لماذا أصلح ماكرون العلاقات مع الجزائر وأفسدها أكثر مع المغرب؟
حالة مد وجزر تشهدها علاقات فرنسا مع المغرب والجزائر، خاصة في الفترة الأخيرة التي تميزت بظهور تحديات جديدة أثرت على هذه العلاقات المتأزمة.
وبين الجزائر وفرنسا أزمات متعددة، سارع الطرفان لطي صفحاتها وتخفيف حدتها، أبرزها تهريب المعارضة أميرة بوراوي، والإرث الاستعماري وانقلاب النيجر وغيرها من الملفات.
بالمقابل، ظلت أزمة باريس والرباط مستمرة والزيارة الرسمية المنتظرة منذ 2021 للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تترقب نهاية "معركة كسر العظام" بين الطرفين.
وبدا واضحا أن الكفة الفرنسية أصبحت تميل أكثر تجاه الجزائر، وذلك في ضوء الخلاف الذي أدى إلى قطيعة رسمية بين الرباط وباريس، وزاد حدته السجال بين البلدين بشأن مساعدات زلزال الحوز.
صفحة الأزمات
"صفعة" المغرب بنفيه لتصريحات فرنسية بشأن زيارة الرئيس ماكرون إلى المغرب، فتحت صفحات الأزمات السياسية والدبلوماسية بين البلدين خلال السنوات الأخيرة.
ففي 16 سبتمبر 2023، نقلت وكالة الأنباء المغربية عن مصدر حكومي لم تسمه أن زيارة ماكرون للمملكة "ليست مدرجة في جدول الأعمال ولا مبرمجة".
جاء ذلك ردا على إعلان وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا، في حديث لقناة محلية قبل ذلك بيوم، عن برمجة زيارة لماكرون إلى المغرب بدعوة من الملك محمد السادس.
وأبدى المصدر الحكومي "استغرابه لكون وزيرة الخارجية الفرنسية اتخذت هذه المبادرة أحادية الجانب ومنحت لنفسها حرية إصدار إعلان غير متشاور بشأنه بخصوص استحقاق ثنائي هام".
وبعد الزلزال الذي ضرب المغرب في 8 ديسمبر 2023 بـ7 درجات على مقياس ريختر، عرضت باريس مساعدتها في جهود الإنقاذ، غير أن الرباط لم تقبل المساعدة إلا من 4 دول هي بريطانيا وإسبانيا وقطر والإمارات، وهو ما فهم منه "رفض باقي العروض بما فيها من فرنسا".
وأثار موقف الرباط من المساعدات الفرنسية جدلا كبيرا في البلد الأوروبي ما دفع ماكرون في 12 سبتمبر، إلى نشر كلمة مصورة عبر منصة "إكس" (تويتر سابقا) موجهة إلى المغاربة.
ورغم إقرار ماكرون في كلمته أن تنظيم المساعدات هو قرار سيادي للملك محمد السادس والحكومة المغربية، فإن توجهه بالخطاب مباشرة إلى الشعب المغربي أثار موجة استياء واسعة في الأوساط المغربية التي عدت خطابه "حنينا إلى الحقبة الاستعمارية".
ومنذ أكتوبر/ تشرين الأول 2022، لم تعين الرباط سفيرا جديدا لدى باريس، خلفا للسفير محمد بنشعبون، الذي عينه العاهل المغربي على رأس "صندوق محمد السادس للاستثمار" (رسمي).
وفي سبتمبر 2021، ظهر التوتر بشكل علني بعد قرار باريس تشديد القيود على منح تأشيرات للمواطنين المغاربة.
كما تسببت قضية التجسس بتأزيم العلاقات بين البلدين، حيث اتهمت صحف فرنسية الرباط في يوليو/ تموز 2021، باختراق هواتف شخصيات مغربية وأجنبية عبر برنامج التجسس الإسرائيلي "بيغاسوس"، والتنصت على ماكرون.
لكن الحكومة المغربية نفت في بيان هذا الاتهام ورفعت في 28 من الشهر ذاته دعوى قضائية ضد كل من صحيفة "لوموند" وموقع "ميديا بارت" و"فرانس راديو" بتهمة التشهير.
وفي السياق، قال الكاتب المغربي، مصطفى جالي إن "العلاقة مع الرباط تبدو مركبة وتسير نحو مزيد من التعقيد، والدليل على ذلك تجاهل المغرب المساعدة التي عرضتها فرنسا بشأن الزلزال الذي ضرب عدة مناطق بالمغرب، في الثامن من سبتمبر 2023".
وأضاف في تحليل نشره "مركز الجزيرة للدراسات" في 20 سبتمبر 2023 إنه "في وقت وافقت على مساعدات من أربع دول وصفتها بالصديقة، وهي: إسبانيا والمملكة المتحدة إضافة إلى قطر والإمارات، التي تربطها علاقات دبلوماسية متميزة مع الرباط"
وأشار إلى أنه "مقابل البرود الفرنسي تجاه المغرب، من الواضح أن ماكرون كان عازما على إعادة بناء وتطوير علاقته مع الجزائر في شتى المجالات، فخلال زيارته للجزائر (في أغسطس 2022) التقى مع نظيره عبد المجيد تبون ورؤساء أركان القوات المسلحة والمخابرات، وهي سابقة منذ استقلال الجزائر(1962)، وقد ركز الاجتماع على برنامج دفاعي وأمن مشترك".
وتابع: "بالإضافة إلى ذلك، قررت الدولتان إنشاء (مجلس أعلى للتعاون) على مستوى رئاسات الجمهورية. وأيضا زيارة رئيس أركان الجيش الجزائري السعيد شنڨريحة إلى باريس في يناير/كانون الثاني 2023".
تقييم مرحلي
وفي 22 سبتمبر 2023، عقدت الجزائر وفرنسا، اجتماعهما الدوري للمشاورات السياسية، بالعاصمة باريس، على مستوى الأمينين العامين لوزارتي الشؤون الخارجية، حيث درسا الملفات ذات الأولوية للتعاون الثنائي.
وذكر بيان للخارجية الجزائرية، أن الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية، لوناس مقرمان، ترأس أشغال الدورة العاشرة للمشاورات السياسية الجزائرية الفرنسية، مناصفة مع نظيرته، آن ماري ديكوت.
وقال البيان إن "هذه الدورة سمحت للطرفين بإجراء تقييم مرحلي استعدادا للاستحقاقات الثنائية المرتقبة، مع التركيز على الملفات ذات الأولوية في مجال التعاون الثنائي".
وأضاف أن المحادثات "تركزت أيضا حول القضايا الإقليمية والدولية الراهنة ذات الاهتمام المشترك".
ويأتي الاجتماع في سياق أزمة بين البلدين، تجلت في تأجيل زيارة تبون إلى باريس عدة مرات، واختلاف وجهات النظر بينهما تجاه الأزمة الجارية في النيجر (انقلاب 26 يوليو/ تموز الماضي).
والأزمة التي خلفتها قضية الناشطة بوراوي الذي غادرت الجزائر باتجاه فرنسا مرورا بتونس في فبراير/ شباط 2023، ثم ما تلا ذلك من جدل في فرنسا حول إلغاء اتفاقية التنقل والهجرة لسنة 1968 التي تتيح امتيازات خاصة للمهاجرين الجزائريين.
وفي 22 أغسطس 2023، رفضت الجزائر طلبا لباريس بالسماح للطائرات الفرنسية باستخدام المجال الجوي الجزائري تحسبا لعملية عسكرية وشيكة في النيجر، وفق "الإذاعة الجزائرية" الرسمية.
لكن تبون، أعلن في مقابلة مع وسائل إعلام محلية في 5 أغسطس 2023 أن زيارته التي كانت مبرمجة إلى فرنسا "مازالت قائمة"، وذلك بعد تأجيلها لعدة مرات.
كما تسلّم الرئيس الجزائري في 29 سبتمبر 2023 أوراق اعتماد السفير الفرنسي الجديد، ستيفان روماتي، وعقب تسليم أوراق اعتماده، كشف الأخير عن تسليمه "رسالة شخصية من ماكرون إلى تبون"، دون تفاصيل بشأن فحواها.
هذه التطورات تؤكد أن البلدين "بصدد فتح صفحة جديدة، وخطوة لعودة الجزائر إلى محورها التقليدي".
وقال الباحث المغربي في العلوم السياسية، أمين الإدريسي: "صحيح أن الأزمة الدبلوماسية بين المغرب وفرنسا، صارت تتعمق أكثر فأكثر، آخرها عدم قبول المغرب المساعدة التي أعلنت عنها فرنسا بعد زلزال الحوز بالمغرب، وهو ما عد فرنسيا (إهانة لكرامة فرنسا)".
وأضاف الإدريسي لـ"الاستقلال، أن "فرنسا لم تستسغ أن يفضل المغرب كلا من قطر والإمارات وإسبانيا وبريطانيا، وخصوصا هاتين الأخيرتين عليها ويتجاوزها".
وتابع: "لعل ما تم التركيز عليه أكثر هو اتهام فرنسا للمغرب بالتجسس على الرئيس ماكرون، والتقدم في الموقف الفرنسي من قضية الصحراء، في اتجاه الاعتراف الصريح بالسيادة الكاملة للمغرب على الصحراء، إضافة إلى قضايا أخرى".
واستدرك الإدريسي موضحا: "لكن يتم تغييب وجه مهم جدا وهو الوجه الاقتصادي للأزمة، ففرنسا ماكرون مدفوعة بحاجتها الشديدة للغاز والطاقة، بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية على البلاد، عملت على التقرب أكثر من الجزائر لتأمين حاجتها من الغاز".
ورأى الباحث في العلوم السياسية، أن "زيارة ماكرون للجزائر صيف 2022 عكست ما يمكن وصفه بخطب الود الفرنسي للجزائر، في الوقت الذي كانت فيه الأزمة بين باريس والرباط تعتمل".
وأشار إلى أن "ماكرون كان يراهن على أن تودده للجزائر سيدفع المغرب إلى تليين مواقفها تجاه فرنسا، خوفا من تضرر مصالح المملكة، وبذلك تكون فرنسا قد ضربت عصفورين بحجر واحد، تضمن تزويدها بالغاز الجزائري وتعيد العلاقة مع المغرب".
واستدرك الإدريسي: "لكن المغرب مدفوعا بما يعده نجاحات دبلوماسية، وتعدد زبائنه الاقتصاديين، خصوصا بعد تجاوز الأزمة (حول ملف إقليم الصحراء الغربية) مع إسبانيا (في مارس/ آذار 2022)، خيّب الرهان الفرنسي، بل دفعه إلى التشدد أكثر في العلاقة مع الدولة المستعمرة السابقة".
قفزة تاريخية
وأمام سر "الغاز" الذي ترك الباب مواربا بين باريس والجزائر رغم الأزمات السياسية، فقد نجح البلدان في الحفاظ على التبادلات التجارية بينهما وخاصة الطاقة في مستويات عالية، وهذا ما يؤكد تركيز باريس على علاقة أفضل أكثر مع الجزائر.
وكشف تقرير للجمارك الفرنسية، نشر على موقع وزارة الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمنة الفرنسية، في 20 سبتمبر 2023 أن الواردات الغازية من الجزائر سجلت قفزة تاريخية بنسبة 92.1 بالمئة، في الأشهر الستة الأولى من السنة 2023.
وهو ما يمثل قرابة نصف ما اشترته فرنسا من الغاز من الخارج، بما قيمته 1.6 مليار دولار، ما يقفز بصادرات الجزائر من الطاقة نحو فرنسا إلى 3.1 مليارات دولار.
من جانبه، قال الكاتب حمزة كحال: "الظاهر من أرقام الجمارك الفرنسية عدم تأثر العلاقات التجارية بين البلدين بالشلل السياسي الذي تعيشه العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وباريس منذ بداية 2023".
وأضاف في تقرير نشره موقع "العربي الجديد" في 22 سبتمبر 2023 أن "الجزائر وفرنسا نجحتا في الحفاظ على التبادلات التجارية بينهما في مستويات عالية".
من جهته، ذكر تقرير نشره موقع "القدس العربي" في 23 سبتمبر 2023 أن "العمل جار على إنشاء بنك جزائري في فرنسا في سياق توجه حكومي لإنشاء شبكة فروع دولية للبنوك الجزائر في الدول التي بها جالية جزائرية كبيرة، أو تلك التي يمكن رفع الصادرات الجزائرية نحوها خاصة في الدول الإفريقية".
وأشار إلى أنه "وفق المسؤولين الجزائريين، فإن هناك طلبا أودع لدى السلطات الفرنسية المختصة من أجل إنشاء فرع للبنك الجزائري الدولي في باريس، في انتظار أن يجسد ذلك في الأشهر المقبلة".
وأوضح أن "إنشاء هذا البنك، يستهدف استقطاب جزء من تحويلات الجزائريين المقيمين في فرنسا نحو الدورة البنكية الجزائرية، في ظل أن هذه الأموال التي تقدر سنويا بمليارات الدولارات تمتصها السوق الموازية للعملة، نظرا لعدم وجود قنوات بنكية ميسرة للتحويل".
وفي السياق، قال الأستاذ في إدارة الأعمال بجامعة أم البواقي الجزائرية، يوسف عطية، إن "الجزائر مطالبة باستغلال الفترة القادمة على تقدير أن الشتاء على الأبواب والقارة العجوز مهددة بموجات برد، وهو السيناريو نفسه الذي عشناه الموسم الماضي".
وأوضح لموقع "المجلة" اللندني في 2 أكتوبر 2023 أنه "في ظل حظر أوروبا إمدادات الطاقة الروسية وتوسع رقعة نشاط الشركات الغربية في اكتشافات النفط والغاز، لن يكون للاتحاد الأوروبي خيارات كثيرة لمواجهة الطلب المتزايد على الوقود والغاز الموجه للاستعمال المنزلي أو لعمليات التصنيع، سوى الجزائر".