قصص الانتحار.. كيف تفضح ما يخفيه الجيش الإسرائيلي عن عدد قتلاه بغزة؟

منذ يومين

12

طباعة

مشاركة

لا يزال جيش الاحتلال الإسرائيلي يتلقى ضربات موجعة في مناطق تقدمه كافة بقطاع غزة، ولا تكاد مروحيات نقل القتلى تنقطع عن سماء غزة، متجهة إلى المشافي الإسرائيلية في النقب وتل أبيب.

وفي ذات الوقت تحظر حكومة الاحتلال على وسائل الإعلام نشر العديد من الأخبار عن الخسائر البشرية، سوى ما يعلنه الجيش رسميا، تحت بند "سمح بالنشر"؛ سعيا للمحافظة على معنويات جنوده.

وتسلط إسرائيل سطوتها الأمنية والقانونية ضد أي محاولات للكشف عن حجم خسائرها البشرية في حربها البرية على غزة، ولكن هذا ما لم يكن كافيا لإخفاء ما يتعرض له جيش الاحتلال من ضربات في غزة.

وهو ما بات أثره واضحا على الحالة النفسية المتردية على الجنود المُسَرّحين من الخدمة والنشطين فيها على حد سواء.

الجيش يكذب

واعترف جيش الاحتلال حتى نهاية أبريل/نيسان 2025، بمقتل 850 ضابطا وجنديا وإصابة 5667 منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وهو ما يناقض تصريح رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير، 2 فبراير/شباط 2025، بأن "5942 عائلة إسرائيلية جديدة انضمت إلى قائمة الأسر الثكلى خلال عام 2024"، أي تلك التي قُتِل منها أفراد بالجيش.

ووفق ما نقلت القناة 12 الإسرائيلية، أضاف زامير أنه جرى استيعاب أكثر من 15 ألف مصاب في نظام إعادة التأهيل، كمعاقين ومصابين".

ورغم أن التصريح كان داخل أروقة الجيش، واستخدمه رئيس الأركان للضغط لتجنيد عدد أكبر من الجنود، فإن تسربه وانتشاره كان حاسما في إثبات ما أكَّدته رواية المقاومة الفلسطينية من إخفاء الاحتلال لعدد قتلاه المتصاعد.

وعرضت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، العديد من الإصدارات توضح مقتل جنود للاحتلال في كمائن وعمليات محكمة بشكل جلي.

ولكن في المقابل كان جيش الاحتلال يعلن عن عدد أقل بكثير من الخسائر، وهو أمر عهد عليه منذ عقود.

أحد الإصدارات التي نشرها القسام كانت لعملية جحر الديك وسط القطاع، 16 ديسمبر/كانون الأول 2023، والتي اقتحمت فيها قوات الكتائب موقعا تحصن فيه جنود الاحتلال.

وبثت القسام مقطع فيديو لمباغتة جنود الاحتلال في مناطق تحصنهم وغنم أسلحتهم، وأعلنت أنها قتلت 10 منهم في هذه العملية، لكن الجيش لم يعلن في ذلك اليوم عن أي خسائر.

وتشير إحصاءات غير رسمية أن نظام الإحصاءات في المستشفيات الإسرائيلية، سجل أن مجموع عدد القتلى الإسرائيليين، نتيجة الحرب في غزة ولبنان والضفة الغربية وصل إلى 13 ألف قتيل، قبل استئناف الحرب على غزة في مارس/آذار 2025.

ورغم تكتم الاحتلال على خسائره فقد كشفت وسائل إعلام عبرية في 28 يونيو/حزيران 2024، أن أكثر من 500 آلية مدرعة إسرائيلية تدمرت أو تضررت في قطاع غزة منذ بداية الحرب وحتى تاريخ النشر.

كيف يتكتم؟ 

ويرى الخبير في الشؤون الإسرائيلية صالح إبراهيم، أن سياسة إخفاء الاحتلال أعداد جنوده القتلى باتت حقيقة معروفة لدى الجميع، وفي مقدمتهم المجتمع الصهيوني.

وفي حديث لـ"الاستقلال"، أكد إبراهيم أن "الجيش يملك سطوة على وسائل الإعلام والقطاع الطبي، لحجب أي معلومات حول حصيلة الخسائر جراء هجمات المقاومة الفلسطينية ضد وحداته البرية".

وأضاف: "يمتنع جيش الاحتلال عن إعلان خسائره الحقيقية، خشية من انهيار معنويات الجنود، والمجتمع الصهيوني".

وخصوصا أن "هجمات 7 أكتوبر زرعت الرعب في قلوب الجنود، الذين شاهدوا زملاءهم يُقتلون ويُؤسرون من داخل دباباتهم، وينزعون بزاتهم، ويهربون من المواقع التي هاجمتها المقاومة، لهذا تم تشديد الرقابة العسكرية".

وأوضح الخبير أن هناك فئات من المجتمع الصهيوني مفضلة للجيش، يُزج بها في الصفوف الأولى والمهمات الخطرة، ويتكتم على مقتلهم بسهولة.

إحداها فئة الجنود مجهولي النسب، وأعدادهم بالآلاف، حسب تقديرات غير رسمية إسرائيلية نُشرت عام 2018.

وكذلك فئة الجنود المهاجرين الوحيدين الذين حصلوا على الجنسية دون عائلاتهم. وعندما يُقتل أحد من الفئتين لا يُعلن عنه نهائيا، وفق إبراهيم.

وتابع: يستخدم جيش الاحتلال أسلوبا بمحاورة بعض عائلات الجنود القتلى، ليطلب منها عدم إعلان مقتل أبنائها في الحرب، لـ "هدف وطني"، وكثير من العائلات توافق، خصوصا اليمينية المتطرفة.

وواصل: "يستخدم الجيش المال مع عائلات أخرى، من الشرائح السفلى في المجتمع الصهيوني، كالعائلات اليهودية الشرقية والروس ويهود إثيوبيا، بجانب العرب والدروز".

وشدَّد صالح على أن المرتزقة الذين توافدوا بالآلاف للقتال مقابل المال، لا يتم التعتيم على مقتلهم فقط، بل على وجودهم أصلا في جيش الاحتلال.

 وتُوكل إلى هؤلاء المهمات شبه الانتحارية، التي يتأكد فيها الجيش أن هناك مواجهة من المسافة صفر مع مقاتلي المقاومة.

وأكد أن إستراتيجية الاحتلال في الكشف عن خسائره، تعتمد على تهيئة المجتمع الصهيوني لتلقي صدمة، من خلال الحديث قبل الإعلان بساعات عن "معركة شرسة في غزة"، ومن ثم التثبت من إمكانية تصوير المقاومة للعملية وإثبات أعداد القتلى من عدمه.

ويلي ذلك دراسة الخسائر التي يمكن التكتم عنها، وأخرى لا مناص من الإفصاح عنها، وبالنهاية صياغة الإعلان يُخفي معظم تفاصيل المعركة.

وأضاف الخبير: "اعتاد الجيش تزوير أسباب مقتل جنوده بغزة؛ حيث يدّعي أن جزءا من الذين قُتلوا على يد المقاومة سقطوا نتيجة نيران صديقة".

وكذلك يُميع المصطلحات، حيث يُسمي تفجير المنزل المفخخ بالجنود بـ "انهيار مبنى"، وكأنه انهار من تلقاء نفسه، أو تهالك بنيانه، يقول إبراهيم.

وتستخدم إسرائيل أداة الرقابة العسكرية في سعيها لإخفاء الأعداد الحقيقية لقتلاها ومصابيها جراء المعارك مع المقاومة.

والرقابة العسكرية وحدة تابعة لشعبة استخبارات الجيش “أمان”، ويقف على رأسها ضابط يعرف باسم "الرقيب العسكري".

وتخول للرقيب العديد من الصلاحيات بداية من حظر النشر في أي قضية عسكرية دون إذنه، وحتى التنصت على بعض المكالمات.

ومخالفة أوامر الرقيب قد تعني الحبس، أو إغلاق المؤسسات الإعلامية ومصادرة معداتهم أو إلغاء تصاريحهم الإعلامية، دون إبداء أسباب.

وأكثر الأمور التي يشدد الرقيب على عدم النشر فيها، هي أعداد الجنود القتلى، وتفاصيل العمليات الفاشلة، وأماكن الاستهدافات الصاروخية.

ويشمل ذلك أيضا أسماء وحدات النخبة المشاركة في المعارك، والمعلومات عن عمليات الجيش وتحركاته، والاتفاقيات السرية الإسرائيلية، وأسماء ضباط كبار في وحدات حساسة، وتطويرات تكنولوجية أو عسكرية.

كما يمنع وسائل الإعلام الإسرائيلية من تداول ما تنشره المقاومة من مقاطع مصورة تظهر استهداف الجيش وتكبيده الخسائر، أو خطابات للناطق باسم القسام أبو عبيدة.

معنويات محطمة

ورغم الجهد المهول الذي يبذله الرقيب العسكري ومن خلفه الجيش، والجهات الرقابية، فقد فشل الاحتلال في تحقيق الهدف المأمول من التكتيم على الحصيلة الحقيقية من القتلى والمصابين والمعاقين.

إذ وصلت معنويات جنود الاحتلال لمستويات قياسية في التدني، بفعل ضراوة المعارك التي شاركوا فيها داخل القطاع، وإصابة الآلاف منهم بإعاقات نفسية وحركية.

ووفق بيانات وزارة الجيش في حكومة الاحتلال، فإن قسم إعادة التأهيل يعالج نحو 78 ألف جريح من حروب مختلفة، بينهم أكثر من 26 ألفا يعانون إصابات نفسية، منهم نحو 11 ألف حالة مشخصة باضطراب ما بعد الصدمة.

 ومنذ اندلاع الحرب في غزة، أُضيف إلى هذا الرقم نحو 17 ألف جريح جديد، حتى أبريل 2025.

وحسب تحقيق لصحيفة "هآرتس"، فإن الجيش اضطر بسبب النقص الحاد في المقاتلين إلى استدعاء جنود من الاحتياط، بعضهم يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة، وحتى إعاقات عقلية دائمة، الأمر الذي تسبب في وقوع مآسٍ إنسانية، بينها حالات انتحار مؤكدة.

كما كشفت الصحيفة في 18 مايو 2025 أن الجيش الإسرائيلي جند جنودا مصابين بأمراض نفسية في وحدات قتالية، دون إجراء تقييمات صحية دقيقة، خشية أن تكشف الفحوصات عن أزمة واسعة في صفوف الاحتياط.

وفي نفس اليوم، نقلت القناة 13 العبرية، عن الرقيب أول احتياط "يوني شفايتسر"، قصة مقاتل احتياط تحت إمرته يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة.

وقال: "تحت قيادتي المباشرة كان في منزل شقيقه، مع أقارب وضيوف آخرين، في مرحلةٍ ما، خرج من إحدى الغرف وهو مسلح بمسدس، وصرخ أن هناك مقاومين، حسب ما فهمت، كان يعتقد أنهم حوله، وبدأ بإطلاق النار على من كانوا في البيت".

وأضاف: "أطلق النار على زوجة شقيقه، وابن أخيه، وصديقة طفولتهم التي كانت جزءًا من حياتهم لأكثر من عقدين. وقد أُصيبت بجروح خطيرة".

وأردف: "مؤلم جدا أن نرى مقاتلين يصلون إلى هذا الوضع ويعجزون عن التأقلم بعد الخدمة القتالية".

كما أقدم جندي إسرائيلي يعاني من صدمة نفسية حادة على إطلاق النار باتجاه أقربائه، ظنا منه أنهم مقاومون فلسطينيون، حسب ما كشفت عنه القناة 13 العبرية.

وأدى التزايد في الإعاقات النفسية لدى الجنود، والتردي في معنوياتهم، إلى تسجيل أرقام قياسية في الانتحار داخل جيش الاحتلال.

وكشفت “هآرتس”، في التحقيق المذكور، عن أرقام غير مسبوقة، بشأن حالات الانتحار بين صفوف الجيش الإسرائيلي منذ بدء العدوان على غزة وحتى نهاية عام 2024، حيث انتحر على الأقل 35 جنديا، وسط تكتم رسمي شديد من المؤسسة العسكرية.

في حين يرفض الجيش الإسرائيلي الإفصاح عن العدد الدقيق للجنود المنتحرين خلال العام 2025. وتشير المصادر إلى أن العديد من هؤلاء دُفنوا بصمت، من دون مراسم عسكرية أو إعلان رسمي.