من الكاملي إلى محمد صلاح.. كيف نسفت "السوشيال ميديا" رواية النظام المصري؟
كان التوقيت يشير إلى فجر السبت 3 يونيو/ حزيران 2023، عندما تمكن المجند المصري، محمد صلاح، من الولوج إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عبر المنطقة الحدودية في سيناء بين جبل حريف وجبل ساغي في منطقة لواء باران عند معبر العوجة.
أطلق صلاح الرصاص على قوة تأمين تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، ما أسفر عن مقتل جندي وجندية، ثم استكمل تسلله حتى قتل جنديا آخر وجرح ضابطا قبل أن تتمكن قوات الاحتلال من قتله.
ولم يصدر المتحدث العسكري للقوات المسلحة، غريب عبد الحافظ، أي بيان أو تفاصيل إلا بعد قرابة 11 ساعة من الواقعة، حيث نشر بيانا مقتضبا في تمام الساعة الثانية ظهرا، حتى إن البيان حوى مغالطات أن المجند المصري "كان يطارد مجموعة من مهربي المخدرات".
بيان المتحدث العسكري حاول أن يسبغ رواية بعينها على الحادثة، ويفرض الصمت المبدئي مؤقتا حتى ينسج خيوط القصة، قبل أن تباغته مصادر أخرى كسرت تلك المحاولة.
اختراق الصمت
فبداية الملاحظات أن بيان الجيش المصري لم يتطرق إلى هوية منفذ الحادث بالصورة أو الاسم، فيما التزمت وسائل الإعلام التابعة للنظام الصمت التام.
انتقد كثيرون طريقة التعامل المبهمة مع الحادثة، وتأخر الجيش في نشر البيان وصمت إعلام النظام الذي تعامل بتكتم شديد ولم يفصح عن اسم أو صورة الجندي منفذ العملية، ولم يذكر ما إذا كان تم استلام جثمانه من جيش الاحتلال أم لا، تاركا جانبا آخر يشكل رؤية المصريين.
كان ذلك الجانب هو الإعلام الجديد "النيوميديا" أو وسائل التواصل الاجتماعي، التي بحثت وأظهرت الاسم الكامل للمجند، ووصلت إلى حسابه في "فيسبوك" ورصدت صورته ومنشوراته وتوجهاته الفكرية والدينية.
فحين تحفظ المتحدث العسكري للجيش المصري عن ذكر هوية صلاح، كانت مواقع التواصل الاجتماعي تعج بالمعلومات، فسرعان ما عرف أن اسمه محمد صلاح إبراهيم، وعمره 23 عاما، وينحدر من منطقة عين شمس شرق القاهرة، وأن خدمته العسكرية كانت في محافظة سيناء.
ونشرت معلومات تفصيلية أخرى أن صلاح لا يحمل أي مؤهل عال، وأنه حاصل على الشهادة الإعدادية، لكنه يجيد القراءة والكتابة ومحب للسفر والرسم.
وتم الوصول أيضا إلى توجهاته الفكرية بكونه داعما للقضية الفلسطينية، فخلال العدوان الإسرائيلي على غزة في مايو/ آيار 2021، كتب صلاح على صفحته بـ"فيسبوك" يقول إن "الله يقف بجانب فلسطين".
أما آخر تدوينة للمجند في قوات "الأمن المركزي" التابعة للشرطة، على صفحته بـ"فيسبوك"، كتب يقول "اللهم كما أصلحت الصالحين أصلحني واجعلني منهم"، ثم أرفقها بصورة له وهو يمتطي حصانا في منطقة صحراوية.
وسرعان ما تحول صلاح إلى بطل شعبي، بفضل الرواية الحقيقية التي خرجت سريعا من رحم منصات التواصل ونشطائها، ولم تكن هذه الحادثة الأولى التي تحطم فيها تلك المواقع رواية النظام.
أحمد الكاملي
كانت واقعة المجند أحمد الكاملي، ابن مدينة أخميم بمحافظة سوهاج في صعيد مصر، الذي لقي مصرعه مطلع مايو/ آيار 2020، عندما أعلن المتحدث العسكري أن عبوة ناسفة انفجرت بإحدى المركبات المدرعة جنوب مدينة بئر العبد (شمالي سيناء)، ما أسفر عن سقوط ضابط وضابط صف و8 جنود.
ورغم أن الحادثة مكررة في سيناء في ظل الحرب المستعرة هناك منذ سنوات، حاصدة أرواح العسكريين والمدنيين على حد سواء، لكن هذه هي المرة الأولى التي تحذف فيها وسائل إعلام وصحف رسمية تابعة للنظام اسم وصورة أحد الجنود من قوائم الشهداء.
فما قصة الكاملي؟ ولماذا حذفت صحف وإعلام النظام صورته بعدما أشادت بشجاعته وبطولته؟.
عندما أعلن عن رحيل الكاملي في سيناء، بدأ نشطاء منصات التواصل الاجتماعي في تتبع حسابه الشخصي على موقع "فيسبوك".
فكانت آخر تدوينة كتبها الكاملي على صفحته التي قال فيها: "سيشهد التاريخ أني قد ولدت ذكرا، وتربيت رجلا وعشت محاربا، وسأموت بطلا إن شاء الله، فكن من تكون فأنا لا أرى أحدا".
ونشر الكاملي صورة له في سيناء، وعلق عليها مستشهدا بأبيات من الشعر "سأضرب في طول البلاد وعرضها.. أنال مرادي أو أموت غريبا، فإن تلفت نفسي فلله درها.. وإن سلمت كان الرجوع قريبا".
ففي اليوم الذي توفي فيه رئيس الجمهورية المنتخب ديمقراطيا، محمد مرسي، الذي انقلب عليه وزير دفاعه عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو/تموز 2013، كتب أحمد الكاملي على حسابه بـ"فيسبوك" في 17 يونيو 2019 ناعيا إياه "قتلوه قاتلهم الله أنى يؤفكون، وداعا سيدي الرئيس".
ومع ظهور فيروس كورونا، سخر الكاملي من طريقة تعامل الحكومة مع الأزمة، بنشره صورة متهكمة لسيدة تقول للسيسي، "خد بالك ياريس كورونا هيدمر البلد" فرد عليها "لا ياحجة متخافيش مفيش بلد ولا حاجة!".
ظهرت معارضة الكاملي بوضوح للحكم العسكري، عندما دون "يا أيها الحاكم العسكري على نفسك مش علينا.. بكره ييجي الفجر قهرا للي خانوا الحلم فينا.. اليقين مهما بتقمع ضله بيطبطب علينا".
مواقف الكاملي المعارضة للسيسي ومنظومته العسكرية، وضعت الأجهزة الأمنية والإعلامية للنظام في حرج، خاصة أنهم دأبوا يصورون معارضي النظام كإرهابيين.
صحيفة "اليوم السابع" المملوكة لجهاز المخابرات، حذفت صورة الكاملي، من "قائمة الشهداء".
ونشرت الصحيفة على موقعها الإلكتروني وصفحتها على "فيسبوك" صورا لـ9 أمنيين فقط ضمن ما قالت إنها لوحة شرف أبطال بئر العبد، مستبعدة الجندي "أحمد علي محمد أحمد"، الشهير بـ"أحمد الكاملي" من اللوحة.
زمن خاطر
قصة محمد صلاح وأحمد الكاملي، ومدى قدرة وسائل التواصل الاجتماعي في كشف المعلومات، ذكرت بعهود قديمة حيث كانت القصة والرواية حكرا على النظام فقط.
مثلما حدث مع المجند سليمان خاطر، وقد بدأت الأحداث في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1985، فأثناء قيام خاطر بنوبة حراسته المعتادة بمنطقة رأس برقة جنوب سيناء فوجئ بمجموعة من السياح الإسرائيليين يحاولون تسلق الهضبة التي تقع عليها نقطة حراسته.
أخبرهم بالإنجليزية أن هذه المنطقة ممنوع العبور منها، لكنهم لم يلتزموا بالتعليمات وواصلوا سيرهم بجوار نقطة الحراسة التي توجد بها أجهزة وأسلحة خاصة غير مسموح لأي شخص الاطلاع عليها.
فما كان منه إلا أن أطلق نحوهم الرصاص، خاصة أن الشمس قد غربت وأصبح من الصعب عليه تحديد أسباب صعود هؤلاء الأجانب وعددهم 12 شخصا الهضبة، وأدى إطلاق النار إلى مقتل 7 إسرائيليين.
انطلقت بعدها محاكمة سليمان خاطر عسكريا، ونشرت الرواية الرسمية للنظام عبر الصحف ووسائل الإعلام، ووصف سليمان بـ"المجنون".
وقال التقرير النفسي الذي صدر بعد فحص المجند المصري أن "سليمان مختل نوعا ما، والسبب أن الظلام كان يحول مخاوفه إلى أشكال أسطورية خرافية مرعبة تجعله يقفز من الفراش في فزع، وكان الظلام يجعله يتصور أن الأشباح تعيش في قاع الترعة وأنها تخبط الماء بقوة في الليل وهي في طريقها إليه".
هكذا كانت الرواية التي تم تصديرها للعامة، ومن المفارقات أنه رغم تصدير قصة أن خاطر "مختل عقليا"، لكن المحكمة العسكرية حكمت عليه في 28 ديسمبر/ كانون الأول 1985 بالمؤبد 25 عاما.
بعدها نقل إلى السجن ومنه إلى مستشفى السجن بدعوى معالجته من "البلهارسيا"، وفي 7 يناير/ كانون الثاني 1986 أعلنت الإذاعة ونشرت الصحف خبر انتحار الجندي سليمان خاطر في ظروف غامضة.
ولو قدر لخاطر أن يعيش في زمن مواقع التواصل الاجتماعي، لربما اختلفت الرواية شكلا ومضمونا، لكن خاطر لم يغب عن وجدان الشعب فدائما يتم تصديره كرمز للوطنية المصرية، ومجابهة التطبيع.
وفي حديث لـ"الاستقلال"، قال الباحث الإعلامي طارق محمد، إن إعلام النظام والمتحدث العسكري "تعامل مع حادث المجند محمد صلاح وكأنهم في عزلة عن الزمن، وكأننا نعيش في زمن (نكسة 67)، تكتم شديد ثم معلومات مغلوطة بحذر، وصولا إلى بيانات وتصريحات مبهمة، لا تخرج منها بشيء".
واستدرك محمد موضحا: "في حين كان إعلام الاحتلال ينشر المعلومات المفصلة، هذا تماما ما حدث في النكسة (حرب 5 يونيو 1967)، وما حدث في واقعة محمد صلاح رحمه الله".
وأضاف "بالطبع إعلام البيانات العسكرية يشعر بحرج جديد وفزع في نفس الوقت من أن الرواية لم تعد ملكا له، ولن يستطيع صناعة سيناريوهات تخدم أهدافه، فلولا الإعلام الجديد، ربما كانوا سيقولون على محمد صلاح كما قالوا على خاطر، مجنون ويعاني من اضطرابات نفسية، أو ربما إرهابي أو شيء من هذا القبيل".
وأورد محمد: "نحن في عصر سرعة ودقة المعلومة، وهذا ما يزعج الأنظمة الاستبدادية، إذ يرون أن فيسبوك وتويتر والمواقع الإلكترونية من أخطر أعدائهم، لأن السمة السائدة كانت احتكار القصة والرواية، والعمل على تغييب الشعب وتجهيله، وهو الأمر الذي حطمته صخرة الإعلام الجديد".
المصادر
- أظهرته عملية الجندي المصري على الحدود… إعلام مصر لم يعد مصدراً معلوماتياً لمواطنيه
- من سليمان خاطر إلى محمد صلاح.. “الذئاب المنفردة” تعيد أمجاد الجيش المصري
- محمد صلاح.. كيف وضع المجند الشجاع إسرائيل والنظام المصري في مأزق؟
- اليوم السابع يحذف صورة أحد ضحايا بئر العبد لانتقاده السيسي
- الحنين لـ”سليمان خاطر”.. فماذا تعرف عنه؟