دور متنامٍ.. لماذا تثير تدخلات الجيش القلق على مستقبل إندونيسيا؟
تطرقت صحيفة إيطالية إلى طبيعة العلاقات بين المدنيين والعسكريين في إندونيسيا، مستعرضة دور الجيش في الماضي والوضع في الحاضر وآفاقه مستقبليا في ظل الحديث عن تراجع في المكاسب الديمقراطية.
وبحسب صحيفة "إيل كافي جيوبوليتكو"، لم تعد القوات المسلحة الإندونيسية في حقبة ما بعد محمد سوهارتو تستفيد من "الوظيفة المزدوجة" التي ميزتها تاريخيا.
وكان محمد سوهارتو ضابطا في الجيش وسياسيا كذلك بعد أن شغل منصب رئيس إندونيسيا الثاني. ورغم انتقاده في مجال حقوق الإنسان، فإن اسمه ظل مرتبطا بالحفاظ على وحدة البلاد، وبالتقدم الاقتصادي الذي تحقق في عهده.
وعده المراقبون الدوليون ديكتاتورًا على نطاقٍ واسع حكم البلاد طيلة 3 عقود؛ أي منذ سقوط أحمد سوكارنو أول رئيس للبلاد عام 1967، إلى حين استقالته عام 1998.
ما يزال إرث حكمه الذي دام 31 سنة بالإضافة إلى قيمة صافي ثروته التي بلغت 38 مليار دولار موضع نقاش داخل البلاد وخارجها.
وفي الوقت الحالي، لفتت الصحيفة الإيطالية في تقريرها إلى "تدهور المبادئ الديمقراطية في إندونيسيا وتزايد دور الجيش بشكل خطير، مما يشير إلى عودة تدريجية إلى الماضي" أي إلى حقبة سوهارتو التي وصفت بالديكتاتورية.
وقالت إنه لطالما كانت العلاقات المدنية - العسكرية في إندونيسيا مصدر نقاش، لاسيما وأن الجيش الإندونيسي اضطلع تاريخيًا بما عرف بمصطلح "وظيفة مزدوجة" سمحت له بالتعامل ليس فقط مع الجانب الدفاعي في البلاد وإنما كان له أيضا دور في الجوانب السياسية والاقتصادية.
ما بعد سوهارتو
بينت الصحيفة أن تدخل الجيش في الشؤون السياسية شكل أحد "الثوابت" في تاريخ إندونيسيا المعاصر، مشيرة إلى أنه غالبًا ما شغل الضباط النظاميون مناصب مختلفة في السياسة وفي المجالات الاقتصادية والصناعية، فضلاً عن اضطلاعهم بمهام الدفاع عن البلاد.
وذكرت بأن هذه الأدوار المختلفة والأنشطة يُطلق عليها تاريخياً "الوظيفة المزدوجة" للجيش الإندونيسي.
بعد انقلاب عام 1965 وسيطرة النظام الاستبدادي لسوهارتو، شهدت البلاد عملية دمقرطة لم تكن بأي حال من الأحوال أمرًا من المضمون تحقيقه.
في عام 1998، تعرضت إندونيسيا لأزمة اقتصادية عميقة وكان لا بد من إعادة بناء الحكومة بعد محاكمة سوهارتو الإجبارية، فيما استعد المجتمع المدني آنذاك للتحول الديمقراطي الذي طال انتظاره.
على الرغم من حالة عدم اليقين، تمكنت حكومات ما بعد سوهارتو من تقليل مخاطر وقوع الانقلابات على ضوء عدة عوامل، يشرح الموقع.
على وجه الخصوص، وفقًا لخبير العلاقات المدنية- العسكرية أوريل كرواسان، "ظهر إجماع قوي بين الأحزاب السياسية والنخب المدنية والجمهور الأوسع على أن النظام السياسي يجب أن يكون مدنيا وأن الجيش يجب أن يظل بعيدًا عن المركز السياسي".
وبذلك، تمكنت الحكومات الإندونيسية، بحسب الخبير، من تقليل مخاطر الانقلاب "بشكل طبيعي بدلاً من استخدام أساليب مصطنعة مثل التجنيد والترقيات على أساس الهويات العرقية أي تلك التي تستند إلى الأغلبية العرقية الحاكمة، والفساد والمحسوبية لإبقاء السيطرة على الضباط".
وتابع "ببساطة، واجه مجتمع مدني قوي وشرعية كافية للنظام، بالإضافة إلى إجماع مناهض للجيش بين النخب المدنية، إغراء المغامرة العسكرية".
في المقابل، تبنى الرئيس السابق سوهارتو بعض الإستراتيجيات للسيطرة على سلطة كبار المسؤولين.
على سبيل المثال، تذكر الصحيفة الإيطالية استخدامه إستراتيجية "فرق تسد"، كما قسم سوهارتو الجيش إلى هياكل قيادة في المناطق.
بالإضافة إلى ذلك، أسس نظام المحسوبية لتنظيم التجنيد والترقيات، بهدف بناء "مجتمع من الثقة" لضمان ولاء العسكريين له.
مستقبل إندونيسيا
أظهر استطلاع أجرته وكالة إندونيسية (لم تذكر اسمها) عام 2020 أن حوالي 70 بالمئة من المشاركين عبروا عن رضاهم عن الجيش، بينما كان حوالي 64 بالمئة من المستجوبين راضين عن جهاز الشرطة الوطنية.
علقت الصحيفة الإيطالية عن هذه البيانات بالقول إن "الثقة الكبيرة بقوات الأمن قد تبدو مفاجئة".
وتشرح "على الرغم من دكتاتورية سوهارتو العسكرية الطويلة، لم يعبر السكان عن انزعاجهم من القوة المؤثرة التي لا يزال الجيش يتمتع بها اليوم".
وتنقل عن الباحثة ناتالي سامبي ماذهبت إليه في دراستها للعلاقات المدنية العسكرية في إندونيسيا عام 2021، بشأن التأكيد على وجود تناقض في البلاد.
وتشرح أنه "في الواقع، يبدو أن الإندونيسيين عالقون بين الالتزام بالمعايير الليبرالية والتحول الديمقراطي التقدمي من ناحية، وبين مستويات عالية من الثقة في مؤسسة أقدم وأكثر شيوعًا" مثل الجيش.
بحسب الصحيفة، شهدت إندونيسيا تراجعا في المبادئ الديمقراطية في السنوات الأخيرة.
ووفق منظمة فريدوم هاوس الأميركية، حصدت الدولة 59 نقطة من أصل 100 في مؤشر الحرية لعام 2022، وهو ما يصنفها على أنها "حرة جزئيا" مقارنة بحصولها على 64 نقطة عام 2017.
لاحظت "إيل كافي جيوبوليتيكو" بأنه بينما "تسجل إندونيسيا نتائج جيدة في الحقوق السياسية، لا يمكن قول الشيء نفسه عن الحريات المدنية (حرية التعبير والمعتقد، وحقوق الجمعيات والتنظيم وسيادة القانون، والاستقلال الشخصي والحقوق الفردية)"، وفق قولها.
وأضافت أن الحكومات الإندونيسية لا تزال تواجه تحديات داخلية صعبة مثل الفساد العميق، والتمييز العرقي ضد الأقليات، والتمرد الداخلي في منطقة بابوا و تهديد الجماعات المتطرفة.
ويأتي ذلك على الرغم من أن البلاد اتخذت خطوات جيدة لإنشاء نظام ديمقراطي منذ الاستقالة القسرية لسوهارتو عام 1998.
علاوة على ذلك، تتعرض العلاقات المدنية العسكرية لضغوط، وفق تعبير الصحيفة الإيطالية. وتقول الباحثة سامبي "على الرغم من أن الانقسام المدني-العسكري نادرًا ما يكون حادًا، فإنه أكثر ضبابية في إندونيسيا".
بدورها، انتقدت منظمة فريدوم هاوس هذا الجانب بالإشارة إلى أن "الجيش لا يزال يلعب دورا مؤثرا في السياسة والاقتصاد الإندونيسي".
في نفس السياق، أشارت الصحيفة إلى أن الرئيس الحالي جوكو ويدودو أحاط نفسه بضباط عسكريين موثوق بهم وعين بعضهم في مناصب سياسية رفيعة.
وخلصت إلى القول إن الدور المتنامي للجيش يثير القلق لسببين، الأول لأنه يؤثر سلبا على توطيد الديمقراطية في إندونيسيا والثاني يكمن في المخاطرة بعودة أشباح الماضي.