بعد انكشاف مسالخ الأسد بسوريا.. أحوال معتقلي مصر في سجون السيسي

داود علي | منذ ٤ أشهر

12

طباعة

مشاركة

فتحت الأهوال المتكشفة بعد سقوط نظام بشار الأسد، ملف السجون المصرية في عهد رئيس النظام عبد الفتاح السيسي.

ولطالما كانت تقارن مصر بأنظمة شمولية قمعية في المنطقة والعالم، على غرار سوريا التي كانت قابعة تحت حكم الديكتاتور المخلوع بشار الأسد، أو كوريا الشمالية المشمولة بالحكم الشيوعي لـ“كيم جونغ أون”. 

وبعد إسقاط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، تكشفت مشاهد صادمة وقاسية للسجون السورية مثل "صيدنايا" الذي ضم زنازين سرية وطوابق تحت الأرض.

لكن الأمر لم يتوقف عندها، فقد بدأ كثيرون بالحديث عن السجون المصرية وقالوا إنها ليست أحسن حالا من نظيرتها في سوريا.

وكتب الحقوقي المصري حسام بهجت، على "إكس": “بسقوط سجون الأسد تصبح مصر بلا منافس أكبر معتقل في المنطقة”.

وأضاف: "ارفعوا الظلم وافتحوا البوابات طوعا قبل أن تنفتح على مصراعيها قسرا في وجوهكم"، وفق تعبيره.

سجون بدر

ويعد مجمع “سجون بدر” أحد المعتقلات التي تشهد انتهاكات شديدة بحق المعارضين السياسيين، بحسب ما كشفت رسائل مسربة لهم على مدار الأعوام الماضية.

وأماطت تلك الرسائل اللثام عن وجه مختلف من الانتهاكات والألم يتعرضون له تحت وطأة نظام السيسي الذي وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري. 

وفي 20 يناير/ كانون الثاني 2023، نشرت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان، ومقرها لندن، مجموعة رسائل مكتوبة بخط اليد، قالت إنها مسربة من معتقلين داخل سجون بدر. 

المعتقلون وصفوا السجن بأنه "الأقسى على الإطلاق بين السجون المصرية" المعروفة بسمعتها السيئة وشدتها على نزلائها. 

وكان السيسي قد قدر في ديسمبر 2022 عدد المعتقلين في مصر بنحو 55 ألف سجين. لكن منظمات حقوقية منها العفو الدولية والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، قدرتهم المسجونين السياسيين فقط بقرابة 65 ألفا. 

وافتتح سجن "بدر" رسميا في 30 ديسمبر 2021، تحت مسمى "مجمع السجون المركزية الجديدة".

ويقع في منطقة "بدر" بالصحراء الشرقية قرب العاصمة الإدارية الجديدة، وعلى بعد 65 كلم شرق القاهرة، وأسس على مساحة 85 فدانا، ويضم 3 مراكز إصلاح وتأهيل.

وكان الدافع الرئيس للنظام لبناء السجن الجديد، هو استغلال موقع منطقة سجون "طرة" المطل على النيل في القاهرة في مشاريع استثمارية، لذلك نقل السجناء السياسيون إلى المجمعات الجديدة ومنها "بدر".

وذلك بعد أن جرى الإعلان عن إخلاء عدد من السجون الرئيسة كـ “العقرب وطرة” سيئة الصيت بالتزامن مع بدء تشغيل منشاَت بدر المماثلة، التي كان يرجى لها أن تكون أفضل حقوقيا وإنسانيا تجاه المعتقلين. 

خاصة أن الدعاية المصاحبة لافتتاحها جاءت ضمن حملة الجمهورية الجديدة، وأن السجون ستحتوي على نظم رعاية متطورة، خاصة في الجانب الغذائي والصحي.

حتى إن وزارة الداخلية المصرية أطلقت فيلما دعائيا بعنوان "بداية جديدة"، بمناسبة افتتاح السجن لتعلن عما وصفته بـ"الصرح المتكامل وفقا للمعايير الدولية".

في عداد الموتى

لكن الواقع جاء مخالفا لادعاءات النظام وأجهزته الأمنية، فمعظم سجناء "بدر" من قادة جماعة الإخوان المسلمين والمعارضة المصرية، ومنهم كبار السن، وكثير منهم كانوا من نزلاء سجن العقرب.  

وبحسب الشبكة المصرية لحقوق الإنسان، فإنهم “يعدون الآن في عداد الموتى”.

وتحت عنوان "احنا بنموت"، وصلت للمنظمة رسائل يدوية من داخل “سجن بدر 3”، تؤكد استمرار الانتهاكات الحقوقية المروعة داخل السجن. 

وتحدثت الرسالة الصادمة المرسلة في 18 يناير/ كانون الثاني 2023، مدى تردي الأوضاع الإنسانية، وسوء المعاملة، والرعاية الصحية، والتغذية.

وأشارت إلى أنه مع قدوم فصل الشتاء، ورفض سلطات السجون دخول الملابس الشتوية، تنتشر الأمراض المزمنة بين المعتقلين، ومنهم من مات بالفعل نتيجة تلك الحالة غير الآدمية. 

وألمحت إلى وجود اضطرابات واعتراضات من المعتقلين ضد انتهاكات الأمن الوطني، وإدارة السجن. 

وتطرقت الرسالة إلى تجريد المعتقلين المعترضين على الانتهاكات من الملابس والبطاطين في ظل البرد القارس، وإيداعهم زنازين التأديب بلا طعام إلا رغيفا واحدا يوميا، مع منع الدواء عنهم.

الأوضاع الصعبة داخل سجن "بدر" تشمل التعذيب النفسي المستمر، ففي 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، كشفت والدة البرلماني السابق والناشط السياسي زياد العليمي، عن شكوى نجلها من ممارسات لم تكن موجودة في السجون القديمة.

وتمثلت الشكوى بوجود كاميرات داخل زنازين السجن تصور المحبوسين على مدار اليوم. وذكرت أن "المعتقلين في (بدر) يتعرضون لإضاءة قوية 24 ساعة فلا يستطيعون النوم أو الراحة، ما يعرضهم في كثير من الأحيان لنوبات انهيار عصبي". 

وفي 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، سجل مركز “النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب” حالتي وفاة و17 حالة إهمال طبي متعمد داخل سجن "بدر".

وكان عبد المنعم أبو الفتوح المرشح السابق للانتخابات الرئاسية، ورئيس حزب "مصر القوية" قد وصف في 10 أكتوبر 2022، ظروف احتجازه داخل سجن بدر، قائلا: "الوضع قاتل".

ويحرم أبو الفتوح (71 عاما) من الرعاية الصحية، حيث تعرض لعدة نوبات قلبية أثناء فترة احتجازه، وكان على مشارف الموت بحسب شهادة نجله أحمد.

وفي 15 يوليو/تموز 2024، أكدت عدة منظمات حقوقية مصرية، منها "الديمقراطية الآن للعالم العربي"، أن والدة المعتقل بلال مطاوع، توفيت بعد يومين من إصابتها بأزمة تنفس، إثر محاولة نجلها الانتحار أثناء زيارتها له يوم 9 يوليو بسجن "بدر 1"، داخل قاعة الزيارة.

المنظمات أوضحت أن "هذا حدث عندما طلب المعتقل بلال مطاوع، الطالب في كلية الطب، والمشارك في إضراب سجن بدر 1، تسليم كتبه الدراسية لوالدته أثناء الزيارة بسبب المعاملة المهينة وغير الآدمية من إدارة السجن".

ولأن طلبه قوبل بالرفض دون إبداء أسباب، حاول المعتقل الانتحار داخل قاعة الزيارة، وفي وجود والدته التي شهدت الحادثة، ليتم نقله على إثر ذلك إلى المركز الطبي بالسجن، حيث أجريت له عملية إسعاف.

وأوضحت المنظمات أن "والدته أصيبت بأزمة تنفسية حادة، وتلقت إسعافات وعادت بعدها إلى منزلها، لكنها توفيت كمدا بعد يومين من الزيارة".

أساليب التعذيب

وفي 2 أبريل/ نيسان 2021، نشرت منصة "درج" الإعلامية المختصة بالصحافة الاستقصائية، تحقيقا عن أساليب التعذيب في سجون بدر، خاصة "بدر 3" التابع لسجن العقرب.

وذكرت شهادة منى شقيقة المعتقل المصري علاء عبد الفتاح، وقالت إنه "يستمع طوال الليل لأصوات تعذيب باستخدام الكهرباء، واستغاثات من السجناء".

ويعد التعذيب بالكهرباء في السجون المصرية من الوسائل الأكثر ترويعا للسجناء، ليس لمن يتعرضون لهذه الجريمة فقط، بل لمن يسمعون صرخات المستغيثين.

وتقول منى عبد الفتاح: "أصوات الاستغاثات كافية لبث الرعب والجزع في نفوس بقية السجناء، لدفعهم لمساحات من القلق والصراع النفسي عوضا عن اضطرابات النوم والهلع من تعرضهم عاجلا أو آجلا للصعق الكهربائي".

تحقيق "درج" كشف وقائع أخرى لأساليب مروعة من التعذيب، تبدأ بالتفتيش الذاتي المهين الذي يجبر السجناء والسجينات على التعري الكامل، والمنع من الاستحمام أو استخدام المياه الساخنة في الشتاء.

كذلك المنع من التريض والتعرض للشمس، ووقف الزيارات وإظلام الزنازين ليلا. وأورد أنه أحيانا تصل حالات التعذيب إلى إدخال أدوات صلبة في دبر المساجين.

وذلك مثلما حدث سابقا مع المسجون عصام عطا الذي قتل تحت التعذيب داخل سجن طرة بعدما أدخل السجان في دبره خرطوم مياه.

تنكيل بالنساء

التنكيل في سجون السيسي يشمل النساء أيضا، ففي 21 أبريل 2021، وثقت "الشبكة المصرية لحقوق الإنسان"، ما حدث بحق المعتقلة مروة عرفة، المدونة والمترجمة التي جرى احتجازها في سجن “القناطر للنساء” بسبب موقفها المعارض والمعلن ضد السيسي.

وأكدت الشبكة سلب إدارة السجن، أغراضها ومتعلقاتها من أدوات النظافة الشخصية، ومثلها جميع السجينات في العنبر ذاته.

وأضافت أنه جرى نقلها من عنبر 7 إلى عنبر 4 بملابس السجن مع بطانيات للغطاء فقط، وتركها تنام على البلاط في طقس شديد البرودة، ما أصابها بآلام العظام.

لكن الأبرز في قصة "عرفة" ما يتعلق بالظروف الصحية والنفسية المؤلمة لطفلتها الرضيعة، والتي تعاني مشاكل جسيمة منذ اعتقال والدتها، ومن بينها إصابتها بصدمة عصبية أثرت بالسلب على حركتها وفهمها.

ذلك الوضع تطلب خضوعها لجلسات علاج أسبوعية، فيما تقدمت أسرتها بشكاوى إلى الأمن الوطني للمطالبة بالإفراج عنها لرعاية ابنتها، دون صدى أو استجابة.

وتعد عائشة خيرت الشاطر، إحدى المعتقلات ضمن سجون السيسي، وكان لها خصوصية كونها ابنة أحد أشد خصوم النظام، ونائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين.

ولدى اعتقالها مطلع نوفمبر 2018، حطمت قوات الأمن أثاث المنزل وفتشته، ثم اقتادوا عائشة معصوبة العينين ومكبلة اليدين إلى مكان غير معلوم، قبل أن تظهر في "نيابة أمن الدولة".

وفي 7 أبريل 2021، أعلن المحامي عبدالمنعم عبدالمقصود، الموكل بالدفاع عنها، أنها "تحتاج لعملية زرع نخاع إذ تعاني من فقر الدم، ما أدى إلى تدهور وضعها الصحي بسرعة".

وقال إنها "تعرضت لنزيف حاد، نقلت على إثره إلى مستشفى القصر العيني لمعالجتها بالصفائح الدموية".

عائشة، نفسها قالت عبر رسالة مسربة: "أنا كأم أصاب بالجنون عندما أرى أولادي من بعيد ولا أستطيع ضمهم ولا الاطمئنان عليهم، أنا مريضة ووضعي سيئ بالسجن، وصفائح الدم لدي تقل ومحتاجة عملية زرع نخاع". 

وفي عام 2021، كشف محامي الصحفية المعتقلة سولافة مجدي (أفرج عنها لاحقا) عن تعرضها لتفتيش تسبب لها بنزيف في الرحم.

وفي نفس العام أعلن خالد علي، محامي الناشطة السياسية إسراء عبد الفتاح، التي اعتقلت في توقيت مقارب لاعتقال سولافة، أنها علقت من ذراعيها لمدة 8 ساعات كاملة، ما أصابها بكدمات خطيرة وتجمعات دموية في ذراعيها.

كتاب أسود

وتاريخيا تعرف مصر بسجونها المروعة تحديدا منذ زمن رئيس النظام الأسبق جمال عبد الناصر خلال حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

ووقتها برز بقوة السجن الحربي سيئ السمعة، حتى إن الشيخ الراحل يوسف القرضاوي، ذكره في "نونيته" المشهورة عن سنوات اعتقاله عام 1955، عندما قال: "في ساحة الحربي حسبك باسمه.. من باعث للرعب قد طرحوني". 

وبعد سنوات تغيرت المسميات وظلت مدارس التعذيب تتطور، فمن السجن الحربي إلى العقرب، وحاليا في زمن السيسي يتصدر سجن "بدر" قائمة الأقبية المميتة سيئة السمعة. 

وفي 5 نوفمبر 2023، أعلنت منظمة "نحن نسجل" الحقوقية تعرض سجناء "بدر" لحملة ممنهجة من التعذيب النفسي والبدني، بعد مطالباتهم بزيادة كمية الطعام وأغطية الشتاء.

واستخدم حراس السجن والضباط الصعق بالكهرباء مع الماء، والغاز المسيل للدموع، وتسجيلات الأصوات المرتفعة، والحرمان من النوم كأساليب تعذيب.

حتى إن منظمة "الشهاب" لحقوق الإنسان ذكرت في تقرير لها 2 ديسمبر 2022، أن الذي ينجو من سجن "بدر" يحتاج إلى إعادة تأهيل نفسي وبدني خاص، حتى يستطيع تجاوز محنته. 

في حديثه لـ"الاستقلال"، يصف الحقوقي المصري سامي فؤاد، سجون النظام بأنها "كتاب أسود" لحكم عبد الفتاح السيسي. 

وقال: "إن سير المعتقلين الذين تعرضوا للتعذيب أو ماتوا أو مروا بتلك التجربة كفيلة لترسم بوضوح ملامح ذلك العهد، تماما كما حدث في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، خلال حكم عبد الناصر". 

وأوضح الحقوقي المصري: “المختلف حاليا أن هناك وسائل إعلام حديثة ومنصات تواصل اجتماعي، ومنظمات حقوقية، كلها توثق بشكل كامل ودقيق تلك المرحلة، لدرجة أن هناك تقريبا ملفا وقصة لكل معتقل وتسجيلات لمن ماتوا تحت التعذيب أو أعدموا ظلما على خلفية سياسية”.

وتطرق فؤاد إلى أهمية التوثيق، قائلا إنه يأتي في مرحلة ما يتم فيها دفع الثمن قانونيا وعاجلا أو آجلا.

ورأى أنه في يوم من الأيام “سيتم محاكمة رؤوس النظام وسدنة التعذيب حتى وهم في قبورهم، كما حدث في ثورات أميركا اللاتينية وفي الثورة الفرنسية”.

وهو أمر حدث أخيرا، حيث أحرق مقاتلون من فصائل معارضة ضريح رئيس النظام السوري الأسبق حافظ الأسد في مسقط رأسه بالقرداحة في محافظة اللاذقية، بعد أيام على سقوط ابنه بشار الذي خلفه في الحكم.

واختتم سامي بالقول: "كذلك كما حدث (من محاكمات) في تركيا وغيرها من الدول التي تحررت وتجاوزت قبضة الأنظمة الشمولية، وهو ما سنراه الآن في سوريا المحررة، وسنشاهده غدا في مصر".