لوبيات ضغط.. لماذا تسعى "قسد" للتعاقد مع شركات علاقات عامة أميركية؟
شرعت ما تسمى "الإدارة الذاتية" الكردية شمال شرقي سوريا، بخطوات عملية من شأنها جلب المزيد من "الدعم السياسي" لها داخل الولايات المتحدة.
وتمثلت الخطوة الجديدة لـ "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" المظلة السياسية لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة من واشنطن، بالتعامل الرسمي مع شركة أميركية لتسيير "أنشطة الضغط" في الولايات المتحدة.
أنشطة ضغط
وذكرت وكالة الأناضول الرسمية التركية أن "الإدارة الذاتية" استخدمت شركة العلاقات العامة "Brownstein Hyatt Farber Schreck" لتسيير أنشطة الضغط "اللوبي" في الولايات المتحدة.
وأوضحت الوكالة في 28 ديسمبر/كانون الأول 2023 أنه تبين من معطيات قانون تسجيل الوكلاء الأجانب (FARA) أن ما يسمى "مجلس سوريا الديمقراطية"، وهو الجناح السياسي لـ قسد" وقع في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023 عقدا لمدة 6 أشهر مع الشركة المذكورة.
وهذه الأخيرة هي شركة "خدمات العلاقات الحكومية والاستشارات الإستراتيجية بشأن القضايا المعروضة على الحكومة الأميركية".
وبموجب العقد، ستساعد الشركة "الإدارة الذاتية" على تطوير علاقات مع الإدارة الأميركية، خاصة في القضايا المتعلقة بشمال شرق سوريا.
ووفقا للعقد المبرم أيضا، ستعمل الشركة على إقناع وتوعية أصحاب القرار في الإدارة الأميركية بأن ما يسمى "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا هي الخيار الأمثل لإيجاد حل دائم للأزمة السورية".
وكذلك ينص على التزام الشركة بتنظيم اجتماعات مع قادة مجلسي النواب والشيوخ وكبار المسؤولين في وزارات الخارجية والدفاع والتجارة الأميركية، وممارسة فعاليات الضغط لتشجيع الاستثمار في شمال شرق سوريا.
وبحسب ما جاء في تقرير الوكالة التركية، فإنه سيتولى "نديم الشامي" الذي كان يشغل منصب السكرتير الخاص لرئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة نانسي بيلوسي، أنشطة الضغط في الولايات المتحدة نيابة عن "الإدارة الذاتية".
وستدفع "الإدارة الذاتية" للشركة الأميركية 50 ألف دولار شهريا مقابل أنشطة اللوبي. وفي حال عدم اختلاف الطرفين على أي بند من بنود الاتفاق، سيتجدد العقد تلقائيا بينهما كل 6 أشهر.
وبشكل دوري تصل وفود أوروبية، ورسمية أميركية خاصة إلى محافظة الحسكة التي تسيطر على 83 بالمئة من مساحتها قوات "ي ب ج" العمود الفقري لـ "قسد".
وتعد قوات "ي ب ج" الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، والأخير هو الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني المتشدد (بي كا كا) الموجود جنوبي تركيا وشمالي العراق.
وقد زار وزير الدفاع الأميركي السابق، كريستوفر ميلر منتصف أغسطس/آب 2023 مناطق شمال شرقي سوريا والتقى بقائد مليشيا "قسد" مظلوم عبدي، ومسؤولي "الإدارة الذاتية" هناك.
و"الإدارة الذاتية" تستولي بقوة السلاح الأميركي على مناطق في 4 محافظات سورية هي حلب ودير الزور والحسكة والرقة.
ويتركز نفوذ الولايات المتحدة الرئيس بسوريا، في مناطق شمال شرقي سوريا (الحسكة - دير الزور - الرقة)، حيث تتمركز القوات الأميركية في نحو 18 قاعدة ونقطة عسكرية هناك.
وتعلل واشنطن وجودها هناك بمحاربة تنظيم الدولة وحماية آبار النفط، لا سيما أن "قسد" تسيطر على قرابة 90 بالمئة من حقول النفط، و45 بالمئة من إنتاج الغاز بسوريا.
ومنذ عام 2012 ينظر إلى "الإدارة الذاتية" على أنها تحكم بقوة السلاح الأميركي وأنها ما هي إلا سلطة أمر واقع غير شرعية تواجه "حربا مفتوحة" من قبل العشائر العربية في دير الزور.
حلم الاعتراف
وتطالب "الإدارة الذاتية" المجتمع الدولي بـ "اعتراف دولي بمناطقها وإضفاء الشرعية على المؤسسات والقوات العسكرية المنتشرة" شمال شرقي سوريا، إلا أن المعارضة السورية ترفض ذلك وتنظر إليه على أنه "مشروع انفصال ويمزق وحدة التراب السوري".
لكن رغم ذلك، تحصل "قسد" على حصة دعم مالي سنوي من دول التحالف الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة، وتحظى بدعوات رسمية لزيارة واشنطن وبعض دول الاتحاد الأوروبي.
ولا تخلو تلك الاجتماعات مع المسؤولين الغربيين من طرح ما تسميه "الإدارة الذاتية" الدعوة للاعتراف الدولي بها.
فمنذ سنوات تعمل "قسد" على تعزيز علاقاتها في الولايات المتحدة عبر "لوبيات الضغط" التي تعمل لصالحها هناك.
ويوجد في واشنطن ممثلة لـ "مجلس سوريا الديمقراطية" وهو الجناح السياسي لـ "قسد"، تدعى سينم محمد.
كما تجري وفود مشتركة من "الإدارة الذاتية" و"مجلس سوريا الديمقراطية" لقاءاتها السياسية مع أعضاء جمهوريين وديمقراطيين في الكونغرس الأميركي.
ويجري هؤلاء أيضا لقاءات مع معاهد دراسات مثل "معهد واشنطن"، وأخرى مع هيئات حكومية مثل "المفوضية الحكومية الفدرالية الأميركية للحريات الدينية الدولية" يتخللها استعراض وضع شمال شرقي سوريا من "الناحية السياسية والأمنية والاقتصادية".
وكثيرا ما يخرج قائد مليشيا "قسد" مظلوم عبدي على وسائل إعلام غربية لتمرير رسائل تدعو إلى الضغط على تركيا لوقف أعمالها العسكرية ضد الإدارة الذاتية في سوريا.
وترفض تركيا وجود كيان انفصالي عند حدودها الجنوبية، وقد أفشلت ذلك بفضل التعاون مع فصائل الجيش الوطني السوري المعارض.
وذلك من خلال إطلاق تركيا منذ عام 2018 عمليتين عسكريتين بمساندة من الجيش الوطني السوري، قطعتا الطريق أمام قوات "ي ب ج" (وحدات حماية الشعب - فرع بي كا كا في سوريا) و"قسد" لوصل شريط من القرى والمدن على الحدود السورية التركية مع بعضها تربط محافظات (الحسكة– الرقة– حلب).
ومنذ ذلك الحين تواصل "الإدارة الذاتية" حراكا مكثفا لتثبيت شرعيتها في المناطق التي بات يحكمها الآن ما يسمى "العقد الاجتماعي" الذي أقرته بصيغته النهائية في ديسمبر 2023 والذي يعد أقرب إلى "دستور" خاص بها.
وقد رفض "العقد" الائتلاف السوري المعارض ومكونات أخرى منها المجلس الإسلامي السوري المعارض الذي أصدر بيانا في 19 ديسمبر 2023 وصفه فيه بـ "مشروع انفصال مبطن".
وتأتي محاولات "الإدارة الذاتية" كسب الاعتراف السياسي الدولي، من جهة وجود 90 بالمئة من حقول النفط في مناطقها، و45 بالمئة من إنتاج الغاز بسوريا، إضافة لوجود معابر حدودية لها مع العراق.
وترجح مواقع إعلامية كردية أن حجم إنتاج النفط اليومي من الآبار التي تستولي عليها "قسد" يصل إلى 100 ألف برميل وينخفض بحسب حالتها الفنية وغزارة إنتاجها وحجم الأعطال.
وتؤكد أن قسد تبيع نحو 15 ألف برميل نفط خام يوميا إلى النظام السوري، حيث تقدر "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" أن العائد السنوي لها يقدر بـ 151 مليون و200 ألف دولار سنويا، هذا عدا عن عوائد الغاز المجهولة.
وتواجه "الإدارة الذاتية" اتهامات بسرقة عائدات النفط وعدم استثمارها في المشاريع الخدمية في مناطق شمال شرقي سوريا.
وبشكل متكرر، يخرج أهالي دير الزور والرقة في المناطق الخاضعة لقسد، في احتجاجات غاضبة بسبب ارتفاع أسعار المحروقات وندرة وجودها وتفاوت أثمانها.
واشتعلت انتفاضة حقيقية هي الأولى من نوعها للعشائر العربية ضد هيمنة "قسد" وانتهاكاتها ورفضا لإدارتها تلك المناطق في 27 أغسطس/آب 2023.
وقتها، أكد شيخ قبيلة البكارة ورئيس المكتب التنفيذي لمجلس القبائل والعشائر السوري عامر البشير "رفض العشائر العربية سياسة قسد الاقتصادية في سرقة النفط والحبوب وحرمان أهالي دير الزور منها في ظل الوضع الذي يعيشه السكان من فقر وانحدار مستوى المعيشة".
كما تعتمد قوات سوريا الديمقراطية على إرسال النفط الخام باتجاه إقليم كردستان شمال العراق الملاصق لمحافظة الحسكة، عبر معبر "سيمالكا".
وهو طريق التجارة الوحيد بين مناطق سيطرة قسد في سوريا مع العالم الخارجي، ليجرى تكريره هناك والاستفادة من بعضه، وبيع الآخر لجهات دولية.
وتعد مسألة المحروقات من أكثر الملفات التي تتعامل بها "قسد" بصرامة، إذ تمنع عمليات نقلها بأي كمية كانت داخل مناطق سيطرتها، دون ورقة سماح من مكتب المحروقات التابع لها، وذلك تحت طائلة الحجز والمصادرة والغرامة المالية.
كما ترسل الولايات المتحدة النفط الخام من سوريا إلى العراق، وتدخل النفط المكرر من الأخيرة إلى الأولى، بغرض استخدامه في قواعدها العسكرية.
ومنتصف عام 2022 أعفت الولايات المتحدة مناطق قوات سوريا الديمقراطية من العقوبات المفروضة على الاستثمارات الأجنبية، وقد ترجمت قسد هذه الخطوة على أنها دعم لجهودها في إعادة تأسيس البنية التحتية ضمن مناطق سيطرتها.
ولهذا تنظر قسد للعلاقة مع دول التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة على أنها مصيرية وتضمن استمرارها لأنه يعد المصدر الرئيس لدعمها المالي والعسكري واللوجستي.
خشية الانقلاب
وضمن هذه الجزئية، يؤكد مدير موقع "اقتصادي" السوري، يونس الكريم، أن اتجاه "الإدارة الذاتية" للتعامل مع شركة العلاقات العامة الأميركية، سببه شعورها بتغير موقف واشنطن تجاهها عقب انتفاضة العشائر العربية وعرض العرب على الإدارة الأميركية إنشاء مكون عسكري شبيه بقسد لإدارة كل من دير الزور والرقة وأجزاء كبيرة من الحسكة.
وأضاف الكريم لـ "الاستقلال": "بحث قسد عن الاستفادة من خبرات شركات العلاقات العامة له أهمية بالنسبة لها من ناحية خوف الإدارة الذاتية من تبدل سلوك الأميركان بعد نجاح الضغوطات التركية على حلف الناتو (شمال الأطلسي) خاصة بقضية انضمام فنلندا للحلف وسير السويد في نفس الطريق".
وحينما اشتعلت انتفاضة العشائر العربية ضد قسد 27 أغسطس/آب 2023 طالبت الأولى آنذاك التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بإنشاء إدارة مدنية تتخذ سياساتها بشكل مستقل لإدارة المنطقة دون تأثير من قوات سوريا الديمقراطية وغيرها.
وذلك حتى تمثل المنطقة بعيدا عن تحكم قيادات حزب العمال الكردستاني (بي كا كا) في الملف الأمني بالمنطقة وضمان عدم فرض أيديولوجيتهم على السكان.
وعقب ذلك، أعلنت العشائر العربية في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تشكيل "قيادة موحدة" تضم كتائب وألوية من مقاتلي العشائر في شرقي سوريا، بهدف "قتال مرتزقة قسد ضمن معارك كر وفر".
ولهذا فإن الفشل في التوصل إلى حل بين قسد والعشائر العربية، يمكن أن يؤدي إلى إضعاف قدرة "قوات سوريا الديمقراطية" على دعم مهمة مكافحة تنظيم الدولة التي تقودها الولايات المتحدة في سوريا.
ولا سيما أن انتهاكات "قسد" بحق السكان الأصليين وهم مئة بالمئة من العرب، قد يقوض دورها في جمع المعلومات الاستخبارية وقدرتها على تجنيد السكان المحليين.
ولهذا فإن سير "الإدارة الذاتية" في طريق تمكين حضورها في الولايات المتحدة، يقابله غليان شعبي من تحت الرماد وقد يقود إلى اشتعال في أي لحظة وقلب معادلة السيطرة من جديدة بشمال شرقي سوريا.
إضافة إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكد مجددا عقب اجتماع مع مجلس الوزراء في 6 ديسمبر 2023، أن بلاده ستؤمن المناطق القريبة من حدودها "حيث يتجمع الإرهابيون".
وشدد أردوغان على أن "تركيا لن تسمح أبدا بتشكيل كيان إرهابي" على حدودها الجنوبية وفي شمال كل من سوريا والعراق.
وراح يقول: "نحن على علم بالجهود المبذولة لإحياء وإعادة إنماء التنظيم الإرهابي الانفصالي (بي كا كا) الذي أصبح بحالة احتضار بفضل عملياتنا العسكرية".
وهنا يلفت الباحث السوري يونس الكريم إلى "أن تحركات الإدارة الذاتية الجديدة في أميركا تهدف لتحصين نفسها خشية حدوث انقلاب أميركي عليها لصالح كتل عسكرية بمعسكر المعارضة السورية".
ورأى أن "وجود التعاون الأميركي مع الإدارة الذاتية يتيح للأخيرة رفع إنتاج استخراج النفط من مناطقها حيث جرى أخيرا رفع الطاقة الإنتاجية للآبار إلى 80 بالمئة ما يعني عوائد مالية كبيرة لها".
وهذا يسهل على الإدارة الذاتية رفع رسوم أتعاب التعاون مع شركة العلاقات العامة من العائدات المالية، وفق قوله.
ورأى أن "تعاون الإدارة الذاتية مع شركة العلاقات العامة في ظل وجود شخصيات تتبع لها تعيش في الولايات المتحدة يساعدها في محاولة توصيفها كإدارة سياسية داخل أميركا".
وهذا جانب معنوي بالغ الأهمية يمهد لها الكثير من العلاقات واللقاءات الدولية مع الدول العربية والاتحاد الأوروبي والحصول على امتيازات من دول حليفة للولايات المتحدة، بحسب تقديره.