التجربة السريلانكية.. لماذا قد يعجز الرئيس اليساري الجديد عن الإصلاح؟
"استكمال برنامج الإصلاح الاقتصادي يعني استعداء الشرائح الاجتماعية الداعمة للرئيس الجديد"
بعد جولة ثانية تاريخية صعبة، فاز السياسي اليساري أنورا كومارا ديساناياكي في الانتخابات الرئاسية السريلانكية في 22 سبتمبر/ أيلول 2024.
وأعلن ديساناياكي بعد فوزه مباشرة أنه يعد الناخبين بـ"الحكم الرشيد واتخاذ إجراءات صارمة لمكافحة الفساد".
والانتخابات التي جرت هي الأولى منذ أن أطاحت الاحتجاجات الجماهيرية بزعيم البلاد غوتابايا راجاباكسا عام 2022 بعد أن عانت سريلانكا من أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها.
اقتصاد منهار
وفي فترة راجاباكسا (2019-2022)، أصبحت الحكومة غير قادرة على دفع ثمن واردات المواد الأساسية، بسبب شح الدولار، بما في ذلك الوقود والأدوية وغاز الطهي.
ثم أعلن رئيس وزرائها رانيل ويكريمسينغه عدم قدرة بلاده على دفع مستحقات واردات البترول، وقال أمام البرلمان إن "اقتصاد سريلانكا انهار بالكامل".
وكان السبب الرئيس في الأزمة الديون المتراكمة، التي تسبب فيها نظام الرئيس راجاباكسا، الذي استدان لعمل مشروعات ضخمة تحديدا في قطاع السياحة.
بعدها تخلفت سريلانكا عن سداد ديونها الخارجية البالغة 51 مليار دولار، بحسب تقرير البنك الدولي للعام 2021/ 2022.
وأدى الأمر إلى احتجاجات في الشوارع، ووصل المتظاهرون إلى القصر الجمهوري وحاصروه واقتحموه، بينما تم ربط بعض المسؤولين وعناصر الشرطة في أعمدة الإنارة على جنبات طرق العاصمة كولمبو.
وفي النهاية، تمت الإطاحة بالرئيس راجاباكسا الذي فر من البلاد إلى جزر المالديف، وترك الشعب يواجه أزمة ديون هائلة لصندوق النقد الدولي، غير الديون الأخرى للصين واليابان والهند.
ذلك الإرث الصعب هو ما سيواجه الرئيس الجديد ديساناياكي، ذا الميول اليسارية، فكيف سيتعامل معه؟ وما العقبات التي تواجهه؟ وهل يستطيع أن يتجاوز تلك التحديات؟
وديساناياكي، سياسي ماركسي معروف بأفكاره اليسارية القوية، يبلغ من العمر 55 عاما، وكان في طليعة المشاركين في الاحتجاجات التي أطاحت بنظام راجاباسكا.
وخلال حملته الانتخابية تعهد بمكافحة الفساد وعدم الشفافية، وإحداث تغيير هيكلي كامل في الدولة اقتصاديا وسياسيا.
كذلك ديساناياكي هو مرشح تحالف "قوى الشعب الوطني"، الذي يضم حزبه الماركسي "جاناتا فيموكثي بيريمونا"، وهو حزب يدعم تدخل الدولة في الاقتصاد، وخفض الضرائب على المواطنين، واتخاذ سياسات حمائية للسلع والمنتجات المحلية.
وأعلن الرئيس الجديد أنه سيحمي ضحايا الإجراءات التقشفية، وهم عامة الشعب الذي يصل قوامه إلى 22 مليون مواطن.
معضلة التقشف
ولا شك أن الإجراءات التقشفية هي أخطر تحد يواجه ديساناياكي، وبسبب تعهداته بالحد منها، استطاع أن يحسم الانتخابات الرئاسية.
فمنذ بداية العام 2024، بدأت سريلانكا تطبيق إجراءات تقشفية قاسية، من بينها رفع أسعار الكهرباء والوقود بنسبة 65 بالمئة، وتجميد التوظيف في الحكومة لتقليص جهاز الخدمة العامة، وفرض ضرائب جديدة، مع بيع شركات القطاع العام.
الأصعب أن حكومة سريلانكا التي سبقت الرئيس، فرضت تلك الإجراءات على المؤسسة العسكرية.
ففي 13 يناير/ كانون الثاني 2024، أعلنت خططا لخفض قوام الجيش من 317 ألف جندي إلى 135 ألف جندي فقط، بحلول العام 2025، وذلك لتقليل النفقات.
وكانت هذه أول مرة تضرب فيها الأزمة العصب الصلب للسلطة، وهو الجيش الذي كان لا يمكن مسه من قبل الأنظمة السابقة.
وكانت الحكومات المتعاقبة تخصص له الجزء الأكبر من الموازنة العامة مقارنة بالقطاعات الحيوية الأخرى كافة، وذلك للحفاظ على ولاء الضباط والرتب الرفيعة في المؤسسة العسكرية، وضمانة عدم انقلابهم أو دخولهم في صدام مع رأس الدولة.
معضلة النقد
ومع ذلك، فإن وقف التقشف من قبل ديساناياكي وتجاوز تلك المعضلة أمر يكاد يكون مستحيلا للجزيرة الواقعة في المحيط الهندي.
السبب الرئيس أن سريلانكا قامت بتوقيع ما يعرف بـ"خطة الإنقاذ" مع صندوق النقد الدولي عام 2023، والبالغة 2.9 مليار دولار بعد مفاوضات طويلة وصعبة.
خطة الإنقاذ هذه تركت ملايين السريلانكيين يكافحون من أجل العيش، وأكد البنك الدولي في تقريره للعام 2024، أن بداية التعافي في سريلانكا أدت إلى زيادة نسبة الفقر، الذي بات يطال حاليا أكثر من ربع السكان.
وخلال الانتخابات عبر الناخبون في العاصمة كولومبو وضواحيها، عن استيائهم وتعبهم من القيود المستمرة.
ورغم ذلك، أعلن ديساناياكي أنه لن "يمزق خطة الإنقاذ الموقعة مع صندوق النقد الدولي"، لكنه وعد بالتفاوض لأجل تعديلها، ووعد بتخفيض الضرائب والرسوم على المنتجات الغذائية والأدوية لتأثيرها على السكان.
وقبيل الانتخابات الرئاسية، أعلن صندوق النقد الدولي أن الإصلاحات التي أقرتها حكومة ويكريمسينغه (السابقة) بدأت تؤتي ثمارها، مع عودة النمو ببطء، وأنه غير مستعد لإجراء أي تعديل على خطة الإنقاذ.
وتعد أزمة الديون الثنائية من العقبات الكبرى الأخرى التي تواجه الرئيس الجديد ديساناياكي.
فقبل إعلان فوزه بأشهر تحديدا في 27 يونيو 2024، أعلنت سريلانكا التي تعاني نقصا في إبرام اتفاق لإعادة هيكلة ديون بقيمة 5.8 مليارات دولار مع معظم المقرضين الثنائيين.
وجاء في بيان الحكومة أن "سريلانكا توصلت إلى اتفاق نهائي لإعادة هيكلة ديونها مع لجنة الدائنين في فرنسا".
وضمت اللجنة التي تتخذ من باريس مقرا لها فرنسا والهند واليابان، إلا أن الصين، أكبر مقرض ثنائي للبلاد، ليست عضوا فيها.
ويمثل الدائنون الثنائيون 28.5 بالمئة من دين سريلانكا الخارجي البالغ 37 مليار دولار، وفق بيانات للخزانة السريلانكية يعود تاريخها إلى أواخر مارس/ آذار 2024.
وتسهم الصين في 4.66 مليارات دولار، واليابان في 2.53 مليار دولار والهند في 1.36 مليار دولار، وبقية المبلغ موزعة على بلدان أخرى.
وتعد إعادة هيكلة الديون من شروط صندوق النقد الدولي لتقديم وإمضاء خطة إنقاذ سريلانكا كما ينبغي.
أزمة ديساناياكي
بخلاف المعضلات السابقة، فالأزمة الحقيقية التي تواجه ديساناياكي أنه قادم بخلفيته اليسارية للدفاع عن ضحايا التقشف والفئات المهمشة والمعدمة.
وسيكون أمام مهمة صعبة، فإذا أكمل برنامج الإصلاح الاقتصادي سيقوم باستعداء الشرائح الاجتماعية الداعمة له، خاصة أن شروط صندوق النقد “قاسية جدا” على الشعب، وغير قابلة للتفاوض أو التنازل.
وهذا معناه تخلي الرئيس الجديد عن كل ما وعد به السريلانكيين خلال حملته الانتخابية، التي شدد فيها على تخفيف الشروط والتفاوض.
وشروط خطة صندوق النقد في سريلانكا، تعني مزيدا من تقليل نفقات التعليم والصحة ومزيدا من تراجع مستويات المعيشة ومعدلات البطالة.
فإذا استمر ديساناياكي على الخطة، سيتسبب في خيبة أمل واسعة وربما بتفكك التحالف السياسي، مع تنامي الشعور الشعبي بالغضب.
من الناحية الأخرى، إذا توقف عن المضي في برنامج الإصلاح الاقتصادي سيدخل في أزمة تمويل حادة، وستمنع بلاده من مصادرها المالية الأساسية.
وهذا معناه معركة سياسية على جانب آخر مع رجال الصناعة والأعمال في الداخل ومؤسسات التمويل الدولية في الخارج، وكلا الخيارين بالنسبة للرئيس الجديد مر، ويكاد يكون مستحيلا.
ووصف الباحث الاقتصادي المصري أحمد يوسف، التجربة السريلانكية الاقتصادية والسياسية بـ"المؤلمة" التي يجب التعلم منها.
وقال يوسف لـ"الاستقلال" إن "مواجهة الديون الثنائية والأجندة شديدة القسوة لصندوق النقد مهمة مستحيلة على الدول والحكومات التي تورط شعوبها في كارثة الديون".
وتابع: "لن يقبل السريلانكيون المعدمون فرض برنامج تقشفي جديد من قبل رئيسهم الذي انتخبوه، ولو حاول سيكون في مواجهة ثورة جديدة واحتمالات اندلاع موجة عنف كالتي حدثت ومن ثم الإطاحة به".
واستطرد: "على جانب آخر لو أكمل في استرضاء الشعب ومخالفة شروط الصندوق، سيدخل في معركة خارجية مدمرة لاقتصاده مع صندوق النقد والجهات الدائنة، وهو ما لا يمكن حدوثه عمليا".
وشبه الباحث الاقتصادي التجربة السريلانكية بـ"التجربة المصرية الحالية"، وحذر من تكرارها بحذافيرها.
وأوضح يوسف أن "رئيس النظام عبد الفتاح السيسي أثقل الدولة المصرية بالديون، فالدين الخارجي وصل إلى نحو 160 مليار دولار، ومصر ثاني أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين، بحوالي 14.93 مليار دولار".
وأشار إلى أن "الصندوق يلزم مصر بإجراءات تقشفية أشبه بسريلانكا على رأسها تحرير سعر العملة، وتقليل نفقات الجهاز الحكومي للدولة، وخفض أعداد الموظفين، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وتقليل النفقات على الصحة والتعليم".
وأتبع: "كذلك بيع شركات القطاع العام وتخصيصها، إضافة إلى الديون والودائع من المانحين الخارجيين، تحديدا السعودية والإمارات".
واختتم يوسف حديثه بالقول: "وبالتالي فإن أي رئيس سيأتي من بعد السيسي، سيرث تركة هائلة من الديون والأزمات الاقتصادية والسياسية المعقدة، تماما كما يواجه ديساناياكي حاليا في سريلانكا".
المصادر
- Left-leaning leader wins Sri Lanka election in political paradigm shift
- سريلانكا تعلن تقليص جيشها إلى نحو الثلث بسبب الأزمة الاقتصادية
- رئيس سريلانكا الجديد: لن أمزق خطة صندوق النقد الدولي
- سريلانكا تتوصل إلى اتفاق جزئي بشأن ديونها
- Sri Lanka'da halk isyanı: Diktatörler kaçıyor; sarayları ve saltanatları yıkılıyor!