حادث العريش فضحهم.. ماذا يجمع كبار ضباط النظام المصري مع زعماء البلطجية؟
لم يكن الغموض الذي يحيط بالتطورات الأخيرة في العريش متعلقا بطبيعة الحادثة نفسها فحسب، بل بملفات متعددة كشفتها الواقعة المأساوية.
وأسفرت حادثة الاشتباك المسلح عن مقتل ثمانية عسكريين مصريين داخل مقر الأمن الوطني (أمن الدولة سابقا) في مدينة العريش بمحافظة شمال سيناء، يوم 30 يوليو/تموز 2023.
وصرحت مصادر أمنية لوكالة رويترز البريطانية أن محتجزين استولوا على أسلحة داخل مجمع الأمن المركزي بالعريش مما أسفر عن الحادث، دون مزيد من التفاصيل عن طبيعة الهجوم ووسط غياب الرواية الرسمية.
ومن حلقات الغموض، إصدار من يعرف بـ "زعيم البلطجية في مصر" صبري نخنوخ، نعيا للعقيد محمد مؤنس أحد قادة العمليات في الأمن الوطني، والذي قتل جراء الحادثة.
نعي نخنوخ لمؤنس فتح باب تساؤلات عن شكل العلاقة التي تجمع كبير البلطجية، بضابط شرطة بارز له ثقله في منظومة الأمن كمؤنس.
خاصة أن تلك المسألة تكررت أكثر من مرة، فالراحل العقيد أركان حرب أحمد المنسي، الذي قتل في سيناء، كانت له أيضا علاقة مباشرة بسالم لافي أحد أباطرة العصابات في المنطقة، والذي قتل هو الآخر خلال المعارك الدائرة في سيناء،
فإلى أي مدى يكون التنسيق بين نظام عبد الفتاح السيسي ممثلا في ضباطه وأجهزته الأمنية، وبين زعماء البلطجية الذين يشكلون طابورا خامسا للنظام، وجيشا خفيا يستعان به وقت الحاجة؟
مؤنس ونخنوخ
وبالعودة إلى حادثة العريش، فما إن بدأت أخبار الفاجعة تتوارد، حتى كتب صبري نخنوخ، على حسابه الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي "تويتر" قائلا: "إنا لله وإنا إليه راجعون، البقاء لله استشهد أخويا وحبيبي وعشرة عمري العميد (رتبته عقيد) محمد مؤنس الدعاء له بالرحمة والمغفرة".
ولمعرفة مدى غرابة ذلك النعي، أن يصف أحد كبار البلطجية في مصر، عقيدا بالشرطة أنه أخوه وعشرة عمره (للتعبير عن صداقة ممتدة على مر الزمن)، فيجب معرفة من يكون هذا أو ذاك.
فمحمد مؤنس كما وصفته صحيفة "الأخبار" الرسمية المحلية، هو عقيد بجهاز الشرطة، وقائد من قوات الأمن الوطني في منطقة شمال سيناء.
وقد تخرج في أكاديمية الشرطة قبل 20 عاما، ويعد من القادة المهمين في الجهاز، خاصة في قطاع الأمن الوطني، بديل "أمن الدولة" المنحل عقب ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، بسبب الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها ذلك الجهاز سيئ السمعة.
على الناحية الأخرى يأتي صبري نخنوخ الصديق الحميم للعقيد المقتول، وبحسب تقرير نشره موقع "العربية" السعودي في 30 أغسطس/ آب 2012، فهذا الشخص هو قائد أكبر جيش للبلطجية في مصر.
حتى أطلقت عليه وسائل الإعلام ألقابا عديدة مثل أسطورة البلطجة أو مدير العالم السفلي أو وزير الداخلية الموازي.
وولد صبري حنا نخنوخ عام 1963، وبدأ حياته عاملا مع والده تاجر الخردة بمنطقة السبتية "الشعبية" في القاهرة.
ونظرا لأن السبتية تشهد صراعات مستمرة بين تجار الخردة، فقد استهوت صبري فكرة شراء الأسلحة النارية خاصة النوع الآلي منه، وإقامة علاقة واسعة مع البلطجية، حتى كون جيشا كبيرا منهم.
لمع نجم نخنوخ منذ عام 2000، وزود السلطات الأمنية بالأعداد اللازمة من البلطجية للسيطرة على مكاتب الاقتراع في الانتخابات وتزوير النتائج.
وربما يفسر علاقة نخنوخ بالعقيد مؤنس وكبار ضباط الشرطة، ما نشره موقع "إذاعة مونت كارلو" الفرنسية في 20 مايو/أيار 2018، أن زعيم البلطجة كان على تعاون وثيق مع أجهزة الشرطة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.
حتى إن البعض يحمله مسؤولية الكثير من الأحداث الدامية بدءا من تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية وحتى مذبحة ماسبيرو مرورا بموقعة الجمل ومذبحة استاد بورسعيد.
وقال الموقع الفرنسي: "إنه كان يملك مكاتب لإدارة شبكة واسعة من البلطجية في مناطق البساتين والمهندسين والهرم وفيصل، وجمع ثروة طائلة من فرض الإتاوات على أصحاب المحلات، وتأجير بعضها في منطقتي الهرم والمهندسين، وحماية الكازينوهات والكباريهات".
أسطورة البلطجة
إمبراطورية نخنوخ التي شيدها خلال عهد مبارك على عين أجهزة الأمن، بدأت تواجه مصيرها بعد ثورة يناير، وخلال عهد الراحل محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا في مصر.
وفي 23 أغسطس/آب 2012، اقتحمت قوات الأمن قصر نخنوخ في منطقة "كينغ مريوط" بالإسكندرية وألقت القبض عليه بتهمة حيازة أسلحة ومخدرات.
القصر الفخم الذي كان يعيش فيه نخنوخ، عزز الروايات حول الرجل، حيث وصفته محاضر التحقيق بقلعة حصينة يصعب الاقتراب منها.
إذ يحيط بها سور ارتفاعه 3.5 أمتار وله بوابة رئيسية من الحديد بارتفاع 4 أمتار بها 3 شبابيك ضيقة تشبه فتحات خاصة لإطلاق الرصاص، مع أجهزة مراقبة بالكاميرات.
ووجد رجال الأمن في حديقة القصر أقفاصا بها 6 كلاب حراسة كبيرة و5 أسود، إلى جانب الكثير من الحيوانات الأليفة مثل نعامة وقرود وأنواع من الغزلان. كما يتألف القصر من ثلاثة مبان، يحتوي أحدها على صالة ديسكو كاملة.
وفي مايو 2013 أصدرت محكمة جنايات الإسكندرية، حكما بإدانة نخنوخ بالسجن المؤبد (25 سنة) كأقصى عقوبة في جرائم حيازة السلاح، وأيدت محكمة النقض الحكم في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2014.
لكن المفاجأة حدثت في 16 مايو 2018، عندما أصدر رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، عفوا رئاسيا عن نخنوخ، رغم تاريخه الأسود، وكل الجرائم الموجهة إليه.
وعاد نخنوخ مرة أخرى إلى الحياة العامة وظهر في كثير من المناسبات الخاصة بسياسيين وفنانين ومشاهير.
ثم ها هو يقدم نعيا خاص بعقيد الشرطة البارز محمد مؤنس، ليدون سطرا في ملف علاقة الضباط بالبلطجية.
المنسي ولافي
ولا يمكن إغفال العلاقة التي جمعت العقيد أركان حرب أحمد المنسي، قائد عمليات الكتيبة 103 بالقوات المسلحة، وسالم لافي أحد زعماء حرب العصابات في سيناء.
والذي كانت له صولات وجولات بصفته من أبناء قبيلة الترابين الشهيرة، ولطالما خاض اشتباكات ضد عناصر الأمن والجيش.
وفي 10 مايو 2017 قتل سالم لافي خلال الاشتباكات التي وقعت بين قبيلته وتنظيم أنصار بيت المقدس.
بعدها نشر العقيد أحمد المنسي صورة "لافي" على حسابه الخاص بموقع "فيسبوك"، ونعاه ونعته بـ "الشهيد" و"البطل".
نعي المنسي فتح باب السؤال عن لافي الذي صوره إعلام النظام المصري على أنه بطل أيضا، وهل كان كذلك في خدمة الجيش أم له أنشطة أخرى؟
وأول ظهور لاسم سالم لافي كان في 2008 على خلفية الصدام بين بدو سيناء وبين الشرطة.
وحدث ذلك بسبب اعتقال العشرات من شباب القبائل وتضييق الشرطة الشديد على عرب سيناء على خلفية تفجيرات طابا 2004 وشرم الشيخ 2005.
في ذلك الوقت كان سالم لافي من التجار المتعاونين مع الأمن في منطقة الشيخ زويد.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2008 طلب الأمن من لافي وصديقه إبراهيم العرجاني المساعدة في تهدئة احتجاجات نفذتها مجموعة من قبيلة الترابين بسبب اعتقال بعض أبنائهم.
أرسل العرجاني شقيقه أحمد وصديقين لتهدئة الاعتصام، لكن في الطريق، وفي ظروف غامضة، حدث ما لم يكن منتظرا.
إذ عمل ضابطان من الشرطة وأربعة عساكر على قتل أحمد العرجاني وصديقيه وألقوهم في مجمع للنفايات.
شراكة مع المجرمين
ردا على الحادث، احتجز لافي والعرجاني، رفقة مجموعة من قبيلة الترابين أفراد الشرطة في نقطة حدودية.
وأرسل مجلس الشعب وقتها لجنة تقصي حقائق، والتقى لافي بلجنة الدفاع والأمن القومي في البرلمان.
ووفقا لصحيفة "اليوم السابع" المصرية، تضمن اللقاء كشف بعض الأسرار عن تعاون لافي والعرجاني مع الأمن.
وهو ما أغضب قيادات الأمن ودفعهم لاعتقال العرجاني ولافي فورا في ديسمبر/كانون الأول 2008.
وقتها كان الإعلامي المحسوب على النظام مصطفى بكري، أحد أشد المدافعين عن لافي ونعاه أيضا بعد مقتله في حلقة شهيرة من برنامجه المذاع على قناة صدى البلد.
ولكن في ظروف نادرة وغامضة هرب سالم أبو لافي من سيارة الترحيلات بمنطقة بئر العبد، في فبراير/شباط 2010.
المثير أنه في يوليو 2010، التقت صحيفة "المصري اليوم" المحلية، مع سالم أبو لافي الهارب في ذلك الوقت، وقال إن الشرطة تستهدفهم بسبب اضطهادها للبدو عموما.
وفي 13 سبتمبر/أيلول 2010، قضت محكمة جنايات شمال سيناء بالسجن المؤبد لـ 6 أفراد من قبيلة الترابين لمقاومة السلطات، على رأسهم سالم أبو لافي.
وكان سبب الحكم أنهم أحرزوا أسلحة محظورة من بينها الجرونوف والأربيجيهات وأنهم قاوموا السلطات وأصابوا مدرعة للشرطة، خلال مأمورية للقبض على لافي في وسط سيناء، حيث تصدوا للقوة بالأسلحة الثقيلة.
ومع ذلك جرى إغلاق ملف لافي بعد الثورة وانخرط في دعم أجهزة الأمن خلال الصراع في سيناء، ووصل الأمر أن نعاه قائد الكتيبة 103 أحمد المنسي عندما قتل.
والمنسي نفسه رحل في 7 يوليو 2017 (بعد شهرين من مقتل لافي) خلال أحداث هجوم كمين البرث نتيجة إصابته بطلق ناري، حيث كان فوق سطح المبنى يطلق النيران على العناصر المسلحة.
الطابور الخامس
وعلق الباحث السياسي محمد ماهر على العلاقة بين ضباط الجيش والشرطة والبلطجية وزعماء العصابات في مصر، بالقول إنها قديمة ووطيدة تميز بها العقل الأمني خلال عهد مبارك.
وبين في حديث لـ"الاستقلال" أن تلك العلاقات وازدهرت وتطورت خلال حكم المجلس العسكري بعد ثورة 25 يناير، وما بعد انقلاب 3 يوليو 2013.
وقال ماهر: "المجلس العسكري استخدم البلطجية لإحداث الفوضى وإرباك المشهد عقب الثورة والعديد من التحقيقات رصدت ذلك الأمر، مثل فيلم (المندس) الشهير الذي عرضته قناة (الجزيرة) قبل أعوام، ورصد علاقة ضباط الشرطة بالبلطجية ومجموعات (البلاك بلوك) الإثارية".
وأضاف: "من الطبيعي أن نجد في ظل تلك الحالة علاقات وطيدة كعلاقة نخنوخ بمؤنس والمنسي بلافي، لأنهم في خط واحد وفي مهمة واحدة".
وأوضح أن "البلطجية هم الذراع اليمنى لأجهزة الأمن والمخابرات، وبهم جرى ضرب الثورة وسحق المنخرطين في العمل السياسي من الشباب وغيرهم".
واستطرد: "النظام يعلم جيدا أنه سيحتاج هؤلاء لتأمين نفسه، وأنه في حالة الانفلات سيعود جيش البلطجية للمشهد مرة أخرى، ولهذا يحرصون على (كسب) ولائهم والتواصل معهم، والاستعانة بهم".
واختتم: "تلك العلاقة تعبر عن مدى التفكك في مفهوم الدولة والمؤسسات، وأن مصر على خطى دول أميركا اللاتينية في السبعينيات والثمانينيات، في عصور الانقلابات العسكرية، وتفشي العصابات، واستفحال ظاهرة المافيا".
حتى إن رجال الشرطة أنفسهم كانوا يعملون عند زعماء العصابات في تلك البلدان، ويتقاضون الأجور منهم، وهو أمر غير مستبعد في مصر تحت مظلة حكم السيسي، وفق تقديره.
المصادر
- «وصفه بأنه حبيبه وأخوه وعِشْرة عمره».. ما الذي يجمع ضابط الأمن الوطني وزعيم البلطجية نخنوخ ؟
- منسي الداخلية.. من هو العقيد محمد مؤنس شهيد حادث العريش
- العفو الرئاسي، و"نخنوخ" أسطورة البلطجة في مصر
- الحكم بالسجن المؤبد على سالم أبو لافى و6 آخرين من قبيلة الترابين
- شاهد.. نعي الشهيد منسي لـ"سالم لافي": في ذمة الله يابطل الظل