أزمة التعليم الابتدائي في تونس.. هكذا كشفت تراجع قوة "اتحاد الشغل" 

12

طباعة

مشاركة

وضعت أزمة التعليم الابتدائي في تونس، "الاتحاد العام للشغل" من جديد في واجهة الأحداث، بعد أن نأى بنفسه لأشهر عن التعبير عن مواقف من الشأن العام في البلاد، رغم تراكم الأزمات واتجاه السلطة في خيارات سبق أن أكد الاتحاد رفضها.

ووجد الاتحاد نفسه هذه المرة في مواجهة أحد قياداته السابقين، وزير التربية الحالي محمد علي البوغديري، الذي شغل منصب مساعد الأمين العام للمنظمة النقابية، وأحد أهم خصوم الأمين العام الحالي، نور الدين الطبوبي.

ويعيش قطاع التعليم في تونس منذ أشهر على وقع أزمة غير مسبوقة بين نقابة التعليم الابتدائي ووزارة التربية، على خلفية مطالب نقابية يتمسك المعلمون بتحقيقها منذ سنوات.

وتأتي هذه الأزمة في ظروف صعبة تعيشها البلاد تميزت بانسداد سياسي منذ انقلاب 25 يوليو/تموز 2021، وأزمة اقتصادية غير مسبوقة أثرت سلبا على كل فئات المجتمع ومن بينهم المعلمون.

عقاب جماعي  

وأخذت الأزمة بين نقابة التعليم الابتدائي ووزارة التربية في تونس تصعيدا غير مسبوق بعد قرار وزير التربية البوغديري في 10 يوليو/تموز 2023 إعفاء 350 مدير مدرسة من مناصبهم، وحجز رواتب شهرية لـ17 ألف مُعلم، على خلفية رفضهم معالجة تقييمات الاختبارات التي سلّمها المعلمون إلى الإدارة.

وأبقت النقابة على قرار حجب أعداد (نتائج) الاختبارات والتقييمات النهائية طوال العام الدراسي وحتى نهايته في يونيو/حزيران 2023، وأدى ذلك إلى احتجاجات متكررة من أولياء أمور التلاميذ وانتقاد كبير من قبل السلطة.

وعلق وزير التربية في تصريح لوسائل إعلام محلية في 5 يوليو/تموز 2023، على هذه القرارات بالقول إن "عدم حصول التلاميذ على الأعداد المدرسية (النتائج) كارثة وجريمة في حق أبناء الشعب".

وشدد على أن "القانون هو الفيصل بين الحكومة ومن يتجاوز القانون"، مضيفا أن "من يتخيّل أن السلطة ضعيفة فهو واهم".

من جهتها، عقدت نقابة التعليم الابتدائي اجتماعا لمكتبها التنفيذي يوم 17 يوليو/تموز 2023 أصدرت إثرها بلاغا أعلنت فيه عن تنفيذ وقفات احتجاجية بمقرات المندوبيات الجهوية للتربية ، تنتهي بتنظيم يوم غضب وطني.

وقال إقبال العزابي، وهو مسؤول بنقابة التعليم الابتدائي، لوكالة "رويترز" البريطانية، إن "تصرفات الوزير الانتقامية الغاية منها تجويع المدرسين وضرب العمل النقابي... هي ابتزاز وخطوة غير قانونية"، وفق تقديره.

وردا على هذا التوجه، كانت نقابة التعليم الأساسي (الابتدائي) قد أكدت أن مئات المديرين قدموا استقالاتهم، وأشارت إلى أن العام الدراسي المقبل سيكون صعبا، في إشارة لتحركات احتجاجية متوقعة.

ودخل الرئيس التونسي قيس سعيّد على خط الأزمة حيث قال في كلمة له بمناسبة يوم العلم الموافق لـ10 أغسطس/آب 2023  أن "مسألة حجب الأعداد لا يُمكن القبول بها مستقبلا"، محذّرا من أن "التلاميذ ليسوا رهائن للمعلمين والأساتذة".

وأكد سعيّد أن "مطالب الأساتذة والمعلمين مشروعة، لكن الانخراط في معركة تحرير الوطن واجب مقدس محمول عليهم جميعا".

ومع القرارات العقابية التي اتخذتها وزارة التربية والخطاب التصعيدي من السلطة، بالإضافة إلى الحملات الإعلامية التي استهدفت المعلمين، تراجعت نقابة التعليم عن مطالبها ودعت في بلاغ إلى الحوار مع الوزارة.

وعد قرار الوزارة ومواقف سعيد سابقة في طريقة تعامل السلطة مع اتحاد الشغل بعد الثورة، والذي كان خلال السنوات التي سبقت انقلاب 25 يوليو/تموز 2021 تتجنب كل الحكومات التصعيد معه وتحاول إرضاءه بالتعيينات من جهة وبتحقيق مطالبه من جهة أخرى.

صراع قديم

الظاهر من الأزمة بين نقابة التعليم الابتدائي والسلطة الحاكمة أزمة مطالب نقابية ترتبط بإمكانيات الدولة لتخصيص التزامات مالية لقطاع بعينه، وهو ما حصل في مناسبات عديدة منذ سنوات ومع مختلف النقابات.

ولكن المدقق في حجم هذا الصراع وخلفياته يجد أنه مركب بين ما هو مطلبي نقابي وبين ما هو سياسي، بالإضافة إلى صراع داخلي صلب الاتحاد العام التونسي للشغل.

فالوزير المثير للجدل والذي وصفت بيانات المنظمة النقابية تصريحاته بـ"اللامسؤولة" هو الأمين العام المساعد السابق في الاتحاد العام للشغل قبل المؤتمر الأخير الذي انعقد عام 2021.

وما يميز البوغديري بشكل خاص هو خلافه مع قيادة اتحاد الشغل الحالية وعلى رأسها الطبوبي، إذ كان من معارضي عقد المؤتمر الأخير للاتحاد والذي تم خلاله إعادة انتخاب الطبوبي أمينا عاما لدورة ثالثة.

وكان المجلس الوطني للاتحاد، الذي عُقد في 26 أغسطس/آب 2020، قد دعا إلى عقد مؤتمر استثنائي غير انتخابي في يوليو 2021 عدل بموجبه القانون الأساسي الذي فتح الباب على مصراعيه أمام تجاوز دورتين في المكتب التنفيذي وهو ما عُدّ "تعديلا على قياس أشخاص".

كما أن البوغديري أحد أبرز الشخصيات المساندة لانقلاب 25 يوليو 2021 منذ لحظاته الأولى، لينخرط بعدها ضمن مبادرة "لينتصر الشعب" ويعلن دعمه بوضوح لتوجهات سعيّد.

وندّد الاتحاد بالتصريحات التي وصفها بـ"اللاّمسؤولة الصادرة عن وزير التربية بنعته المعلّمين بالمغامرين والمجرمين وتحريض الأولياء والرأي العام ضدّهم والمغالاة في التهجّم عليهم بما يسيء إلى سمعة المربّي ويزعزع الثقة في المدرسة العمومية". 

وأدانت المنظمة في بيان "حملات الشيطنة والتشهير والشحن والتجييش والتحريض ضد الاتحاد التي يصدر بعضها عمن يدّعون الانتماء إليه سابقا وتدعوهم إلى الكفّ عن التدخل في الشأن النقابي واحترام استقلالية الاتحاد".

ولا يستبعد عدد من المتابعين للوضع السياسي في تونس أن تلجأ السلطة لخيار ضرب الاتحاد من الداخل، عبر خلق أزمة شرعية وسطه، ودعم أحد الأطراف المساندة لانقلاب 25 يوليو 2021 للسيطرة على المنظمة.

وسبق لنظام سعيد أن انتهج نفس التخطيط داخل الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، حين تم إزاحة رئيسه عبد المجيد الزار وتنصيب نور الدين بن عياد رئيسا للمنظمة أياما قليلة بعد لقائه معه في قصر قرطاج يوم 11 مايو/ أيار 2022.

تحديات كبيرة

ما ميز الاتحاد خلال السنوات الماضية، هو نجاحه في الحفاظ على وحدته في وجه كل الحكومات المتعاقبة ومحاولات شق صفوفه لأسباب سياسية أو إيديولوجية أو فئوية، رغم تشكله من تيارات سياسية مختلفة.

إلا أن عددا من المراقبين يرون أن توصّل وزارة التربية إلى اتفاق مع نقابة التعليم الثانوي في 22 مايو 2023، وضع نقابة التعليم الأساسي في الزاوية وحرمها من حليف للتصدي لسياسات وزير التربية، وأشار إلى حجم الأزمة داخل الاتحاد.

ويقود نقابة التعليم الثانوي، لسعد اليعقوبي، المنتمي للتيار القومي العربي والمساند لانقلاب 25 يوليو، كما أنه من نفس الشق المعارض للقيادة الحالية للاتحاد رفقة وزير التربية، البوغديري.

ورأى المحلل السياسي التونسي، الحبيب بوعجيلة، أن "الاتحاد العام التونسي للشغل يعيش مشكلة في خطته السياسية والنقابية بعد 25 يوليو 2021".

وأوضح بوعجيلة لـ"الاستقلال"، أنه" عندما تم اتخاذ إجراءات 25 يوليو، تغيرت العلاقة بين الاتحاد وسعيد إلى علاقة متوترة وجفاء، حيث قدم الاتحاد قبلها مبادرة للتعامل مع الأزمة السياسية، ولكن تم رفضها من قبل الرئيس، رغم أن الاتحاد أعرب عن دعمه للانقلاب وعده تصحيحا للمسار".

واستدرك: "لكن مع صدور المرسوم 117 في 22 سبتمبر 2021 (حوّل كل السلطات إلى الرئيس)، شعر الاتحاد بأنه سيتم تجاوزه، مما أثر على دوره كوسيط في الأوضاع السياسية التي تعيشها البلاد".

وأكد بوعجيلة أن "الاتحاد طالب بخارطة طريق، لكن تبون عبر عن عدم رغبته في التعامل معه، مما يشير إلى عدم اهتمامه بالتعامل مع منظمة معتبرا إياها جزءا من الأزمة السياسية ، كما أن الانقسام الداخلي في الاتحاد كان واضحا، مع تباين وجهات النظر بين مختلف الأطراف، وتصاعد الخطاب النقابي المعارض للانتخابات".

وشدد على أن "الاتحاد العام التونسي للشغل يواجه تحديات كبيرة في ضوء التغيرات السياسية والنقابية بعد 25 يوليو 2021، ويجب عليه اتخاذ إجراءات مناسبة لمواجهة هذه التحديات وتحقيق أهدافه".

وأشار بوعجيلة إلى أن "الاتحاد سيجد صعوبة في التحرك في القضايا الكبيرة، خاصة فيما يتعلق باتفاقيات مع صندوق النقد الدولي والخوصصة وتقليل عدد الموظفين في الوظيفة العمومية ورغم تبنى الاتحاد العديد من المواقف النقدية والمعارضة، ولكن يبدو أنه في ظل الوضع السياسي والاقتصادي الحالي، تناقصت قدرته على التأثير بنفس القوة".

وأكد أن "تحديات الاتحاد مستمرة، وأنه قد يحتاج إلى إعادة تقييم إستراتيجيته وتكتيكاته لتعزيز تأثيره والدفاع عن مصالح العمال والشغيلة في تونس، في ظل الظروف المتغيرة".

وبداية أغسطس/آب 2023، أصدرت مجموعة معارضة تسمي نفسها "اتحادنا للمعارضة النقابية"، ورقة عبر صفحتها على "فيسبوك"، موجهة للقيادة الحالية للاتحاد العام للشغل، حيث رأت أنها "لا تتمتع بالشرعية الكاملة وتمارس سياسات سلبية تجاه التطورات والتحديات التي تواجه العمال والطبقة العاملة".

وطالبت المجموعة النقابية المعارضة بإرجاع الاتحاد إلى مساره التاريخي والالتزام بالاستقلالية التامة عن السلطة، وتنصيب هيئة تسييرية مؤقتة تعمل على عقد مؤتمر جديد للمنظمة بموجب نظامها الداخلي لسنة 2017.

وما يظهر من خلال تخلّي الاتحاد عن خطابه الحاد تجاه السلطة والذي رافقه طيلة السنوات التي تلت ثورة العام 2011، وتعدّد صراعاته الداخلية، فقدان موقعه المتقدم في تونس وتأثيره في المشهد السياسي في البلاد.

ولا يخفي كثيرون من النقابيين تخوفهم من أن يكون الاتحاد الهدف المقبل من السلطة بعد تمكنها من ضرب الأحزاب السياسية وإخضاع القضاء والتضييق على وسائل الإعلام.