“ابن المستشار”.. لماذا أنشأ السيسي نيابة مرور خاصة بأعضاء الهيئات القضائية؟
"القرار عبارة عن امتياز ضمن حقيبة امتيازات واسعة أكبر وأخطر لأعضاء الهيئات القضائية"
من النماذج الصارخة على فساد منظومة القانون والعدالة في مصر أن سيارات الهيئات القضائية ممنوع الاقتراب منها أو معاملتها كسيارة مواطن عادي، ولطالما عدت تلك الخاصية "تمييزا يخالف الدستور".
وتنص "المادة 53" من الدستور المصري على أن " المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر".
كما تشدد على أن "التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون، وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على أشكال التمييز كافة، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض".
نيابة جديدة
وخلافا لذلك، أصدر وزير العدل المصري، المستشار عمر مروان، في 6 يونيو/ حزيران 2024 قرارا بإنشاء نيابة مرور جديدة باسم "نيابة مرور أعضاء الجهات والهيئات القضائية".
على أن يكون مقرها الرئيس، بمبنى هيئة النيابة الإدارية بالقاهرة الجديدة، الكائن في 17 شارع التسعين الشمالي دائرة قسم شرطة القاهرة الجديدة، بالعاصمة المصرية القاهرة.
وأضاف القرار المثير للجدل، أن النيابة سوف تختص بنظر قضايا المرور والقضايا المتعلقة بها بدائرة نيابة استئناف القاهرة، وتكون حصرا لخدمة أعضاء الجهات القضائية.
ولطالما تحدثت تقارير محلية وشهد قضاة مصريون بأن تلك الإجراءات ''تحصن الخروج عن القانون''، حيث يحظر على مأموري الضبط القضائي الاقتراب من أي سيارة لأعضاء الهيئات القضائية أو البرلمانية أو الدبلوماسية، حتى لو ارتكبت مخالفات مرورية، لأن المحضر "مآله إلى الحفظ".
استثناء وتمييز
وسبق أن نشر موقع "مصراوي" المحلي في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، تقريره عن معضلة تخصيص قوانين وعلامات مرورية خاصة متعلقة بسيارات أعضاء الهيئات القضائية.
وأورد أن "أعضاء الهيئات القضائية لا يدفعون أي غرامات أبدا وليس غرامات المرور فقط، دون وجود أي سند قانوني لذلك".
وأضاف أن "ذلك الأمر يُعد تمييزا لهم على حساب بقية المواطنين بالمخالفة لمواد الدستور، الذي ينص على ألا يكون لأي فئة في الدولة استثناء أو تمييز على حساب بقية الفئات".
واستشهد الموقع برأي المستشار "عماد أبو هاشم" رئيس محكمة المنصورة الابتدائية "سابقا" حيث قال إن "جميع المحاضر التي تقدم للنيابة العامة بشأن مخالفات المرور التي يرتكبها أعضاء الهيئات القضائية المختلفة تحفظ لعدم الأهمية".
وأتبع: "جرى العمل بالنسبة لمأموري الضبط القضائي على عدم اتخاذ إجراءات في المخالفات والجنح المعاقب عليها بالغرامة أو بالحبس والغرامة لكونها تحفظ لعدم الأهمية من قبل النيابة".
ابن المستشار
وتسببت تلك الإجراءات التمييزية في كثير من الحوادث التي أغضبت الرأي العام، وخلفت جدلا كبيرا.
منها ما كان في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، عندما تصدر هاشتاغ "ابن المستشار" مواقع التواصل الاجتماعي في مصر.
وقتها عمت موجة غضب واستياء حيال استغلال النفوذ الوظيفي بمصر، جراء انتشار مقطع مصور على منصات التواصل لواقعة اعتداء نجل قاض على شرطي جنوب القاهرة.
وتضمن المقطع المصور طفلا تبين أن عمره "13 عاما" يقود سيارة خاصة بسرعة برفقة أقرانه في حي المعادي، ويقوم بالاستهزاء والاعتداء على شرطي مرور حاول أن يستوقفه.
أظهر المقطع أيضا تحرك الطفل بسرعة، ما أدى إلى اختلال توازن الشرطي وسقوطه على الأرض، الأمر الذي أثار غضب واستياء المواطنين، الذين طالبوا بضرورة محاسبة الطفل وولي أمره، ووضع حد لتمييز أعضاء الهيئات القضائية.
لا سيما أن النيابة العامة قررت في ضوء أحكام قانون الطفل والتي ألزمت بعدم الحبس الاحتياطي للطفل الذي لم يتجاوز الـ15 عاما.
ثم تم تسليمه إلى ولي أمره، مع أخذ التعهد بالمحافظة عليه وحسن رعايته وإخضاعه للتأهيل وجلسات تعديل السلوك، فيما تبادر سؤال ماذا لو كان ابن المستشار ابن مواطن عادي من عامة الناس؟
ولم يتوقف الوضع عند تلك الحادثة، فبعدها بأيام تداولت وسائل إعلام محلية، مقطعا مصورا لطفل آخر في القاهرة يقود سيارة برفقة أقرانه، وهو يوجه حديثه لشرطي مرور باستهزاء قائلا: "خد (تعالى) يا ابني، واقف بتعمل إيه هنا (ماذا تفعل هنا؟)".
وقال أحد رفاق الصبي: "سيادة المستشار دا (هذا) في إشارة للطفل قائد السيارة".
لكن الواقعة الأفدح كانت في سوهاج بصعيد مصر في 19 سبتمبر/ أيلول 2019، عندما قام مستقل سيارة "هيئة قضائية" برفع مسدس في وجه "طفل" صور والده السيارة للإبلاغ عنها.
وتمثلت الواقعة في أنه اعترض رجل يركب سيارة تحمل لوحات هيئة قضائية على تصوير سيارته بدون نمر مرور قانونية.
وتطور الحدث عندما رفع مسدسه الشخصي ولجأ إلى إرهاب وتعنيف مواطن استقل دراجة بخارية هو وطفله لتصويره السيارة في الشارع، وتدخل المارة لتفريقهم.
رشا مقنعة
ولا يمكن فصل الامتيازات المطلقة التي يحصل عليها القضاة، عن الوضع السياسي القائم في الدولة عقب الانقلاب العسكري الذي قام به عبد الفتاح السيسي عام 2013.
خاصة أن الفترة التي تبعته إلى الآن في 2024، حملت إجراءات اقتصادية صعبة يعاني منها الشعب المصري.
مع انخفاض قيمة العملة المحلية أمام الدولار (بلغت قيمة الدولار الواحد نحو 47.72 جنيها مصريا) وارتفاع أسعار السلع، والخدمات الأساسية، ووصول التضخم إلى معدلات غير مسبوقة (معدل التضخم في مايو/ أيار 2024 وصل إلى 28.1٪).
لكن بقيت طبقات محددة تحافظ على امتيازاتها، ومن ضمنهم القضاة، الذين حرص السيسي- لضمان ولاء القسم الأكبر منهم- على منحهم صلاحيات واسعة، ومكافآت كبيرة.
كما حافظ على تخصيص ميزانيات غير مراقبة وغير مفصلة للجهات القضائية المختلفة، إلى جانب ميزانية وزارة العدل، والتي تفيض كل عام عن احتياجاتها الأساسية والإضافية.
فتكون الفرصة مواتية لمنح القضاة منحا وحوافز بمناسبة أو بدون، تحت مسميات مختلفة، كـ"حوافز الجهود غير العادية، وحوافز الإنجاز، ومِنح رمضان والعيدين".
وهو ما يضمن منزلة اجتماعية مميزة للقضاة الشباب، وزيادة مطردة في الأجور للقضاة الأكبر سنا.
رواتب وامتيازات خيالية
وفي 25 يونيو/حزيران 2015، قرر مجلس القضاء الأعلى زيادة رواتب أعضاء النيابة العامة، والقضاة بمختلف درجاتهم بنسبة 30 بالمئة.
وفي يوليو/ تموز 2018، أقر وزير المالية الدكتور محمد معيط، زيادة رواتب قضاة الاستئناف 5 آلاف جنيه تطبق بأثر رجعي.
وفي موازنة 2019-2020 تكشف مخصصات ديوان عام العدل بلوغ الرواتب مليار جنيه و850 مليونا (الدولار نحو 17 جنيها) و225 مليونا مخصصة للمنح والخدمات.
منها 200 مليون لدعم صندوق الرعاية الصحية والاجتماعية لأعضاء الهيئات القضائية، وهو الباب الواسع للعطايا الحكومية للقضاة.
كما وافقت لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية على زيادة 15% لجميع الهيئات والجهات القضائية.
وفي 22 ديسمبر/ كانون الأول 2022، صدرت وثيقة رسمية، من مجلس القضاء الأعلى تكشف اعتماد مكافآت مالية استثنائية وعلاوات مالية للقضاة وأعضاء النيابة العامة كافة، وذلك بالرغم من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي تمر بها البلاد.
وقتها تحدثت صحف محلية مصرية أن "قرار مجلس القضاء الأعلى حمل الموازنة العامة للدولة نحو نصف مليار جنيه (500 مليون جنيه)".
مع الأخذ في الحسبان أن متوسط ما حصل عليه كل عضو بالهيئة القضائية بلغ نحو 20 ألف جنيه (419 دولارا)، في ظل وجود نحو 25 ألف عضو ما بين مختلف التدرجات القضائية المختلفة.
طبقية مخيفة
وفي ضوء هذه البيانات، علق المحامي المصري "كريم اليعقوبي" على قرار إنشاء نيابة مرورية جديدة خاصة بأعضاء الهيئات القضائية بأنه "استمرار لسياسة التمييز والطبقية داخل الدولة".
وأضاف لـ"الاستقلال"، أنه "من المعروف أن القضاة وأعضاء النيابة يعدون أنفسهم فئة خاصة شديدة الاستحقاق، يجب ألا تعامل معاملة المواطن العادي ولا يمكن أن تكون وبقية المواطنين سواء في القانون أو الدرجة الاجتماعية".
وأتبع: "هل من المعقول نسيان ما قاله وزير العدل السابق محفوظ صابر، بأن (ابن الزبال) لا يمكن أن يصبح قاضيا، أو الزند (وزير العدل السابق أحمد الزند) وهو يتحدث عن مسيرة الزحف المقدس بتعيين أبناء القضاة والمستشارين كأعضاء في النيابة".
المحامي المصري لفت أيضا إلى أن “تأسيس نيابة مرور جديدة وإن كان قرارا مجحفا، لكنه امتياز ضمن حقيبة امتيازات واسعة أكبر وأخطر، خاصة أن الأمر لا يعدو أن يكون إجراء لتحديد وضع لا استحداث وضع جديد”.
ومضى اليعقوبي قائلا: "فأعضاء الهيئات القضائية يحصلون على امتيازات من زمن بعيد، ويخضعون لمعاملة خاصة في المرور، ولا تخضع سياراتهم للوقوف أو التفتيش أو الغرامات والجزاءات".
ومن تلك الحالة يذكر أنه في كتابه (القضاء بين الاستقلال والاحتواء) قال المستشار المصري الراحل طارق البشري "عندما تفقد النظم مشروعيتها تبحث عن ورقة توت تسترها عن طريق قرارات قضائية أو فنية".
المصادر
- وزير العدل يقرر إنشاء نيابة مرور جديدة لأعضاء الجهات والهيئات القضائية
- سيارات الهيئات القضائية ''ممنوع الاقتراب''.. وقضاة: تمييز يخالف الدستور
- "ابن المستشار" يفجّر الغضب بمصر من استغلال النفوذ
- مستقل سيارة “هيئة قضائية” يرفع مسدس فى وجه طفل صور والده السيارة للإبلاغ عنها
- خاص.. وثيقة «سرية» بصرف 500 مليون جنيه مكافآت استثنائية للقضاة
- تذمر يهدد التطويع.. هل تقوض الاحتياجات المالية هدوء السلطة القضائية بمصر؟