بعد "بريكس".. هكذا يسعى "آسيان" للتخلص من أغلال الدولار الأميركي
"يبدو أن الولايات المتحدة جنت على نفسها"
بصورة تدريجية، بدأ وميض الدولار الأميركي ينطفئ عالميا في السنوات الأخيرة، لكن ثمة خطوات باتت تسرع هذا المسار.
إذ يرى موقع "تيليبوليس" الألماني أن الدولار بدأ يفقد أهميته في جنوب شرق آسيا، حيث شرعت رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" في التعبير عن رغبتها في استخدام العملات المحلية بالتجارة البينية.
ورابطة "آسيان" منظمة اقتصادية تضم 10 دول، هي: تايلاند، وإندونيسيا، والفلبين، وماليزيا، وسنغافورة، وبروناي، وكمبوديا، وميانمار، وفيتنام، ولاوس، وتأسست في 8 أغسطس/ آب 1967 بالعاصمة التايلاندية بانكوك.
تهديد قوي
وقال الموقع الألماني إن دول جنوب شرق آسيا تهدد المكانة العالمية التي يتمتع بها الدولار الأميركي، بصفته العملة الرئيسة المستخدمة في عمليات التجارة الدولية، وصاحب النصيب الأكبر من احتياطات البنوك المركزية، حيث باتت المخاطر تحيط بالدولار من أكثر من اتجاه.
فقد "أصبح التخلص من الدولرة هو شعار التحالف المناهض للغرب بقيادة دول البريكس، والآن انضمت رابطة آسيان إلى نفس النادي".
ويشير الموقع إلى ما حدث في قمة رابطة الآسيان، التي عقدت في مايو/ أيار 2023، بإندونيسيا.
حيث قرر رؤساء حكومة الرابطة "استخدام كميات أقل من الدولار، والمزيد من العملات المحلية لإجراء العمليات التجارية داخل الكتلة في المستقبل".
ويصل إجمالي عدد سكان الرابطة إلى ما يزيد عن 600 مليون نسمة، وبلغ الناتج القومي الإجمالي للمنطقة بأكملها 3.670 تريليونات دولار في عام 2022، وهو أعلى قليلا من الناتج القومي الإجمالي لفرنسا.
ويتوقع الموقع أن تستمر الكتلة الآسيوية في التمتع بإمكانيات نمو قوية في المستقبل على المدى الطويل.
فوفقا لتقديرات مجموعة بوسطن الاستشارية، يمكن لدول الآسيان أن يتجاوز الناتج القومي الإجمالي الخاص بها 20 تريليون دولار أميركي بحلول منتصف القرن.
وقد زادت التجارة الداخلية في المنطقة بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، بفضل اتفاقية التجارة الحرة لعام 1992. لكنها لا تمثل حتى الآن سوى نحو 20 بالمئة فقط من التجارة الدولية لدول آسيان.
في المقابل، تبدو الأمور معقدة في الشق السياسي؛ إذ يشير الموقع إلى كون الرابطة "كتلة شديدة التنوع، وتحوي العديد من الأضداد".
حيث يوجد بها أنظمة حكم ملكية ودكتاتورية وديمقراطية ليبرالية ودكتاتورية عسكرية يمينية، حيث يتم تمثيل جميع الأنظمة السياسية، مما يجعل التعاون السياسي الداخلي صعبا.
ولفت الموقع الألماني إلى أن التخلص من الدولرة يمكن أن يتخذ أشكالا عديدة ومختلفة.
وأوضح قائلا: "في التجارة بين الدول، يؤدي إلغاء الدولرة إلى تخلي الأطراف المعنية عن الدولار، عند مبادلة السلع مقابل المال".
وأضاف: "وحيثما لا يُستخدم الدولار في مثل هذا التبادل، فلابد أن تتحول التجارة إلى عملات أخرى".
ويرى الموقع أن الصين وروسيا تقودان التحرك نحو التخلص من الدولار منذ عام 2014، حيث شرعوا في اتخاذ الخطوات الأولى في هذا الاتجاه.
وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتسرع من عملية الانفصال عن الدولار؛ إذ "أدت العقوبات الغربية ضد روسيا، إلى اتفاق بكين وموسكو في عام 2023 إلى التخلي تماما عن استخدام الدولار في التجارة الثنائية، حيث تتم التجارة الروسية مع الصين الآن بشكل أساسي باستخدام اليوان الصيني".
ويؤكد الموقع على ذلك بنقله إعلان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في أبريل/ نيسان 2024، "أن التجارة المتبادلة بين روسيا والصين قد أصبحت خالية تماما من الدولار".
وعلى خطى روسيا والصين، تحاول أميركا الجنوبية اللحاق كذلك بركب المتخلين عن الدولار.
فبحسب الموقع، طرح الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا أيضا إنشاء عملة تجارية مشتركة لدول البريكس (البرازيل والصين وجنوب إفريقيا والهند وروسيا)، وذلك في اجتماعهم عام 2023 في جنوب إفريقيا.
في ذات الوقت، يشير الموقع إلى أن "هذا التطور لا يزال في بداياته، ولابد أن ننظر إلى الخطوة التي اتخذتها دول الآسيان الآن نحو التخلص من الدولار في هذا السياق".
من جانب آخر، يرى الموقع أنه يمكن أيضا فهم عملية إلغاء الدولرة، على أنها تقليل استخدام الدولار كاحتياطي للعملة.
ويبدو أن الدول الآسيوية تسعى لإصلاح أخطاء الماضي، إذ "عكفت معظم دول آسيان على زيادة احتياطياتها من النقد الأجنبي بمقدار مليارات كبيرة، وذلك بسبب الأزمة المالية الآسيوية 1997/1998، والتي أثرت سلبا على اقتصادات معظم دول الرابطة".
وكانت غالبية هذه الاحتياطيات الأجنبية بالدولار الأميركي، وحصة الدولار في هذه الاحتياطيات أعلى باستمرار من المتوسط العالمي البالغ 58.4 بالمئة. لذلك، على مدار الثلاثين عاما الماضية، كان هناك قدر أكبر من الدولرة هنا.
عملية بطيئة
مع ذلك رأى الموقع أن عملية التخلص من الدولرة، مازالت تسير بخطى بطيئة؛ إذ "لم تؤد الاضطرابات السياسية والاقتصادية العالمية الأخيرة، إلى رد فعل بين دول آسيان ضد الدولار بصفته عملة احتياطية".
فقط، اكتفت بعض بلدان المنطقة بتخفيض حصة الدولار، في احتياطياتها الأجنبية بشكل طفيف خلال عام 2023.
بل وحتى رصد الموقع قيام بعض الدول الأخرى، برفع احتياطيها من الدولار "بشكل طفيف"، وبالتالي "لم يكن هناك تطور موحد ولا تغييرات كبيرة في هذا الصدد"، بحسب الموقع.
وتابع: "وإذا كان هناك أي تخفيض في احتياطيات الدولار، فقد كان ذلك على الأرجح لتوفير الأموال لمكافحة جائحة كوفيد-19، والتعامل مع آثارها الاقتصادية".
وأضاف الموقع: "يمكن أن يشير مصطلح إزالة الدولرة أيضا، إلى المدفوعات الدولية بين المؤسسات المالية".
حيث تستفيد العديد من هذه المعاملات من الدولار الأميركي، وخاصة التحويلات التي تتم معالجتها عبر نظام سويفت (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك، ومقرها في بلجيكا، ويدعمها اتحاد دولي من مؤسسات الائتمان الخاصة).
حيث "يتم تسوية جزء كبير من التجارة العالمية بالدولار الأميركي، وذلك باستخدام شبكة سويفت".
وفي عام 2023، تم استخدام الدولار بنسبة 46.5 بالمئة من جميع المعاملات التي تمت عبر سويفت، وفقا لإحصائيات منصة ستاتيستا Statista الالكترونية.
وكشف الموقع أن الدولار كان مشاركا في أكثر من 88 بالمئة من تجارة العملات الأجنبية الدولية من جميع العملات الأخرى.
وبهذا، يشير مصطلح "إزالة الدولرة" في هذا السياق، إلى استخدام آليات دفع بديلة تعتمد بشكل أقل -أو لا تعتمد على الإطلاق- على الدولار الأميركي مقارنة بنظام سويفت.
وتتزايد المخاطر التي تهدد سطوة الدولار على عرش عملات العالم، فقد اتفق رؤساء حكومات دول الآسيان في قمتهم التي عُقدت في لابوان باجو، بإندونيسيا، في الفترة من 10 إلى 11 مايو/ آيار 2023، على تقليل الدولار في النشاط التجاري بينهم.
حيث اتفقوا على "تحسين حركة المدفوعات الإقليمية، وتعزيز استخدام العملات المحلية بشكل أكبر في المعاملات الدولية مستقبلا، وينطبق ذلك بشكل خاص على التجارة بين دول الآسيان".
على أرض الواقع، يقول الموقع إنه يتم تنفيذ العديد من المعاملات التجارية بين الدول الأعضاء في الآسيان عبر شبكة سويفت، حيث يستخدم الدولار غالبا كعملة وسيطة.
وهو ما يعني، أن العملة الخاصة بالدولة المرسلة يتم تحويلها أولا إلى الدولار، ثم يتم تحويل هذا الدولار في خطوة ثانية إلى عملة الدولة المستقبلة.
ووفقا للمقال، فإن هذه الممارسة، تهدف إلى حماية العاملين من المخاطر، التي قد تنجم عن استخدام العملة الخاصة بهم بشكل مباشر.
حيث "يُخشى بشكل رئيس من تقلبات سعر الصرف، التي تحدث بشكل متكرر مع العملات الأصغر مقارنة بالعملات الكبيرة".
وتابع الموقع: "يهدف استخدام عملات وسيطة مثل الدولار (أو اليورو)، إلى حمايتهم من تأثيرات التغيرات المفاجئة في سعر صرف العملة الخاصة بهم، أو العملة في البلد الشريك".
وأضاف: "ورغم أن الدولار يشهد أيضا تقلبات في سعر الصرف، إلا أن احتمالية حدوث تغييرات مفاجئة صعودا أو هبوطا في قيمته أقل".
مع ذلك يقول إن "دول (آسيان)، تسعى الآن إلى التخلي تدريجيا عن أنظمة الدفع التقليدية، واستخدام العملات المحلية بشكل أكبر في المدفوعات الدولية داخل الكتلة الاقتصادية".
ولتحقيق هذا الهدف، يشير إلى أنهم قاموا بالفعل بإنشاء بنية تحتية رقمية جديدة، تعتمد على رموز الاستجابة السريعة (QR Codes)، لضمان سلاسة تنفيذ هذه المدفوعات.
ومن الجدير بالذكر، أن هذه الدول لم تتفق على استبدال عملة أخرى بالدولار كعملة وسيطة .
حيث "كان اليوان الصيني مرشحا محتملا لهذا الدور. لكن بدل ذلك، اتفقت دول الرابطة على التبادل المباشر بين العملات المحلية المختلفة دون وساطة عملة ثالثة".
وأردف الموقع: "ركيزة أساسية في مساعي دول آسيان نحو التحول الجزئي عن الدولار، هي الاستخدام العابر للحدود للمحافظ الإلكترونية، ورموز الاستجابة السريعة (QR Codes) لجميع أنواع المدفوعات".
إذ شهدت هذه الوسائل انتشارا سريعا في جنوب شرق آسيا، خلال السنوات الأخيرة. واستدرك الموقع قائلا: "لكن حتى العام الماضي، كانت هذه المدفوعات تقتصر على داخل الدول فقط".
وتابع: "وحاليا تقوم البنوك المركزية في تلك الدول، بإنشاء بنية تحتية لتمكين الدفع عبر المحافظ الإلكترونية في الوقت الحقيقي، هذه الشبكات الوطنية تم الآن ربطها ببعضها البعض عبر الحدود بين دول آسيان".
البديل الأفضل
وينتقل الموقع للحديث عن مميزات النظام القائم على رمز الاستجابة السريعة (QR-Code)، حيث يتمتع بالعديد من الفوائد، مقارنة بأنظمة الدفع والتبادل التقليدية.
فعلى سبيل المثال، "تنخفض تكاليف المعاملات بشكل ملحوظ؛ حيث لا توجد حاجة لتحويل العملات الأجنبية إلى عملة وسيطة، مما يؤدي إلى تقليل التكاليف المرتبطة بذلك".
ويكمل الموقع: "العملاء الأجانب أو الشركاء التجاريون الذين يرغبون في الدفع مقابل خدمة في إحدى دول الآسيان، يمكنهم الآن تجنب تبادل عملاتهم الأجنبية، مقابل العملة المحلية في المؤسسات المالية أو مكاتب الصرافة".
ويؤدي النظام الجديد للدفع إلى تقليل الرسوم بشكل كبير، كما أنه يوفر ميزة مقارنة بالدفع ببطاقات الائتمان؛ حيث يسمح بتجنب الرسوم التي تفرضها شركات بطاقات الائتمان، والتي عادة ما يتحملها مستلمو المدفوعات في المعاملات التجارية.
ويوضح الموقع أن عملية إعداد أنظمة الدفع عبر رموز الاستجابة السريعة (QR)، باتت تعد سهلة نسبيا للتجار.
ويضيف: "في دول جنوب شرق آسيا، أصبح من النادر أن تجد سلعة أو خدمة، لا يمكن دفع ثمنها عبر رمز الاستجابة السريعة".
حيث "يتم استخدام هذه الرموز في المشتريات العادية وكذلك في دفع تكاليف خدمات النقل، كما أنها تُستخدم في التجارة الإلكترونية عبر الحدود".
كما يشير الموقع إلى أن "إجراء هذه المعاملات العابرة للحدود، لا تتطلب اتصالا شخصيا مباشرا بين المشترين والبائعين".
ويرى الموقع أن "الأسباب التي تقف وراء إنشاء هذا النظام للدفع، هي في الأساس ذات طبيعة اقتصادية".
حيث تأمل دول الآسيان، أن يؤدي ذلك إلى تحفيز الاقتصاد في المنطقة، فعملية تسهيل الدفع عبر الحدود، تهدف إلى زيادة حجم التجارة بين دول الآسيان، وتسهيل السفر، وبالتالي تعزيز السياحة داخل المجموعة.
بالإضافة إلى ذلك، تأمل دول الآسيان وفق الموقع، أن يؤدي إلغاء العملات الوسيطة في المدفوعات الدولية داخل المنطقة، وزيادة استخدام العملات المحلية، إلى تعزيز قيمة عملاتها والمساهمة في استقرارها على المدى الطويل.
لكن لا تقتصر أسباب اعتماد هذه الإجراءات إلى دوافع اقتصادية فحسب، فمن الواضح أن لهذه الخطوة أسبابا سياسية أيضا، كما يشير الموقع.
فقد رأى أن "الدول في المنطقة، ترغب في تقليل اعتمادها على الدولار الأميركي، وتقليل القدرة على فرض ضغوط سياسية مرتبطة بهذا الاعتماد".
ويبدو أن الولايات المتحدة جنت على نفسها؛ إذ "أظهرت العقوبات الغربية ضد روسيا -التي أدت إلى استبعاد مؤسساتها المالية من شبكة سويفت الدولية للمدفوعات (تبع هذا الاستبعاد الجزئي انسحاب روسيا من النظام)- لدول جنوب شرق آسيا مدى ضعفها، كونها جزءا من هذه الشبكة".
"وبالتالي فطنت دول رابطة آسيان إلى أنه إذا كان من السهل استبعاد دولة مثل روسيا من النظام المالي الدولي، فمن المؤكد أن استبعاد دولة من هذه المنطقة في جنوب شرق آسيا لن يكون أصعب"، حسب الموقع.
وبهذا رأى أن "إنشاء شبكة ربط بين البنوك المركزية في المنطقة، واستخدام رموز الاستجابة السريعة، والمحافظ الإلكترونية للمدفوعات عبر الحدود، خلق لدول الآسيان بديلا مثيرا للاهتمام لأنظمة الدفع التقليدية".
وتفاءل الموقع وتوقع "أنه قد تصبح هذه التجربة، نموذجا يحتذى به في مناطق أخرى نائية من العالم".
وبحسب الموقع، فإنه في الخطوة التالية، تخطط دول الآسيان للسماح بالدفع عبر رموز الاستجابة السريعة للأشخاص من دول ثالثة.
ولذلك فإن للإجراء المرتقب تداعيات على قوة الدولار، إذ ينظر الموقع إلى تلك الخطوة لأنها ستؤدي إلى "توسيع شبكة المدفوعات في جنوب شرق آسيا لتتجاوز حدودها الإقليمية وترتبط بالعالم، مما سيسهم في تآكل مكانة الدولار كعملة قيادية عالمية".
وبالرغم من كل ذلك، يؤكد الموقع أن "الدولار لا يزال يلعب دورا مهما، كعملة احتياطية للدول الأعضاء في رابطة (آسيان)".
حيث يرى أن "الحركة نحو التخلص من هيمنة الدولار، تتعلق في الوقت الحالي في هذه المنطقة بشكل أساسي، بالتجارة عبر الحدود والمعاملات بالعملات الأجنبية".
وأردف: "إذ تهدف ابتكارات الدفع التكنولوجية إلى تعزيز التجارة الداخلية، وتقليل الاعتماد على أنظمة الدفع التقليدية، مثل نظام سويفت، وعملة الدولار الأميركي كعملة عالمية رائدة".
ويتمثل الهدف من ذلك إلى "الحد من فرصة التعرض للعقوبات الدولية والضغط المالي".
واختتم بالقول: "كما قد تسهم هذه التطورات على المدى الطويل، في تعزيز استقرار العملات المحلية وتعزيز الاستقلال السياسي لدول الآسيان".