حلول قليلة وقاسية.. كيف يتصرف النظام المصري مع التعويم الخامس للجنيه؟
تواجه مصر مأزقا اقتصاديا كبيرا في وقت يستعد فيه صندوق النقد الدولي لإجراء مراجعة أولى للإصلاحات الاقتصادية فيها، والتي أعلن في وقت سابق أنها قد تنتهي نهاية مارس/آذار 2023.
ويؤكد خبراء مصريون أن القاهرة في مأزق بين تنفيذ مطالب الصندوق بتخفيض الجنيه للمرة الخامسة منذ 2016 خلال شهر رمضان، والذي يعني تضاعف الأسعار والأعباء والغضب الشعبي مجددا، وبين الانتظار لما بعد العيد.
خبير اقتصاد سياسي أوضح لـ "الاستقلال" أن نظام عبد الفتاح السيسي في مأزق بسبب هذا التعويم الخامس الذي قد يرفع سعر الدولار إلى 40 جنيها ويجعله "ينتظر المزيد من قلة القيمة" بحسب وصف موقع "مدى مصر" 9 مارس 2023.
أوضح أن نظام السيسي أمامه حلان: الأول أن يبادر بتنفيذ طلبات الصندوق وتخفيض العملة المصرية من قرابة 30 إلى 40 جنيها للدولار الواحد ما يعني زيادة غضب المصريين في رمضان، وهم يعانون أصلا من غلاء فاحش، وهذه هي "الرؤية الاقتصادية".
أو أن يتفاوض مع الصندوق لتأجيل تطبيق التخفيض الجديد في قيمة الجنيه لما بعد عيد الفطر، وصرف المنح التي وعد النظام بها وزيادة المعاشات لتخفيف صدمة التعويم الجديد، وهذا ما تراه "الأجهزة السياسية والأمنية" خشية انفجار الغضب الشعبي.
لكن الخبير المصري، الذي فضل عدم ذكر اسمه، أوضح أن كلا الخيارين مر، فلو جرى التعويم نهاية مارس بعد انصراف بعثة الصندوق وانتهائها من المراجعة، سيقضي المصريون بقية شهر رمضان والعيد في حالة احتقان وغضب شديد لانهيار مدخراتهم مع الجنيه وتحول رواتبهم إلى تراب.
أما لو جرى التأجيل لما بعد عيد الفطر فهذا يعني اقتصاديا مزيدا من التدهور في السوق بسبب عدم وجود دولارات في البلاد وارتفاعها في السوق السوداء إلى 35 جنيها وتوقف البنوك عن تدبير دولارات للمستوردين ونقص خامات الإنتاج.
وقال محللون ماليون لوكالة "رويترز" البريطانية في 28 مارس 2023 إن هناك فجوة واسعة بين سعر صرف الدولار في السوق الموازية (السوداء) وأسعار البنوك. وهو ما يعني أن الجنيه بحاجة إلى خفض جديد في قيمته مقابل الدولار، رغم خفضه 4 مرات منذ 2016.
وتوقع بعضهم لجوء مصر لتلك الخطوة خلال أيام سواء في رمضان أو عقب عيد الفطر، ليكون هذا هو خامس تخفيض في سعر الجنيه من تولي عبد الفتاح السيسي السلطة في مصر عبر انقلاب عسكري عام 2013.
ويتداول الدولار حاليا بسعر 35-36 جنيها في السوق الموازية، بينما يصل في العقود الآجلة غير القابلة للتسليم لمدة 12 شهرا إلى 40 جنيها، وفقا لرويترز، فيما استمر السعر الرسمي عند مستوى 30.96 لمدة ثلاثة أسابيع تقريبا.
لا أهمية للشعب
وحول أي من الخيارين قد تلجأ له السلطات المصرية، يقول الخبير الاقتصادي عبد الحافظ الصاوي، إن القاهرة باتت تعتمد بشكل كبير على الجرأة في اتخاذ القرارات.
وبين في حديث لـ "الاستقلال" أنها تستند للضمانات الأمنية للسيطرة على أي رد فعل ضد أي قرار اقتصادي يمس حياة المواطنين، ما يعني تخفيض الجنيه في أي وقت قبل أو بعد رمضان والعيد.
أوضح أن الحكومة المصرية "تجاوزت مسألة تحديد الوقت وتحدياته لفرض توجهات اقتصادية معينة".
ضرب مثالا بأن تخفيض قيمة الجنيه مرتبط إلى حد كبير بتقديم الموازنة العامة للبرلمان في أول أبريل/نيسان 2023 وفق الدستور.
لكن الحكومة قد تقدم على قرار تخفيض الجنيه دون أن تعبأ بتأثيراته الاقتصادية أو الاجتماعية على المصريين.
نوه الصاوي إلى أن تخفيض قيمة العملة من حوالي 16 جنيها للدولار الواحد، إلى أكثر من 30 جنيها الآن لم يستغرق وقتا طويلا، وهو ما يعني أن الحاجز النفسي والجرأة في اتخاذ القرار، يسمح للسلطة بجرأة كبيرة في تخفيض جديد خلال الفترة القادمة.
كما أن قبول الشارع بفكرة تخفيض الجنيه دون رد فعل، وبيع أصول مصر دون أي رد فعل شعبي أو للنقابات العمالية والأحزاب وغيرها، يعطي المبرر للحكومة أن تتخذ الكثير من القرارات المشابهة دون أن تأخذ في الحسبان رد فعل الشارع، وفق الصاوي.
ولفت إلى أن مسألة الانفجار الشعبي قد تكون قادمة خلال فترة لأن الحكومة تسير في خطوات شديدة الخطورة بما يساعد على تفجير الشارع وغضب الرأي العام خاصة في ظل انتشار الفساد والغلاء وغياب المحاسبة.
لكن مسألة تحديد الوقت لهذا الانفجار صعبة لغياب قياسات الرأي والحريات وأي أدوار للمجتمع المدني للرقابة على القرار الحكومي أو الاعتراض عليه.
المحلل الاقتصادي المصري "مصطفي عبد السلام" أكد بدوره أن السلطات المصرية "لن تعبأ كثيرا بالرأي العام، بل يهمهما بالدرجة الأولى انتزاع موافقة الصندوق على الشريحة الجديدة والتي تمهد للدخول في مفاوضات مع دول الخليج تفضي للحصول على أموال بقيمة 14 مليار دولار في شكل استثمارا وشراء أصول.
توقع، في حديث لـ "الاستقلال" أن ينفذ البنك المركزي المصري خطوات، مع قدوم بعثة صندوق النقد الدولي للقاهرة لمراجعة مدى التزامها بما جرى الاتفاق عليه مقابل قرض 3 مليارات دولار، لإقناع البعثة بجدية مصر، وتمرير الشريحة الثانية من القرض.
من هذه الخطوات كما يؤكد "عبد السلام": السماح بمرونة أكبر لسعر الصرف بهدف الحد من الفارق مع السوق السوداء للعملة، ما يعني السماح بتراجع الجنيه مقابل الدولار.
وأيضا رفع سعر الفائدة ما بين 2 و3 بالمائة لمكافحة التضخم الذي تجاوز 40 بالمائة فبراير/شباط 2023.
أوضح أنه "قد لا يحدث تعويم كامل خاصة أن الفارق بين السعر الرسمي وغير الرسمي يبلغ نحو 5 جنيهات للدولار.
لكن أي زيادة في سعر الدولار ستترجم في شكل ارتفاع بأسعار السلع، ما يزيد معاناة المصريين ويضعف قدرتهم الشرائية.
التعويم والتأجيل
وقال صندوق النقد الدولي إنه لم يحدد بعد موعدا لإجراء المراجعة الأولى لبرنامج الإصلاحات الاقتصادية بعد قرضه البالغ حجمه 3 مليارات دولار لمصر، وفقا لوكالة "بلومبيرغ" الأميركية 23 مارس 2023.
ونقلت الوكالة عن المتحدثة باسم صندوق النقد، جولي كوزاك قوله: "بدأت الاستعدادات للمراجعة الأولى وسيعلن عن مواعيد البعثة عندما يجرى الاتفاق عليها مع الحكومة المصرية".
وكان من المفترض أن توجد البعثة في مصر حاليا، لأن صندوق النقد الدولي حدد يوم 15 مارس 2023 لإجراء المراجعة الأولى للبرنامج في تقرير الموظفين المنشور في يناير 2023، لكنه لم يوضح أسباب التأخير.
ودفع هذا لتكهنات أن تكون مصر هي التي طلبت من الصندوق التأجيل لما بعد عيد الفطر أي اختارت "الرؤية الأمنية والسياسية" لا الاقتصادية للتعامل مع أزمة انهيار الجنيه.
ومن المقرر أن يجرى صندوق النقد ثمان مراجعات على مدار فترة البرنامج التي تستمر لمدة 46 شهرا، وتنتهي في يونيو/حزيران 2026. وثاني هذه المراجعات، بعد الأولى الحالية، ستكون في 15 سبتمبر/أيلول 2023.
وسمح البنك المركزي المصري بتعويم الجنيه 4 مرات منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وذلك باتفاق مع صندوق النقد الدولي.
أولها في نوفمبر 2016، ومنها مرتان خلال 2022، مارس وأكتوبر، ومرة بداية عام 2023.
وأسفرت التعويمات التي جرت منذ مارس 2022 عن زيادة سعر الدولار مقابل الجنيه بنسبة تزيد عن 90 بالمائة وحدها.
وكان العام 2022 قاسياً على الجنيه المصري، إذ بدأ في التهاوي من 15.75 جنيها للدولار بداية العام، إلى 18 جنيها بعد قرار البنك المركزي بالتعويم الأول في مارس، ليفقد 15 بالمائة من قيمته.
كما خضع لتعويم ثان في أكتوبر 2022، ليفقد 57 بالمائة من قيمته ويسجل 24.7 جنيها.
ثم خضع الجنيه للتعويم مجددا في يناير 2023 في إطار تفاوض الحكومة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد بقيمة 3 مليارات دولار مقابل تعويم رابع ليصل لأدنى مستوى ويسجل 32 جنيه للدولار، قبل أن يتحسن إلى 30.7 جنيها.
أما التعويم الخامس المتوقع فسيكون آخر مارس 2023 أو في أبريل/نيسان وفق ما تراه الحكومة المصرية موائما، ويتوقع فيه انهيار جديد للجنيه في ظل عدم توافر سيولة دولارية في مصر ما يضغط على العملة.
ويتناول المصريون، عبر مواقع التواصل، التعويم الخامس المرتقب بنوع من السخرية المريرة في ظل قمع السلطة أي اعتراضات على سياستها.
وتوقع تقرير حديث من بنك إتش إس بي سي HSBC البريطاني في 22 مارس 2023 أن يصل الدولار لمستويات الـ 35-40 جنيها للدولار الواحد خلال الأشهر القادمة، أي على المدى المتوسط.
وواصلت العقود الآجلة غير القابلة للتسليم للجنيه المصري تراجعاتها لتصل إلى مستويات غير مسبوقة تخطت حاجز الـ 40 جنيها مقابل الدولار لأجل 12 شهرًا، وفقًا لبيانات وكالة "بلومبيرغ" 6 مارس 2023.
وفي 7 مارس 2023 توقعت خمسة بنوك عالمية مزيدا من التراجع في سعر الجنيه المصري خلال الفترة المقبلة، في ظل فشل الحكومة بجذب تدفقات جديدة من العملة الصعبة، ما يرفع احتمالية حدوث تخفيض جديد لقيمة العملة المصرية.
البنوك الخمسة أجمعت على أن انخفاض قيمة الجنيه أمر محسوم، لكن اختلفت تقديراتها، التي وصلت إلى 35 جنيها على المدى القصير، ما يعني انخفاض سعر العملة بحوالي 16 بالمئة عن قيمتها بداية مارس 2023.
أما على المدى الطويل، فتوقعت تراجع سعر الجنيه في تعاملات العقود الآجلة غير القابلة للتسليم لمدة 12 شهرا لتسجل ما يتراوح بين 37.9 و38 جنيها للدولار، بحسب بيانات نقلتها وكالة "بلومبيرغ" 8 مارس 2023.
المسكنات لا تجدي
ورغم أن مصر تنتظر التقييم المقبل لصندوق النقد للاقتصاد المصري أملا في بيع طروحات وأصول لدول خليجية، أكد بنك "مورجان ستانلي" الأميركي أن تحرير سعر صرف الجنيه ليس حلا سحريا للتخفيف من أزمة الاقتصاد المصري.
أوضح في تقريره الصادر 27 مارس 2023 أن النطاق المالي محدود لمصر ولوضع حد لأزمة السيولة من النقد الأجنبي المستمرة وسد فجوة التمويل البالغة مليارات الدولارات، يجب تطبيق برنامج للطروحات الحكومية "واسع النطاق".
وتوقع أن تجذب مصر ما يصل إلى 7 مليارات دولار من خلال مبيعات الأصول 2024 (مليارا دولار بنهاية العام المالي الحالي في يونيو و5 مليارات أخرى في العام المالي 2024/2023)، بحسب تقديرات بنك الاستثمار الأميركي.
وقد يساعد ذلك على زيادة السيولة من النقد الأجنبي، ويعزز وضع المالية العامة فضلا عن تضييق الفجوة التمويلية، والتي يقدرها مورجان ستانلي بنحو 23-24 مليار دولار حتى نهاية العام المالي 2024/2023.
"وهذا من شأنه أن يهدئ التوقعات بمزيد من انخفاض لسعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية، ويضمن انتقالا سلسا إلى نظام سعر الصرف المرن بشكل دائم".
ويؤكد "مورجان ستانلي" أن تأخر مصر في بيع "واسع النطاق" لأصولها "قد يكون مكلفا"، إذ قد يؤدي توقف الطروحات من الآن وحتى نهاية العام المالي الحالي في يونيو 2023 إلى "تدهور معنويات المستثمرين ومشكلات في السيولة من النقد الأجنبي الأجنبية لفترات طويلة".
وهذا من شأنه أن يرفع التوقعات بمزيد من انخفاض قيمة الجنيه وارتفاع التضخم، مما يزيد من الضغط على سعر الفائدة الحالي.
شدد على أن سماح القاهرة للجنيه بالانخفاض أكثر مقابل الدولار "لا يكفي"، والسماح لقيمة العملة بالمزيد من الانخفاض حتى البدء في جذب التدفقات الأجنبية، ليس علاجا شافيا نظرا لمستويات التضخم المرتفعة بالفعل والتكاليف الاجتماعية المرتبطة به"، وفق ما كتبه المحللون.
وقال مورجان ستانلي إن أعباء الدين الحكومي بالإضافة إلى خدمة الدين تضغط على الموازنة المصرية إذ تمثل حوالي 92 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي في العام المالي 2021 - 2022.
كما يتوقع التقرير أن ترتفع نسبة الدين الحكومي إلى 96.2 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي في العام المالي الحالي ومن ثم تنخفض مرة أخرى إلى 91.5 بالمائة في العام المالي المقبل.
وتحتاج مصر إلى تمويل خارجي لسد احتياجات عجز الموازنة في العام المالي 2023-2024 بحوالي 24 مليار دولار، بحسب بيانات التقرير.
ويقدر صندوق النقد الدولي فجوة التمويل الخارجي في مصر بنحو 17 مليار دولار، ويتوقع أن يساعد برنامجه في ضخ نحو 14 مليار دولار إضافية من الشركاء الدوليين والإقليميين، بحسب "بلومبيرغ".
وضمن جهود حل أزمة الدولار لضمان استقرار الجنيه وعدم انهياره، أعلن البنك الدولي، 22 مارس 2023 أنه وافق على اتفاق جديد مع مصر تحصل بموجبه للسنوات المالية 2023-2027 على تمويل بسبعة مليارات دولار.
وتواجه مصر أزمة اقتصادية طاحنة وتراجعا في احتياطي النقد الأجنبي للبلاد، في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، ما جعل القاهرة تطلب قرضا من صندوق النقد الدولي.
ويعود الانخفاض المتوقع في قيمة الجنيه، بحسب البنوك العالمية والخبراء المصريين، إلى عدم قدرة الحكومة على توفير تدفقات جديدة من العملة الصعبة خلال الأشهر الماضية، برغم احتفائها بتوقيع اتفاق تمويلي جديد مع صندوق النقد الدولي عام 2022.
والذي تضمن أيضا تعهدات من دول الخليج بمساعدة الاقتصاد المصري عن طريق شراء أصول حكومية، وهو الأمر الذي لم يتحقق حتى الآن.