آلاف المهاجرين يجتاحون جزيرة لامبيدوزا.. ما مصير اتفاق قيس سعيد مع أوروبا؟

12

طباعة

مشاركة

لا يزال ملف الهجرة غير النظامية عبر البحر انطلاقا من سواحل تونس في اتجاه إيطاليا، سببا مباشرا لأزمة مركّبة بين البلدين ومن ورائهما الاتحاد الأوروبي.

وشكل وصول أكثر من 8500 مهاجر غير نظامي إلى جزيرة لامبيدوزا في أقصى جنوب إيطاليا، بين يومي 11 و13 سبتمبر/أيلول 2023، صدمة لدى الإيطاليين فجرت جدلا واسع النطاق في بلدان الاتحاد الأوروبي كافة.

صدمة إيطالية 

تأتي هذه الموجة الواسعة والمفاجئة من المهاجرين غير النظاميين نحو سواحل الجزيرة الإيطالية بعد حوالي شهرين من توقيع الاتحاد الأوروبي اتفاقية إستراتيجية مع الرئيس التونسي قيس سعيد للحد من الهجرة.

وحصلت تونس بموجب الاتفاقية على معونات تقارب مليار يورو، بهدف التصدي لعمليات تهريب المهاجرين من تونس إلى السواحل الإيطالية.

وتحولت جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، والتي تقع على بعد 70 ميلا (112.6 كم) شمال تونس و130 ميلاً (209.2 كم) جنوب صقلية، إلى مركز تجمع لعشرات الآلاف من المهاجرين ومركزا لأزمة أثارت غضب الإيطاليين.

وتشهد الجزيرة الإيطالية هذه الفترة توافداً غير مسبوق لمراكب المهاجرين، ما دفع السلطات الإيطالية إلى إعلان حالة استنفار وإطلاق صيحات فزع نحو أوروبا لدعمها أمام هذا الوضع الصعب.

وذكرت الداخلية الإيطالية، وفق ما نقلته وكالة الأنباء الإيطالية "نوفا"، أنه "منذ بداية عام 2023 وحتى 14 سبتمبر 2023، وصل أكثر من 85 ألف شخص إلى السواحل الإيطالية انطلاقًا من الشواطئ التونسية، أي بمعدل حوالي 319 شخصا يوميا.

وهو ما يمثل ارتفاعا يزيد عن 360 بالمئة مقارنة بـ 18 ألفا و590 شخصا وصلوا في نفس الفترة من العام 2022، وفق بيانات وزارة الداخلية الإيطالية.

هذه الأرقام الكبيرة خلقت حالة من الصدمة لدى المسؤولين الحكوميين الإيطاليين، حيث تحدثت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني أمام الصحفيين بنيويورك في 19 سبتمبر 2023 قائلة "لن أسمح بأن تصبح إيطاليا مخيما للاجئين في أوروبا".

بدوره شدد وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني على أنه لا ينبغي الاستهانة بالمشكلة، مضيفا أن "الوضع في إفريقيا ليس قابلا للانفجار، بل انفجر بالفعل".

كما طالب الأمم المتحدة "بالتدخل لمواجهة ضغوط تزايد أعداد المهاجرين غير النظاميين الوافدين من إفريقيا" إلى بلاده.

وبحسب ما أوردته وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية في تقرير لها 15 سبتمبر 2023 فإن القوارب القادمة من تونس إلى لامبيدوزا تحمل على متنها مواطنين من دول إفريقية مختلفة، بما في ذلك ساحل العاج وغينيا والكاميرون وبوركينا فاسو ومالي والتونسيون أنفسهم.

من المسؤول؟ 

ونقلت "سي إن إن" الأميركية عن وزير الداخلية الفرنسي، جيرار دارمانين، قوله في 15 سبتمبر 2023، إنه بسبب "زعزعة الاستقرار المتسارعة في ليبيا وتونس، يصل المزيد من المهاجرين إلى الحدود الفرنسية والإيطالية".

ويقول خبراء الهجرة إن عاصفة "دانيال" التي ضربت ليبيا أجبرت المهرّبين في مدينة صفاقس الساحلية التونسية وما حولها على وقف عملياتهم لعدة أيام، ما أدى إلى اختناق.

وبمجرد تحسن الطقس، انطلق أكثر من 100 قارب حديدي صغير من الشواطئ التونسية تحمل ما بين 30 إلى 40 شخصاً، وفقا لـ"أسوشيتد برس".

 كما أن نهاية الصيف أيضًا تجعل العديد من المهاجرين يقبلون على ركوب البحر  قبل حلول فصل الخريف والشتاء القاسي.

لكن هناك عوامل أساسية أخرى أيضاً تسببت في الزيادة الكبيرة لأعداد المهاجرين، أهمها  تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي في تونس مع ارتفاع معدلات التضخم ونقص فرص العمل، ما يصيب التونسيين والأجانب الذين يعيشون هناك بالشلل.

كما أن تزايد المشاعر المعادية للمهاجرين في تونس، والتي غذتها تصريحات سعيد في وقت سابق من العام 2023، خاصة ضد الأفارقة من جنوب الصحراء، دفعتهم إلى الفرار نحو أوروبا.

وفي حديث لـ "الاستقلال" أكّد الباحث في الفكر السياسي والعلاقات الدولية جلال الورغي أن "الهجرة النظامية ملف معقد، وظاهرة عابرة للقارات والحدود وتعاني منها العديد من الدول بدرجات متفاوتة، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن السلطات التونسية تتحمل مسؤولية كبيرة فيما آل إليه الوضع".

وأضاف الورغي "يفترض ويعتقد على نطاق واسع أن تركيز السلطات في يد جهة واحدة، كما فعل الرئيس التونسي قيس سعيد، تمكن نظام الحكم من مسك جميع الملفات والقضايا بين يديه وإدارته بشكل ناجع".

بيد أن الأمر مع نظام قيس سعيد بدا غير ذلك تماما، فقد أظهر عجزا واضحا في مراقبة الحدود وضبط حركة الدخول والخروج، وهو ما يعد فشلا خطيرا له أبعاد خطيرة تتجاوز قضية المهاجرين إلى قضية الرخاوة الأمنية في البلاد، وفق قوله. 

وأضاف الباحث التونسي أن "الهشاشة والرخاوة الدبلوماسية غير المسبوقة لتونس، بسبب سياسات نظام الحكم وضعفه، لم تسعف سعيد بأن يعول على دعم المحيط الإقليمي في تأمين الحدود والسيطرة عليها، وقد يكون العكس هو ما يحصل تماما".

ورأى الورغي أن "فرص السلطات في تونس في معالجة أزمة المهاجرين غير النظاميين، تكاد تكون معدومة".

وبين أن السلطة مطالبة اليوم ببلورة خطة عاجلة أولية للاحتواء، تراعي ضوابط احترام القوانين والمواثيق الدولية.

وأردف: "يجب أن تعترف السلطة اليوم أن أزمة المهاجرين غير النظاميين المنفلتة، هي تعبيرة من تعبيرات أزمة وطنية شاملة تعانيها البلاد".  

اتفاق هش 

وأثبت تزايد أعداد المهاجرين غير النظاميين المنطلقين من السواحل التونسية، عدم نجاعة اتفاقات التعاون بين تونس والاتحاد الأوروبي من أجل التصدي للظاهرة.

إذ وقّعت تونس والاتحاد الأوروبي منتصف يوليو/تموز 2023، اتفاقا لإرساء "شراكة إستراتيجية شاملة" تركز على مجالات التنمية الاقتصادية والطاقات المتجدّدة ومكافحة الهجرة غير النظامية، وتهدف أيضاً إلى المساعدة في مواجهة الصعوبات الاقتصادية الكبيرة.

وبموجب الاتفاق، وافق الاتحاد الأوروبي على تقديم نحو 100 مليون يورو سنوياً لعمليات البحث والإنقاذ وإعادة المهاجرين إلى تونس.

 وستحصل تونس على حوالي 900 مليون يورو على عدة سنوات، وقال سعيد بعد محادثات مع رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين وزعماء أوروبيين آخرين في يوليو 2023  إنه "مصمم" على تنفيذ الاتفاق "بأسرع وقت ممكن".

وعلى الرغم من أن اتفاقية الهجرة مع تونس لم تتم الموافقة عليها بشكل نهائي بعد من قبل البرلمان الأوروبي، فقد تعرضت لانتقادات واسعة مبنية على الشك في مدى فعاليتها.

كما يرى الكثير من الأوروبيين أن موجة الهجرة الاستثنائية التي واجهتها جزيرة لامبيدوزا دليل قوي على فشل الاتفاق مع تونس، الذي يتجاهل المسائل الحقوقية.

لكن رئيسة حكومة إيطاليا ترى أن الاتفاقية التونسية الأوروبية (التي بذلت جهداً كبيراً من أجلها) كانت تهدف للحد من موجة الهجرة من جهة، ودعم الاقتصاد التونسي من جهة أخرى.

وأضافت في مقطع مصور نشرته على حساباتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي في 16 سبتمبر 2023 أن "جزءاً من أوروبا يأخذ الاتجاه المعاكس للأسف، وهناك بعض القوى السياسية تعد تونس نظاما قمعيا لا يمكن الاتفاق معه".

ورأت أن "هذه القوى تعد أيضا أن تونس بلد غير آمن، وعلى هذا الأساس لا يمكن إعادة المهاجرين السريين إليه"، مضيفة أنه "على الرغم من الاتفاق الموقّع مع الاتحاد الأوروبي الذي يقضي بتسليم (البلد المغاربي) 250 مليون يورو، فإنه لم يجر تحويلها بعد".

وفي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أمام فشل الوعود بإيقاف نزيف قوارب المهاجرين المتجهة إلى إيطاليا، شنت السلطات التونسية حملة أمنية واسعة في مدينة صفاقس الساحلية ( جنوب شرق تونس) استهدفت فيها مواقع تواجد المهاجرين الأفارقة.

وطرد الأمن التونسي مئات الأفارقة القادمين من جنوب الصحراء، من وسط مدينة صفاقس، بعد أن طردوا من منازلهم أوائل يوليو 2023 بعد موجة عنف اندلعت بينهم وبين الأهالي.

وقالت وزارة الداخلية التونسية في بيان لها 19 سبتمبر 2023 إنه خلال حملة أمنية نفذتها في مناطق ساحلية عدّة، تمكنت من "إحباط 117 عملية اجتياز للحدود البحرية خلسة ونجدة وإنقاذ 2507 مجتازين من إفريقيا جنوب الصحراء وتونسيين وإلقاء القبض على 62 شخصا من المنظمين ووسطاء".

ويقابل هذا الوضع، خطابات متضاربة من قبل السلطات التونسية، فمن جهة تبحث عن تمويل سريع لتدارك الأزمة الاقتصادية التي تعيشها وتسعى إلى تطبيق عاجل لمذكرة التفاهم الموقعة مع الأوروبيين، في حين يكرر سعيّد قوله بأنه لا يريد أن تصبح تونس حارسة حدود أوروبا على الرغم من أن ذلك أحد بنود الاتفاق.

ويرى المراقبون للشأن التونسي أن السلطات أمام اختبار حقيقي، فالتزامها في الحد من الهجرة غير النظامية وما يسفر عنه من تزايد أعداد المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء سيخلق حالة من الاحتقان في صفوف التونسيين الذين يواجهون أزمة اقتصادية غير مسبوقة ولا يرى الكثير منهم حلا سوى الهجرة.

وفي صورة فشل السلطات في ضبط الحدود والتصدي للهجرة فإنها ستخسر اتفاقا قد يمثل فرصة أخيرة لسد جزء من العجز المالي المسجل في موازنتي العام 2022 و2023، بعد فشل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.