لماذا أسقط شعب جنوب إفريقيا حزب مانديلا الذي حررهم من الفصل العنصري؟

12

طباعة

مشاركة

في تحول غير مسبوق، اختار ناخبو جنوب إفريقيا، وغالبيتهم من السود الذين تحرروا من نظام الفصل العنصري الذي انتهى عام 1991، إسقاط الحزب الذي حررهم من "الأبارتهايد"، الذي جعل البيض يستعبدون السود.

نتائج انتخابات جنوب إفريقيا التي جرت في 29 مايو/أيار 2024، وأعلنت نتائجها مطلع يونيو/ حزيران 2024، أظهرت انهيار هيمنة “حزب المؤتمر الوطني الإفريقي” (حزب نيلسون مانديلا) التي استمرت 3 عقود منذ عام 1994.

الشعب الغاضب من البطالة وعدم المساواة ونقص الكهرباء، عاقب الحزب الحاكم منذ نهاية النظام العنصري واختاره 40 بالمئة فقط فيما رفضه 60 بالمئة منهم.

وكان حزب المؤتمر الوطني الإفريقي قد فاز بحوالي 70 بالمئة من الأصوات في انتخابات 2004، كما حصد في آخر انتخابات عام 2019 نسبة 57.5 بالمئة.

الجنوب إفريقيون الذين يعانون منذ سنوات من أزمة طاقة حادة، وقيام الحكومة بقطع الكهرباء عنهم –على الطريقة المصرية- لمعالجة أزمة نقض الكهرباء، بـ"تخفيف الأحمال"، لم يشفع لهم تاريخ الحزب المناضل ضد العنصرية فعاقبوه بعدما تفاقمت مشاكلهم الاقتصادية.

وفي الوضع الراهن، البلاد أمام أزمات سياسية واقتصادية، ما بين احتمالات استقالة رئيسها زعيم الحزب الوطني التاريخي للسود، أو تشكيل ائتلاف يضم حزب البيض الشهير (التحالف الديمقراطي)، ليصعد البيض للحكم مجددا، ولكن مع السود هذه المرة.

 أسوأ نتيجة

مع ظهور النتائج وحصول حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على 40 بالمئة فقط من الأصوات، وهي أسوأ نتيجة له ​​على الإطلاق منذ بدء الانتخابات الديمقراطية بعد نهاية الفصل العنصري في عام 1994، أصبح دون أغلبية في البرلمان.

ورغم أن النتيجة وهي التراجع كانت متوقعة، لأنه على مدى الدورات الانتخابية الأربع الماضية، انخفضت حصة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي من الأصوات تدريجيا، إلا أن هذه أول مرة لا تتجاوز أصواته النسبة التي تؤهله للحكم منفردا.

ويتوقع محللون أن يؤدي ذلك، إلى اضطرار زعيم الحزب ورئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا إلى التنحي، وترشيح سياسي آخر بارز مثل بول ماشاتيل أو جويدي مانتاشي، المسؤول حاليا عن وزارة المناجم والطاقة، لمنصب رئيس الوزراء. 

ويواجه رامافوزا، الذي يقود الحزب، تهديدا خطيرا لطموحه بتولي فترة ولاية ثانية، حيث سيضطر إلى البحث عن حلفاء.

ومن المتوقع أن يلقي المنتقدون باللوم في هذا التعثر على رامافوزا، كما قد يحاولون استبداله، ربما بنائبه بول ماشاتيل، حسب صحيفة "نيويورك تايمز" في 2 يونيو 2024.

لكن الحزب سيضطر سواء برئيسه القديم أو الجديد للتحالف مع حزب معارض لإكمال أغلبيته وتشكيل حكومة.

وألمح رئيسه لهذا بدعوته الأحزاب السياسية في 3 يونيو 2024، إلى العمل معا من أجل مصلحة البلاد، وذلك بعد أن أظهرت النتائج النهائية خسارة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي للأغلبية للمرة الأولى.

وسيضطر الحزب الحاكم إلى تكوين حكومة في غضون أسبوعين بالتعاون مع حزب أو أكثر من الأحزاب المنافسة التي انتقدها بأنها فاسدة وأقسمت عدم التحالف معه.

وهو ما يعني أنه سيكون هناك ثمن للصفقة مع أي حزب، وهو تقدم تنازلات سياسية كبيرة من قبل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، فضلا عن عرض بعض المناصب الحكومية العليا لشريكهم.

ويرى فريق آخر من المحللين أن السيناريو الأكثر ترجيحا هو أن يستمر رامافوزا لفترة، ويتوسط لتشكيل اتفاق ائتلاف مع حزب آخر في محاولة للحصول على أغلبية برلمانية، ثم تسليم السلطة إلى خليفته. 

ويقول محللون إنه من الصعب تصور ترتيب مستقر في ظل هذا السيناريو، وقد تواجه جنوب إفريقيا فترة من التقلبات الحكومية غير المسبوقة.

ويفضل المستثمرون ومجتمع الأعمال التوصل إلى اتفاق مع حزب "التحالف الديمقراطي"، حزب البيض، الذي حصل على 23 بالمئة من الأصوات، بصفته أكثر ملاءمة للسوق.

ومع ذلك، يعتقد العديد من المحللين أن الانقسام الأيديولوجي بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب المعارضة الرئيس "واسع للغاية" بحيث يجعل مثل هذه الصفقة صعبة، إن لم تكن مستحيلة.

وينص الدستور على أن الجمعية الوطنية الجديدة (البرلمان) يجب أن تنعقد في غضون 14 يوما من إعلان نتائج الانتخابات، أي منتصف يونيو تقريبا، لانتخاب رئيس جديد، لذا يجب حسم الأمور سريعا.

ويشير "الانخفاض الصادم" في نسبة التأييد لأقدم حركة تحرر في إفريقيا، وفق "نيويورك تايمز" في 2 يونيو 2024، إلى اتجاه واحدة من أكثر البلدان استقرارا في القارة الإفريقية، وأكبر اقتصاد فيها، نحو "مسار غير مستقر وغير واضح".

ودون الأغلبية المطلقة، لم يعد بإمكان حزب المؤتمر الوطني الإفريقي أن يختار رئيسا للبلاد، الذي يتم انتخابه من قبل الجمعية الوطنية المكونة من 400 عضو.

ويقلب هذا "المأزق" المشهد السياسي رأسا على عقب، ويضع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي عند نقطة انعطاف، تشير إلى أن "الأحزاب الصغيرة لن تساعد حزب المؤتمر في الحفاظ على هيمنته، وسيتعين عليه التعاون مع بعض الأحزاب الكبرى التي لطالما تبادل معها الانتقادات خلال الحملة الانتخابية"، وفق "نيويورك تايمز".

دلالات الهزيمة

هذه الهزيمة الانتخابية وعدم تمكن الحزب الحاكم من الحصول على غالبية الأصوات لتشكيل حكومة بمفرده كما يفعل منذ عام 1994، تعني أنه سيكون مضطرا لمشاركة السلطة مع أحزاب معارضة من أجل البقاء في الحكم.

وأشارت النتائج إلى أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي حصل على 159 مقعدا من أصل 400 في الجمعية الوطنية (البرلمان)، ليفقد بذلك الأغلبية البرلمانية للمرة الأولى منذ عام 1994.

ويواجه رامافوزا، الزعيم النقابي السابق الذي تحول إلى رجل أعمال وزعيم سياسي، دعوات للاستقالة من منتقدين في حزبه المنقسم بشدة وأحزاب المعارضة، والمشكلة أنه لا يوجد خليفة واضح له، ما يزيد الأمور غموضا، وفق محللين.

تآكل سلطة رامافوزا بفعل الهزيمة في الانتخابات، والذي تولى منصبه رئيسا عام 2018 واعدا بالتجديد والحكم الرشيد بعد قضية الكسب غير المشروع في عهد سلفه جاكوب زوما، تعني سن خصومه السكاكين له.

وهناك بالفعل حديث عن ثورة في القصر من قبل خصومه في الحزب، وإذا تم طرده فمن المرجح أن يحل محله نائبه بول ماشاتيل، الذي يخضع للتحقيق من قبل الشرطة بتهمة الفساد (نفى ارتكاب أي مخالفات).

وفي كل الأحوال ستؤدي هذه الضربة الانتخابية للحزب، لتقديم تنازلات سياسية أو التنازل عن مناصب وزارية بارزة، وربما دخول جنوب إفريقيا مرحلة عدم استقرار.

ويعتبر "جون ستينهاوزن" البالغ من العمر 48 عاما والذي يتزعم حزب "التحالف الديمقراطي" ويقوده البيض، الذين كانوا يحكمون جنوب إفريقيا في الماضي، هو المرشح الأبرز للتحالف مع حزب مانديلا. 

فهذا الحزب هو الثاني في نسب الأصوات حيث حصد 22 بالمئة وهي النسبة التي يحصل عليها منذ عام 1994، لذا ينظر له على أنه سيكون "صانع الملوك" أي المتحكم في تشكيل الحكومة المقبلة.

التحالف الديمقراطي (المؤيد لقطاع الأعمال بقيادة البيض)، وهو حزب المعارضة الرئيس، والذي نال بذلك 87 مقعدا في البرلمان، ربما يتوقع حزب المؤتمر الوطني منه أن يكون هو غطاءه ليشكل حكومة ائتلافية.

ولأن هذا الحزب يدعم الحرية الاقتصادية والأعمال الحرة، يفضله المستثمرون ومجتمع الأعمال ليكون شريك حزب المؤتمر في الحكومة المقبلة.

لكن العديد من المحللين يرون أن الانقسام الأيديولوجي بين حزبي المؤتمر الوطني الإفريقي والمعارضة الرئيس (التحالف الديمقراطي) واسع للغاية بما قد يجعل مثل هذه الصفقات صعبة، إن لم تكن مستحيلة.

وقد يختار الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني الإفريقي)، حزبا آخر هو “رمح الأمة” أو "مكونتو وي سيزوي" (MK)، بقيادة الرئيس السابق جاكوب زوما أو حزب “المناضلون الماركسيون من أجل الحرية الاقتصادية”  بقيادة يوليوس ماليما.

ففي أول معركة انتخابية له، فجر حزب "رمح الأمة" الذي ينتمي إليه الرئيس السابق، جاكوب زوما، مفاجأة في الانتخابات بحصوله على 14.6 بالمئة من الأصوات، وفوزه بـ58 مقعدا بالبرلمان. 

وتأسس الحزب عام  2023 على يد زوما، الذي قاد البلاد في الفترة بين 2009 و2018، قبل أن تعزله حكومة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، بسبب اتهامات بالفساد.

وحصل الحزب على اسمه من تنظيم "رمح الأمة" الذي كان يمثل سابقا الجناح المسلح لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، في الكفاح ضد نظام الفصل العنصري الذي حكم البلاد بين 1948 و1994.

ومن المرجح أن يكون ثمن الصفقة مع هذين الحزبين تنازلات سياسية كبيرة من قبل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، فضلا عن عرض بعض المناصب الحكومية العليا لشريكهم.

صانع الملوك

يتعين على الأحزاب السياسية التوصل إلى اتفاق في غضون أسبوعين قبل انعقاد البرلمان الجديد لاختيار رئيس، والذي سيكون من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على الأرجح، نظراً لأن الحزب لا يزال يمثل القوة الأكبر.

وبحسب مجلة "إيكونوميست" البريطانية مطلع يونيو 2024 وبما أنه لن يتمكن من تشكيل حكومة بمفرده، فسيتعين على "الرئيس للبقاء في السلطة أن يدخل في ائتلاف مع حزب معارضة كبير".

والتوقعات تقول إن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، سيختار حزب رمح الأمة، أو حزب "المناضلين الماركسيين من أجل الحرية الاقتصادية" ليتحالف معهما وتشكيل أغلبية.

لكن حزب المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية، الذي حصل على 10 بالمئة، اشتراكي راديكالي يسعى إلى الاستيلاء على الأراضي الزراعية وإعادة توزيعها وتأميم المناجم والبنوك وغيرها من الشركات الكبرى دون تعويض، ما يتعارض مع توجهات حزب مانديلا.

أيضا الحزب الجديد بقيادة زوما، يريد إلغاء النظام القضائي "الغربي" الذي حبسه بتهمة ازدراء المحكمة، وتأميم البنوك والشركات.

وكذلك إعادة كتابة الدستور لإعطاء المزيد من السلطات للزعماء الإقطاعيين، ما يشير إلى “حالة فوضى” قد يجلبها دخول أي من الحزبين لائتلاف حكومي.

بالمقابل، يطالب حزب البيض (التحالف الديمقراطي) بالاقتصاد الليبرالي، ويتمتع بسجل حافل في الحكم الجيد في الأماكن التي يتمتع فيها بالأغلبية، مثل تحسن الخدمات إلى حد كبير في كيب تاون، حيث يحكم هذا الحزب محليا، وتتم صيانة الطرق وحماية السكان من أسوأ حالات انقطاع التيار الكهربائي المنتظم المفروضة على بقية أنحاء البلاد. 

أيضا تعاني مقاطعة كيب الغربية من معدل بطالة أقل من المقاطعات التي يسيطر عليها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وفق مجلة "إيكونوميست".

ومع ذلك، ولأنه يُنظر إلى حزب التحالف الديمقراطي على نطاق واسع على أنه حزب "أبيض" في بلد ذي أغلبية سوداء، فقد تواجه أفكاره تعارضا مع الحزب الحاكم ولكن بصورة أقل من باقي الأحزاب.

وأشار زعيم حزب المؤتمر الديمقراطي، ستينهاوزن، في وقت سابق إلى أنه "سيكون منفتحا على الدخول في ائتلاف مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي".

أيضا الرئيس رامافوزا وحلفاؤه على استعداد لإبرام مثل هذه الصفقة مع حزب البيض.

 وقد نجحت المحادثات غير الرسمية في التغلب على بعض العقبات المحتملة، بما في ذلك الاختلافات في السياسة الخارجية وأشار التحالف الديمقراطي، الذي انتقد حكومة رامافوزا لرفضها إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى أنه قد يتوصل لتسوية بشأن هذه القضية.

لذا يتوقع محللون تشكيل ما يسمى "ائتلاف العقلاء" رغم أن رامافوزا قد يواجه اتهامات من حزبه بالخيانة لو تحالف مع حزب البيض. 

ويخاطر "ستينهاوزن" بتشويه سمعة الحزب الديمقراطي فيما يتعلق بالحكم الرشيد من خلال ربطه بحزب أصبح مرادفا للفساد وفق أنصاره، ومع ذلك، فإن العديد من هذه المخاطر يمكن إدارتها وفق رؤية الحزبين.

ويرى محللون أن هناك حلا ثالثا لمعضلة الحكومة في حالة عدم رغبة حزب البيض المشاركة في الحكم، هو أن يعمل كمعارضة ومحاسبة الحكومة، دون أن يشارك بمقاعد في مجلس الوزراء. 

وبدلا من ذلك، يقدم دعمه في التصويت البرلماني اللازم لانتخاب رامافوزا رئيسا مقابل تنازلات أخرى، مثل انتخاب أحد أعضاء حزب المؤتمر الديمقراطي رئيسا للبرلمان، وترتيبات بشأن التشريعات.

لكن المشكلة أنه لن يكون من السهل الحفاظ على هذا التحالف، وقد يؤدي تشكيله إلى فقدان كل من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والتحالف الديمقراطي دعم جناحيهما الأكثر تطرفا. 

كما أن التوصل إلى اتفاق بشأن السياسات والأجندة التشريعية سيتطلب تنازلات ضخمة، لكن عدم تعاونها قد يدخل جنوب إفريقيا طريقا غامضا ضبابيا مستقلا.

ويرى موقع "ذا كونفرزيشن" مطلع يونيو/حزيران 2024 أن مشكلة ضم الحزب الأول لـ"التحالف الديمقراطي" معه في ائتلاف حكومي قد يترتب عليها تقديم تنازلات في قضيتين خارجيتين حيويتين هما عدوان إسرائيل على غزة، وروسيا على أوكرانيا.

فالقضيتان اللتان من المرجح أن تكونا نقطة شائكة بالنسبة للتحالف الديمقراطي هما موقف حكومة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي تجاه إسرائيل وعلاقتها مع روسيا.

ففي بيانه الانتخابي، حدد التحالف الديمقراطي سبع أولويات كلها قضايا داخلية، ومع ذلك فإن التصريحات التي يدلي بها زعماء الحزب والبرلمانيون تشير إلى أنه مؤيد لإسرائيل ضد غزة ولأوكرانيا ضد روسيا.

وقد رفض زعيم التحالف الديمقراطي ستينهاوزن وصف سلوك إسرائيل في عدوانها على غزة بأنه عمل من أعمال الإبادة الجماعية، وذلك عكس موقف حزب المؤتمر الإفريقي الذي دعم غزة وكان أول دولة تقاضي إسرائيل أمام العدل الدولية بسبب هذه الإبادة.