة تنطبق علي دولة الاحتلال الإسرائيلي.

وقررت محكمة العدل الدولية، وهي الأعلى في الأمم المتحدة، عام 2007 أن الأفعال التي ارتكبت في سربرينيتسا تشكل إبادة جماعية، وقد تم تضمين قرارها في مشروع القرار الجديد. 

وكانت هذه أول إبادة جماعية في أوروبا منذ ما يسمي المحرقة النازية في الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945).

ومشروع القرار "الضروري والذي يأتي في الوقت المناسب" هو "فرصة حاسمة للتوحد من أجل تكريم الضحايا"، حسبما قالت ألمانيا ورواندا في رسالة قبل أيام إلى جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.

لكن روسيا حليف صربيا الأبرز في البلقان، انتقدت النص "الاستفزازي" الذي "يهدد السلام والأمن" في البوسنة وفي أنحاء المنطقة.

وقال السفير الروسي في الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا: "نرى أن من غير المنطقي على الإطلاق، بل ومن غير الأخلاقي، أن يمحو أعضاء حلف شمال الأطلسي من التاريخ الأدلة على قصفهم في يوغوسلافيا السابقة في عامَي 1995 و1999 من خلال إلقاء المسؤولية الكاملة على الصرب"، متهماً الغرب بـ"رهاب الصرب".

وقال موقع بلقان سايت قبل يوم واحد من التصويت، إن الهدف من القرار المقترح من جانب مقدميه هو المساعدة على منع وقوع فظائع في المستقبل وإرساء الأساس للسلام الدائم في البوسنة والهرسك.

وبين الموقع أن التصويت يأتي في وقت تشهد فيه البلاد أزمة سياسية واجتماعية حادة، فضلاً عن الانقسامات العرقية المستمرة في فترة ما بعد الحرب، والتي تفاقمت جميعها بسبب الخطاب الانفصالي لزعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك.

وبدوره، أوضح ملادين بوبونيتش، أستاذ الاتصالات في مدينة بانيا لوكا البوسنية، أنه يعتقد أن "الضرر الذي لحق بالمجتمع البوسني" قد وقع بالفعل.

وقال بوبونيتش لـ BIRN: "بغض النظر عن نتيجة التصويت، فإن البلاد ستستمر بالذهاب نحو الاستقطاب والانقسام والتوتر".

ولفت إلى أنه لا يمكن النظر إلى البوسنة والهرسك كمثال منعزل في هذه الحالة. منذ ذلك الحين (الحرب)، أصبحنا دائمًا "نحن وهم" في كل مكان.

وبين أن ذلك انعكس على كتل الشرق والغرب التي تعارض وتؤيد قرار سربرنيتسا، في إشارة إلى الانقسام الدولي بشأن الأمر.

إسرائيل حاضرة

وعلى الطريقة الإسرائيلية في رفض قرارات محكمة العدل الدولية وقبلها طلب الجنائية الدولية قرارات اعتقال بحق قادة دولة الاحتلال الإسرائيلية، عارض الرئيس الصربي الشعبوي ألكسندر فوتشيتش وكذلك قيادة صرب البوسنة بشدة قرار سربرنيتسا.

زعموا أنه يصف جميع الصرب بأنهم "أمة تمارس الإبادة الجماعية" على الرغم من أن المشروع لا يذكر الصرب كمجرمين، بحسب وكالة "أسوشيتدبرس" الأميركية 24 مايو 2024.

وخرجت الصحف الموالية للحكومة الصربية، مثل إنفورمر، ونوفوستي، وبليك، وسربسكي تلغراف، وألو، بنبرة تحدي للمحكمة، وفق موقع "بلقان إنسايت" 23 مايو 2024.

الصفحة الأولى لصحيفة “إنفورمر” نشرت صورة للرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش ملفوفة بعلم بلاده مع عنوان: "الصرب ليسوا إبادة جماعية".

وظهر فوتشيتش متحسرا منهارا باكيا بعد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على تخصيص يوم عالمي لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية في سربرنيتسا.

وكان الرئيس الصربي قال: "لقد انحنيت بالفعل أمام الضحايا ووضعت زهرة في سربرنيتسا"، كي يبرر عدم الحاجة لهذا القرار الأممي الذي يجعل فضيحة الصرب سنوية يجري تذكير العالم بها كل عام.

وحاول جاهدا منع التصويت وسعى لإقناع الدول بذلك، لكن فشلت جميع مساعيه، لأنه لم يكن يريد أن يذكر العالم بلاده "كل عام" بصفتها الدولة التي ارتكبت إبادة ضد المسلمين في البوسنة.

وقال ميلوراد دوديك، الزعيم السياسي في كيان صرب البوسنة، حيث تظاهر آلاف الصرب منذ أبريل 2024 ضد القرار، إن الإبادة الجماعية في سربرينيتسا كانت "خدعة". 

ورد الاتحاد الأوروبي بقوة، حيث قال المتحدث باسم الشؤون الخارجية بيتر ستانو: "لا يمكن أن يكون هناك أي إنكار" و"أي شخص يحاول التشكيك في الأمر ليس له مكان في أوروبا". 

ووصفت صحيفة "نوفوستي" الصربية اعتماد القرار بأنه "هزيمة للغرب"، وأنه نص "يصم الصرب بالإبادة بصفة دائمة".

إذ يطالب القرار بإقامة أنشطة في يوم 11 يوليو من كل عام، من شأنها إحياء ذكرى الضحايا وزيادة الوعي.

واستغلت صحف "سربسكي تلغراف" و"كورير" عدم تصويت نسبة كبيرة من الدول على القرار لوصف النتيجة بأنها كانت "انتصارا أخلاقيا" لصربيا. 

وأوردت الصفحة الأولى لصحيفة "كورير" أسماء الدول التي وصفتها بأنها "صديقة حقيقية" لصربيا لمعارضتها القرار، ومنها بلدان عربية وإسلامية رفضت القرار أو وقفت على الحياد.

لذا قالت صحيفة بوليتيكا، اليومية المملوكة جزئياً للدولة، إن نصف العالم لم يصوت "ضد صربيا".

لكن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريتش وصف القرار بأنه مهم لأن "هذه المجزرة أسوأ جريمة على الأراضي الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية".

ويبدو القرار كأنه تكفير من العالم عن صمته على الجريمة، ففي عام 1993، أعلنت الأمم المتحدة أن سربرنيتسا تحت حمايتها واشترطت أن تكون المدينة منزوعة السلاح، وأجبرت المقاومة المسلمة على تسليم سلاحها.

لكن القوات الهولندية العاملة تحت قيادة الأمم المتحدة سمحت عام 1995 لقوات "العقارب" الصربية التي كانت جزءاً من وزارة الداخلية، بدخول المدينة وارتكاب مذبحة مروعة في سربرينيتشا على مرأى من هذه القوات الأممية.

وليست هذه هي المذبحة الوحيدة، فقد ارتكبت القوات الصربية العديد من المجازر بحق المسلمين، خلال حرب البوسنة التي بدأت عام 1992 وانتهت في 1995 بعد توقيع اتفاقية دايتون.

تداعيات محتملة

ومنذ إعلان البوسنة والهرسك استقلالها عن يوغوسلافيا في مارس/آذار 1992، وتمتعها بتعدد عرقي وطائفي يضم البوشناق المسلمين (48 بالمائة)، والصرب الأرثوذكس (37.1 بالمائة)، والكروات الكاثوليك (14.3 بالمائة)، وجمهورية صربيا تتحرش بها.

إذ يحاول الصرب داخل البوسنة تنفيذ محاولات تمرد للانفصال والانضمام إلى صربيا، كما تلجأ شرطة صربيا لاستفزازات عبر الحدود، وهو ما دعا الاتحاد الأوروبي لتسريع ضم سراييفو للكتلة.

ويسعى الاتحاد الأوروبي لضم دول البلقان بعد سلسلة الحروب السابقة بينها، وخاصة البوسنة وصربيا وكوسوفو لضمان عدم اندلاع الصراع مجددا والسيطرة عليه داخل الاتحاد.

وفي 22 مارس/آذار 2024، أعلن رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، أنه تقرر بدء مفاوضات انضمام البوسنة والهرسك إلى عضوية الاتحاد.

وقال ميشيل عبر حسابه على منصة إكس: "قرار اليوم خطوة مهمة إلى الأمام في طريقكم إلى الاتحاد الأوروبي".

وأضاف: "ينبغي أن يستمر العمل الحثيث لضمان تقدم البوسنة والهرسك كما يريد شعبكم".

وفي 15 فبراير/ شباط 2016، تقدمت البوسنة والهرسك بطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وحصلت على وضع دولة مرشحة في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2022.

وجاء تقدّم البوسنة نحو العضوية في إطار ضغط أوسع نطاقًا في الاتحاد، من أجل التوسع غرب البلقان، والتنافس مع الصين وروسيا على النفوذ في الدول المجاورة.

وعلى صعيد صربيا، فإن دعمها هذه الدولة للأقلية الصربية في البوسنة وإثارتها مشكلات عرقية مع كوسوفو، وكذا مساندتها الغزو الروسي لأوكرانيا، يقلق الأوروبيين.

وعام 2008، أعلنت كوسوفو بشكل أحادي استقلالها عن صربيا، لتعترف بها معظم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وتركيا، إلا أن صربيا لا تزال تعدها جزءا من أراضيها.

وتصاعدت حدة التوترات في مايو/ أيار 2023 في شمال كوسوفو، عقب الانتخابات البلدية في المناطق التي يهيمن عليها الصرب.

وهو ما دفع حلف الناتو إلى اتخاذ قرار بنشر 700 جندي إضافي في مهمة حفظ السلام في كوسوفو بعد إصابة 93 من جنوده.

وجرى إطلاق حوار أوروبي عام 2011 بين بلغراد وبريشتينا، يهدف إلى تطبيع العلاقات بين الجارتين في منطقة البلقان، وإيجاد حل مقبول للطرفين للنزاعات في إطار اتفاق ملزِم، لكن التوترات تتجدد بين حين وآخر دون حل جذري.

وهناك سبب آخر لتسريع الأوروبيين توسيع الاتحاد الأوروبي، هو الغزو الروسي لأوكرانيا إحدى الدول التي طالبت بالعضوية، ومنحها زعماء الكتلة هي ومولدوفا وضع "المرشح" في يونيو/حزيران 2022.

إذ إن "الحرب الروسية في أوكرانيا أعادت تنشيط رغبة الاتحاد الأوروبي توسيع نفسه في القارة حرصا على تجنب خسارة الدول أمام نفوذ موسكو"، بحسب موقع "بوليتيكو" 13 ديسمبر/كانون أول 2022.

وفي خطابه يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021 تعهد رئيس جمهورية صرب البوسنة ميلوراد دوديك، بتفكيك البوسنة والهرسك وتكوين جيش "جمهوري صربي".

وأبرز رغبته في الانفصال عن البوسنة والهرسك، ما دعا الرئيس رجب طيب أردوغان للقول إن تركيا تعد الحائل الأكبر أمام وقوع أحداث مؤسفة في سراييفو مجدداً كتلك التي شهدتها البلاد قبل اتفاقية دايتون المبرمة عام 1995.

ويتخوف محللون غربيون ودول أوروبية من أن يشعل قرار الأمم المتحدة الذي يطالب بوصم الصرب بالإبادة الجماعية للمسلمين وتذكير العالم بجرائمهم كل عام، غضب الصرب ويدفعهم نحو تصعيد دعوات الانفصال ورفع السلاح.