تمويلات أجنبية وثروة كبيرة.. كيف كشفت محاكمة ولد عبدالعزيز حجم الفساد في موريتانيا؟ 

12

طباعة

مشاركة

"أموال أجنبية وتربح غير شرعي"، ذلك هو العنوان الأبرز الذي كشفت عنه جلسة 22 مايو/ أيار 2023 من جلسات محاكمة رئيس موريتانيا السابق محمد ولد عبد العزيز، والذي حكم البلاد ما بين 2009 و2019.

ووفق ما نقل موقع "صحراء ميديا" المحلي، في 22 مايو 2023، فقد استعرض قاضي المحكمة الجنائية المختصة في جرائم الفساد، سلسلة وثائق ودلائل تؤكد قيام ولد عبد العزيز بأعمال تجارية حين كان رئيسا للبلاد، وهو ما يتنافى مع نص القانون الموريتاني.

وقال القاضي إن وثائق الملف تشير إلى أن "ولد عبد العزيز شخصيا وأفرادا من عائلته وبعض المقربين منه يمتلكون ثروة كبيرة، تتكون من أرصدة وعقارات وسيارات وحتى شركات".

ثروة فاحشة

ورد ولد عبد العزيز: "أموالي كلها مبررة، لأن أصولها من الحملات الانتخابية، حتى قبل أن أصل للرئاسة، لا توجد بحوزتي أوقية (عملة محلية) واحدة غير شرعية، فالحملات الانتخابية كانت تأتيني فيها الأموال وأسيرها خلال انتخابات (2009) والثانية (2014) وحتى الثالثة (2019)".

ولكن القاضي قاطعه قائلا إن "حجم الثروة الكبير هو المشكلة"، فرد ولد عبد العزيز: "الكثير من الأمور والتفاصيل لا يمكنني الحديث عنها، لأنها قد تمس بأشخاص في السلطة، وحتى في دول خارجية".

غير أن القاضي قال له إن تصريحه بممتلكاته أمام "لجنة الشفافية لم يتضمن حجم هذه الثروة"، حينها قال ولد عبد العزيز إنه بالفعل "هنالك 50 سيارة قدمت لي بعد أن صرحت بممتلكاتي، كانت ضمن الحملة الانتخابية الأخيرة، لأننا بعد الحملة الأخيرة حصلنا على 100 سيارة منحت منها 50، والخمسين الأخرى لن أتحدث عنها".

سأله القاضي: "أنت صرحت بأن عندك 84 سيارة"، فقال الرئيس السابق: "سياراتي زادت بخمسين سيارة أخرى، من طراز تويوتا هيلكس جديدة ولم تتحرك".

بعدها سأله القاضي عن "مبلغ مالي معتبر أعطاه له رئيس دولة شقيقة"، فرد ولد عبد العزيز: "نعم.. إنها 6,5 ملايين يورو، كانت هدية بسبب ظروف معينة"، دون أن يكشف طبيعة تلك الظروف.

وبخصوص تهمة غسيل الأموال، سأل القاضي الرئيس السابق عن مسيّر "هيئة الرحمة" الخيرية ويدعى "محمد المشري صالح"، الذي قال خلال التحقيق معه إن "مبالغ بالمليارات كانت تودع عنده من طرفكم ومن طرف بعض أفراد الأسرة، كان يفتح بها شركات وهمية وأرصدة بنكية، وتسلمت الشرطة مبالغ من عنده".

ووجه القاضي سؤالا إلى الرئيس السابق حول تهمة استخدام "هيئة الرحمة" في غسيل الأموال، لأن الهيئة كانت تملك حسابات بنكية مر منها أكثر من 20 مليار أوقية (5 مليون دولار)، حسب ما كشفت التحقيقات.

رد ولد عبد العزيز: "ليس لدي أي رد، هذا يتعلق بهيئة الرحمة، وأنا كنت رئيس دولة".

بدأ حينها وكيل الجمهورية في توجيه الأسئلة للرئيس السابق، وفتح معه ملف بيع المدارس والقطع الأرضية المقتطعة من مدرسة الشرطة، ولكن ولد عبد العزيز ظل يرفض التعليق بحجة أن هذا يدخل في إطار صلاحيات عمل الحكومة.

قبل أن يطلب الدفاع رفع الجلسة بحجة أن الاستنطاق استمر لعدة ساعات، ويتوجب منحه راحة، فقرر رئيس المحكمة تعليق الجلسة.

غير أن ما تم كشفه بالمحاكمة يطرح أكثر من سؤال حول حجم الفساد بموريتانيا وأثره على التنمية والاقتصاد، ودور المواد القانونية والهيئات المدنية في الحد منه ومواجهته.

فساد مستشر

ويرى الإعلامي الموريتاني، جعفر مولاي الزين أحمدو، أن "الإثراء غير المشروع هو سمة عامة لهذا النظام"، معتبرا مؤسسات الدولة "تحكمها عميقا لوبيات ذات تأثير جهوي وقبيلي تتقاطع مصالحها مع رأس النظام".

وأوضح جعفر أحمدو لـ"الاستقلال"، أن "هذا الرأس ليس فردا، ولذلك ولد عبد العزيز ليس إلا واجهة للدولة العميقة مثله مثل الرئيس الحالي".

وأضاف "الفساد هو طريقة كسب للجميع في هذه الدولة، وبالطبع كلما كان أحدهم في منصب أهم كان نصيبه أكبر"، وفق تعبيره.

وقال المتحدث ذاته، إنه "لا يحتاج أحد لكثير بحث ليستدل على هذا الفساد، ذلك أن الإثراء غير المشروع والسريع هو ظاهرة واقعية منتشرة ومثبتة في حالات لا حصر لها".

ورأى جعفر أحمدو أن "تقديم ولد عبد العزيز وحده كفاسد دون من شاركوه في ذلك، يهون من هول هذه المشكلة التي تزيد من تآكل أعمدة الاستقرار في هذا الوطن المغلوب على أمره".

وشدد على أن "محاكمة ولد عبد العزيز لا تعدو كونها ردا على إصراره على الاستمرار في السياسة، ومقاسمة باقي أركان النظام ثروات البلد، ولا أدل على ذلك من أن أشخاصا وجهت لهم محكمة الحسابات تهما موثقة أو شملهم التحقيق، لكن هم الآن طلقاء أو تم تعيينهم في الحكومة الحالية".

أما الباحث الأكاديمي عبد الرحمن عثمان الشنقيطي، فذكر أن "موريتانيا تتوفر على قوانين تجرم هذا النوع من التصرفات، وتلزم الرئيس إلزاما بالتصريح بثروته وبما عنده عند تسلم السلطة وعند خروجه منها".

واعتبر الشنقيطي لـ"الاستقلال"، أن "هذا التصريح يعاب عليه أنه يأتي بشكل عام، ولا يتضمن التفاصيل".

وشدد على أنه "دون التصريح بالتفاصيل نكون أمام شكل من أشكال التدليس، ولا يؤدي الغرض الذي وجد لأجله القانون، أي مكافحة الفساد والإثراء غير المشروع واستغلال السلطة للكسب الشخصي".

أما عن تلقي الرئيس للهدايا من دول أخرى، فقال الإعلامي جعفر أحمدو، إنها تتم لأسباب وأهداف مكشوفة "يعرفها الذيب للي تل ولاتة"، موضحا أن هذا تعبير دارج باللهجة الحسانية يعبر عن "عِظم الفضيحة".

واسترسل: "نحن الموريتانيين علينا الاعتراف، أن موريتانيا للأسف - وهذا مؤلم - لديها خطوط حمراء في سياساتها الخارجية لم ترسمها لنفسها، وقطاع كبير من الشعب يعي تبعات هذا الارتهان".

وأضاف جعفر أحمدو "كما يعرف الشعب تماما ما أخذ من وطنه ودولته لقاء تلك الهدايا"، معبرا عن أمله في "أن تكون هناك مستقبلا مواد في الدستور والقانون تعالج هذه التجاوزات التي تمس من استقلالنا وسيادة الدولة، وأن نستطيع انتخاب حكومة قوية وأمينة تطبق الدستور والقانون كما يجب".

محاكمة القرن

وقال موقع "ريم آفريك" المحلي، في 27 يناير/ كانون الثاني 2023، إن محاكمة ولد عبد العزيز، التي يصفها المراقبون والمتابعون بـ"محاكمة القرن" في موريتانيا، تفتح أسئلة متعددة حول قصة البلاد مع الفساد، وإن كان هناك من سبيل للخروج منه.

وقال الموقع إنه "بالنظر إلى ما تم تداوله من مكنون الثروات الفلكية والأموال المجمدة في هذه المحاكمة، يجعل مأمول المواطنين كبيرا لأجل صرامة وعدالة الأحكام المنتظرة فيها، بما يناسب حجم المآسي الذي غرسها الفساد أنيابا مسمومة في خاصرة التنمية، ورحلة إخفاق لها في كل بيت قصة وشاهد مؤلم".

وتابع: "الحق أنه لا يُجمع الموريتانيون على شيء مثل إجماعهم على أن الفساد ينخر بلادهم منذ عقود، وأنه سبب مباشر لانهيار التنمية، وعجز البلاد عن الإقلاع الاقتصادي، والخروج من وهدة الفقر والمديونية، والعجز التنموي بشكل عام".

وذكر المصدر ذاته، أن "ترسخ الفساد في موريتانيا أدى إلى حصدها رتبا متدنية في كل المؤشرات العالمية المتعلقة بالتنمية، حيث انتقلت في العام 2021 إلى الرتبة 140 على مؤشر محاربة الفساد، كما نالت الرتبة 163 على مؤشر الصحة العالمية".

إضافة إلى حلول البلاد 134 على مستوى جودة التعليم، وما زال حوالي 31 بالمئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، أما نسبة الفقر في المدن فتصل إلى 47 بالمئة فيما تصل إلى 70 بالمئة في الأرياف.

كما أدت مسارات الفساد إلى تراكم الدين الخارجي على موريتانيا ليتجاوز 103 بالمئة من الدخل القومي، وذلك وفق إحصائيات رسمية.

وأشار الموقع إلى أن "موريتانيا تتوفر على العديد من المؤسسات والقوانين المخصصة لمحاربة الفساد، ومنها "الرقابة المالية للدولة" والتي أنشئت عام 1960، و"محكمة الحسابات" التي أنشئت وفق المادة 68 من دستور 1992.

ومن المؤسسات أيضا، بحسب ريم آفريك، "اللجنة الوطنية لرقابة الصفقات العمومية" التي تأسست في 7 يوليو/ تموز 2011، و"الإدارة المركزية لمحاربة الجريمة الاقتصادية والمالية".

يضاف إلى هذا مصادقة موريتانيا على عدد كبير من الاتفاقيات والمواثيق الدولية المتعلقة بمحاربة الفساد والحكامة الرشيدة، ومن بينها اتفاقيات متعلقة بالصناعات الاستخراجية، والصيد، وكذا في مجال تبييض الأموال، ومحاربة الإرهاب.

وشدد موقع "ريم آفريك" على أن "المجتمع الموريتاني يتطلع إلى تنمية فعالة ومحاربة جدية للفساد، تجفف منابعه وتستل جذوره".

ونبه إلى أنه "رغم اقتناع الجميع بصعوبة الانتصار السريع على ممارسات الفساد، فمن غير الصعب أن يتحقق ذلك، خصوصا إذا تضافر ثراء النصوص (القوانين) وتعدد المؤسسات، ونضال القوى المدنية، مع الإرادة السياسية التي تظهر مستوى متصاعدا من الجدية".

الفساد والتنمية

تؤكد التجارب الدولية والتاريخية، أن محاربة الفساد "شرط لازم لتحقيق التنمية الاقتصادية"، وهذا أيضا ما ذهب إليه الباحث الأكاديمي، الشنقيطي.

وقال الشنقيطي لـ"الاستقلال"، إن "محاربة الفساد شرط مهم بل هو من أهم الشروط التي تساعد على بناء دولة قوية، ومتوازنة، وقادرة على تحقيق تطلعات شعبها وأمتها".

وأوضح أن "هذا الشعار كان يرفعه الرئيس السابق، حيث أطاح برجال أعمال كبار في بداية منصبه بسبب الفساد، وتبين فيما بعد أنه هو الراعي الأكبر للفساد، حيث كان يُضيق على الفساد ليوسع على نفسه في جهات أخرى".

وأردف "فقد شارك ولد عبد العزيز وزاحم التجار في أسواقهم والمزارعين في حقولهم، كما زاحم مربي المواشي وشركات العقارات، فلم يترك شيئا فيه ربح ومال إلا واستثمر فيه".

من هنا، يضيف الشنقيطي، "يجب أن تكون الحرب على الفساد اسمها صادقا على معناها، أي أن تؤدي دورها، أما إن كانت محض شعارات يلوح به المرء، فهذا لا قيمة له".

أما الناشط الحقوقي والمدني، الخليل خيري، فأكد لـ"الاستقلال" أنه "لا تنمية بدون محاربة للفساد"، مذكرا في هذا الصدد بقول العلامة ابن خلدون، بأن "زواج السلطة والمال خطر وكارثة".

وتابع: "خلال فترة ولد عبد العزيز، كان هو الرئيس الأول الذي اشتهر بالتجارة ومنافسة التجار، وكان حجم الفساد في عهده كبيرا، حيث تأثرت مختلف مناحي الحياة بهذا الأمر".

وعبر خيري عن أمله في أن "يحارَب الفساد مع النظام الحالي أيضا"، منتقدا "ما تمت ملاحظته من ممارسات تدل على وجود فساد مالي لدى موظفي السلطة في الوقت الراهن دون محاسبة".

ونبه إلى أن "مظاهر الفساد أصبحت مرئية لعموم المواطنين، ومنها ما اطلع عليه الرأي العام عبر الصحافة المحلية والدولية، من خلال صفقات وترضيات وعمليات فساد كبير".

ومع نهاية 2023 صادقت وزارة الشؤون الاقتصادية وترقية القطاعات الإنتاجية في موريتانيا، على إستراتيجية البلاد لمحاربة الفساد في أفق 2030.

وبحسب ما ذكر موقع "أصوات مغاربية" (مقره واشنطن) في 24 ديسمبر/كانون الأول 2022، فقد قال وزير الشؤون الاقتصادية، أوسمان مامودو كان، في كلمة بالمناسبة، إن مكافحة الفساد "لا ينبغي أن تكون من اختصاص الحكومة وحدها".

وشدد مامودو على أن "مكافحة الفساد يجب الاهتمام بها من الجميع، وذلك لضمان النجاح في هذه المهمة".

وبين الوزير، أن هذه الإستراتيجية، المخطط لها لعام 2030، تتوخى تحقيق أربعة أهداف هي "استعادة الشفافية وتطوير النزاهة، وخلق بيئة معادية للفساد، وإشراك وتقوية الجهات الفاعلة، وحماية القطاعات الأكثر ضعفا".

رفع الوعي

غير أن الكاتب إدة جعفر مولاي الزين، يرى أن "الإشكال في المنظومة ككل، بما فيها الرئيس الحالي، محمد ولد الغزواني، والذي كان شريكا لعبد العزيز في الانقلاب العسكري سنة 2008، على الرئيس المدني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله".

وذكر مولاي الزين في مقال نشره عبر موقع "عربي بوست" (مقره إسطنبول)، في 27 فبراير/شباط 2023، أن "محاكمة ولد عبد العزيز تفتقر إلى روح القانون والعدل"، قائلا إن "هيئة المحكمة هي جزء من سلطة قضائية فاسدة"، وفق تعبيره.

وشدد على أن "المؤسسة العسكرية هي الراعي الأول للفساد"، معتبرا أن "النظام الحالي مجرد امتداد للأنظمة السابقة، التي كرست مفاهيم الفساد في مؤسسات الدولة، وأخرجت طبقة بيروقراطية فاسدة، تستغل مؤسسات الدولة للمصالح الشخصية".

ونبه مولاي الزين، إلى أنه "في ظل غياب الفصل التام للسلطات الثلاث، لا يمكن أخذ هذه المحاكمة بعين الاعتبار"، معتبرا أن هذه الاستقلالية شرط لازم لمحاربة الفساد".

وأشار إلى أن "الرئيس الحالي لا يمكنه محاربة الفساد ومحاكمة النظام السابق، لأنه جزء من الفساد ومن النظام السابق، كما أنه ركن من أركان المؤسسة العسكرية، مما يجعل محاكمة ولد عبد العزيز ذات أبعاد سياسية في الأساس"، وفق تعبيره.

ويؤكد الناشط الحقوقي والمدني الموريتاني، خيري، على "أهمية المراقبة المجتمعية والأهلية في محاربة الفساد ومجابهة الإثراء غير المشروع".

وفي هذا الصدد، ذكر خيري لـ"الاستقلال"، أنه بمعية مجموعة من نشطاء المجتمع المدني أسسوا مبادرة تحت اسم "معا لمحاربة الفساد".

وأوضح أنه إلى جانب رؤساء جمعيات من المجتمع المدني وقعوا على وثيقة تحت اسم "جميعا من أجل استرجاع الأموال المنهوبة".

ورأى خيري أن "كل هذه المحاولات هي جزء من مجهود مجتمعي لترسيخ وتكريس ثقافة مكافحة الفساد في المجتمع الموريتاني"، معبرا عن أسفه لـ"تغلل ثقافة الفساد، حتى أصبحت ظاهرة مستشرية، خاصة عند موظفي الدولة".

وشدد على أهمية "العمل على ترسيخ وتكريس ثقافة مجابهة الفساد ومحاربته، والعمل على رفع الوعي عند الناس بهذه المسألة، والاجتهاد في تغيير العقليات".

وأشار خيري إلى أنه "منذ زمن بعيد، وتحديدا ما بعد تأسيس الجمهورية، كانت لنا أنفة وعدم استخدام الأموال العمومية بمنطق الاستغلال، لكن مع الوقت، وخاصة بعد الانقلاب على المختار ولد داداه عام 1978، استشرى الفساد وانتشر".

ورأى أن "فترة ولد عبد العزيز كانت من أشرس الفترات، إذ لم يكن الفساد متركزا في محيط الرئيس كما كان الحال من قبل، بل أصبح لدى الرئيس أساسا ثم المقربين منه".

وأوضح الناشط الحقوقي والمدني أن "تنمية البلد تأثرت بشكل سلبي جدا بسبب الفساد.

وأعرب خيري عن أمله في "رفع وعي المواطن الموريتاني، وأن يكون المجتمع المدني في مستوى التحدي، بما يمكن من محاصرة هذه الظاهرة من القاعدة، أي من المواطنين والمجتمع المدني".