"بورصة سياسية".. من يقف خلف شراء الأصوات الانتخابية في موريتانيا؟
تواجه موريتانيا أزمة سياسية جديدة تهدد شفافية الانتخابات القادمة وتضع مستقبل البلاد أمام حالة من المجهول قبل شهرين من العملية الديمقراطية.
وانتقد فاعلون في الحياة السياسية بموريتانيا، انتشار أخبار عن شراء مرشحين للانتخابات أماكن متقدمة في لوائح الترشيح، واستمرار ظاهرة "شراء أصوات" ناخبين، وإشكالات في تسجيل مواطنين.
وكانت الحكومة الموريتانية قد صادقت على تاريخ 15 مايو/أيار 2023، موعدا للانتخابات العامة، المحلية والجهوية والنيابية، فيما انتهت فترة الإحصاء الإداري ذي الطابع الانتخابي، في 13 مارس/آذار 2023.
وأعلنت اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات بموريتانيا، أن مجموع المسجلين في اللوائح الانتخابية بلغ 1.719.541 ناخب، إلى غاية 13 مارس 2023.
شوائب التسجيل
أكد حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل"، أنه يتابع بقلق بالغ واهتمام :ما شاب عمليات التسجيل على اللائحة الانتخابية من استغلال فج من قبل البعض لفرصة التسجيل عن بُعد، بهدف تغيير الخريطة الديمغرافية للعديد من الدوائر الانتخابية".
وقال الحزب في بيان نشره بحسابه على فيسبوك، 28 فبراير/شباط 2023، إن هذا التغيير يجري من خلال إغراق لوائح الدوائر الانتخابية بناخبين لا علاقة لهم بها، بل وربما لم يروها من قبل، ويرى أن "هذا مطابق تماما لما يُعرف بظاهرة الترحال الانتخابي".
وتابع "يضاف إليه ما تواتر من حدوث تسجيل واسع بالإنابة"، منبها إلى هذه الممارسات لها تأثير على نزاهة وشفافية العملية الانتخابية برمتها في البلاد.
وشجب الحزب الإسلامي والمعارض "عمليات التهجير الانتخابي التي طالت عشرات البلديات في الداخل، علاوة على بعض بلديات العاصمة، حيث تعد حالة مقاطعة -واد الناقة- من أبرز الأمثلة الصارخة على ذلك، وهي حالة تستحق فتح تحقيق عاجل بشأنها".
وعبر عن خشيته "من أن ينتهز المتنفذون من رجال السلطة وغيرهم فرصة التمديد الحالي لمواصلة عمليات التهجير والتأثير على الإرادة الحرة للناخب في اختيار من يمثله دون فرض أو إلغاء".
ودعا الحزب السلطات إلى "تحمل كامل المسؤولية في وقف هذه الظاهرة واحترام القانون المتعلق بمعايير اختيار مراكز التصويت، التي من أهمها وجود ساكنة حقيقية قاطنة بصفة مستمرة، ومنشأة عمومية تستضيف مراكز الاقتراع".
كما دعا "القوى الوطنية الحية كافة للوقوف بقوة وحزم في وجه هذه الممارسة المنافية للنظم والأعراف الديمقراطية كافة، وما تؤدي إليه من تلاعب بالإرادة والاختيار الحر للمواطن".
بدوره، قال رئيس تحرير موقع "الأخبار" المحلي، الهيبة سيداتي، إن قوائم اللوائح الانتخابية أصبحت تباع وتقايض مقابل ملايين الأوقيات لمن يريد الترشح فيها.
وكتب سيداتي في تدوينة بصفحته على فيسبوك، 28 فبراير 2023: "متصل قبل قليل: حزب كذا قال لي إن رأس اللائحة النيابية في نواكشوط الجنوبية لم يعد متاحا عنده، لكنه يعرض عليَّ نواكشوط الشمالية مقابل 15 مليون أوقية قديمة".
وتابع: "المتصل قال إنه رفض العرض لأنه سجل ناخبيه في نواكشوط الجنوبية وقرر الاتصال بحزب آخر عرفه باسم رئيسه -حزب فلان- لكنه صدم حين أخبره أن السعر المطلوب 35 مليونا، فاتصل بحزب ثالث -حزب فلانة- التي قالت له إن ذلك المنصب معروض بمبلغ 20 مليونا".
وتفاعلا مع هذه الأخبار، رأى القيادي الإسلامي محمد جميل منصور، في تدوينة على حسابه بفيسبوك، 28 فبراير 2023، أن هذه فضيحة للدولة وللسياسة وللأحزاب.
وأضاف: "مناصب انتخابية للبيع، تسجيل وتهجير وأهل المال والأعمال في الصدارة، تغيير الساكنة وإفساد كل معنى للتمثيل والنيابة، أوقفوا هذه المهزلة، فلا المعبر عنه هو الساكنة، ولا المعبر عنهم منهم".
بدورها، عبرت البرلمانية والقيادية اليسارية خديجة مالك جلو، عن أسفها لوجود ما وصفته باختلالات في الإحصاء الإداري ذي الطابع الانتخابي قد تضر بمصالح المتنافسين.
وأشارت جلو وفق ما أوردت "وكالة كيفة للأنباء"، في 4 مارس 2023، إلى أن هناك العديد من الملاحظات حول الإحصاء الإداري خاصة عمليات ترحيل الناخبين وشراء بطاقات التعريف الوطنية، وتجميعها في يد البعض، كما أن هناك عمليات تسجيل غير قانونية، وهو أمر ليس خافيا على أحد، وفق تعبيرها.
وطالبت الإدارة وكذلك اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات باتخاذ إجراءات لوقف هذه التجاوزات.
وأضافت: "الممسكون بزمام السلطة عودونا على عمليات تهجير الناخبين لأن لديهم الإمكانيات منذ بداية المسلسل الديمقراطي في بلادنا".
وعبرت الناشطة اليسارية عن أسفها لكون الأحزاب التقليدية للمعارضة لم تتمكن من بناء إستراتيجية لتوحيد صفوفها أمام الموالاة في الانتخابات المقبلة، وهو ما سيشكل انعكاسا سلبيا على دورها في المستقبل.
العرض والطلب
أرجع المحلل السياسي الهيبة ولد الشيخ سيداتي، انتشار ظاهرة "شراء مراكز الترشح من الأحزاب" إلى "قلة المعروض من الأحزاب في مقابل زيادة الإقبال من المترشحين".
وأرجع سيداتي في تصريح لـ"أصوات مغاربية"، مطلع مارس 2023، ذلك إلى حل "الكثير من الأحزاب السياسية بعد عدم حصولها على الحد الأدنى في انتخابات 2018".
وهو ما جعل الكثيرين ممن فقدوا أحزابهم ويطمحون لدخول قبة البرلمان "يدخلون في مفاوضات مع الأحزاب القائمة للترشح على لوائحها".
وفي مارس 2019 أعلنت وزارة الداخلية الموريتانية حل 76 حزبا سياسيا من الأغلبية والمعارضة، بموجب قانون الأحزاب، القاضي بحل كل حزب يفشل في الحصول على نسبة 1 بالمئة من أصوات الشعب المعبر عنها في اقتراعين متتاليين.
وقبل ذلك القرار كان عدد الأحزاب السياسية في موريتانيا يزيد على 100، بين المعارض والموالي والمستقل، ويحظى بعضها بقاعدة شعبية، بينما لا يمتلك بعضها أساسا شعبيا على أرض الواقع.
وأشار سيداتي إلى أنه تحدث شخصيا مع مترشحين "اشتكوا من عدم قبول عدة أحزاب سياسية وضعهم على لوائحها دون دفع مبالغ مالية كبيرة".
وأضاف المتحدث نفسه، أن ظاهرة "المال السياسي" ليست خاصة بموريتانيا إذ إن لها أمثلة كثيرة في بلدان أخرى، لكن "عدم قدرة الدولة على محاربتها" بسبب ضغط رجال الأعمال وعناصر النظام أمر "مستغرب".
بدوره، أكد الباحث والناشط السياسي عبد الرحمن يوسف عثمان الشنقيطي، أن التأثير على الناخبين بموريتانيا أمر موجود وقائم، سواء أكان هذا التأثير ذا طبيعة مادية أو معنوية، أي عبر مشيخات قبلية أو روحية، أو بشراء الأصوات.
وأضاف الشنقيطي لـ "الاستقلال"، غير أن هذا الأمر لا يخلو منه بلد، وهو أمر معروف، بل حتى بين الدول، كما رأينا ذلك في السنوات الأخيرة بين أميركا وروسيا.
وقبل ذلك بسنوات بين الرئيس الليبي الأسبق معمر القذافي وما وقع في الانتخابات الإيطالية والفرنسية، وفق قوله.
ورأى أن الحالات المسجلة قد تؤثر على نزاهة الانتخابات بشكل نسبي وليس بالنتيجة العامة، لاسيما أن الوعي الشعبي أصبح أكبر وأعلى بخصوص التعامل مع العملية الانتخابية ورفض الفساد.
وشدد الشنقيطي أن ملامسة هذا الوعي قد لا يبدو للبعيد، لكنه أمر واقع لمن يتابع الانتخابات عن كثب، ويتفاعل مع المواطنين ويتواصل معهم، منبها إلى أن موريتانيا ستشهد صيفا ساخنا هذه السنة بفعل الانتخابات.
القانون لا يكفي
يؤكد باحثون أن القانون والزجر لا يكفيان لمواجهة أشكال الفساد الانتخابي، سواء في التسجيل أو التصويت، وأن الأمر يحتاج إلى وعي مجتمعي ومسؤولية عامة بين المواطنين.
وفي هذا الصدد، يرى رئيس مركز الصحراء للدراسات والاستشارات، أحمد ولد التليمدي، أن "القوانين وحدها لا تكفي، فلا بد أن يكون معها توعية وتطبيق جدي وإرادة قوية من الطبقة السياسية، التي تحتاج هي الأخرى إلى الإصلاح، وتبقى القوانين ضرورية لكي توجد وتخلق وترتب عليها عقوبات لمن أخل بها".
ويؤصل ولد التليمدي هذه الظاهرة بقوله إنها "قديمة في المجتمعات التي لم تصل فيها الديمقراطية إلى مرحلة النضج، ولديها تأثير كبير في الحياة السياسية حيث لا تعبر النتائج عن مواقف المواطنين الصحيحة من المرشحين، ويمكن القول إنها قتل للروح الديمقراطية"، وفق ما قال لـ "إندبندت عربية"، في 3 مارس 2023،.
ويضيف "نحتاج إلى بلورة رؤية واضحة للحياة السياسية لمجتمعاتنا توائم بين متطلبات الديمقراطية وواقع كل مجتمع على حدة، وقبل ذلك مصارحة بالمشكلات المطروحة والتزام أخلاقي يوقع عليه كل شريك سياسي".
وطالب رئيس مركز الصحراء للدراسات والاستشارات الفاعلين السياسيين بتقييم كل تجربة بعد انتهائها، وتحديد مخالفات كل طرف، وترتيب عقوبات لمن أخل بالالتزام قد يصل إلى مرحلة حرمانه من المقعد الانتخابي.
في سياق متصل، أعلنت اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، فصل ثلاثة موظفين كانت مهمتهم تسجيل المواطنين على اللائحة الانتخابية، وذلك بسبب مخالفات واضحة، بحسب بيان للجنة نشرته بحسابها على فيسبوك، بداية مارس 2023.
يؤكد الباحث والناشط السياسي عبد الرحمن الشنقيطي، أن ترحيل الناخبين أمر واقع، مرجعا سببه إلى أن بعض الوجهاء ورجال الأعمال والفاعلين، بعضهم من النظام وبعضهم من غيره، يستخدمون هذا الترحيل لتسمين ونفخ مكاتبهم حتى يحتلوا الصدارة في مقاطعاتهم.
وقال الشنقيطي لـ "الاستقلال" إن مقاطعة محاذية للعاصمة نواكشوط أثارت الجدل بشكل كبير في مسألة الترحيل، ويتعلق الأمر بمقاطعة "واد الناقة"، والتي كانت المثال الأبرز لهذا، مما جعل أهلها يشتكون من كثرة الوافدين على مكاتب التسجيل.
وعبر المتحدث ذاته عن أسفه لكون الشروط المعلنة من اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات لا تُحترم، سواء ما تعلق بالحاجة إلى بصمة الأصبع أو بطاقة الهوية للتسجيل.
وأوضح أنه من خلال وقائع مسجلة، تبين أن التسجيل الإلكتروني لا يحتاج إلى هذه الشروط، بل جرى تسجيل بعض الناخبين دون حضورهم الشخصي، أو الحاجة إلى بطاقة الهوية، بل فقط إلى صورة لها.
وأردف: "البصمة أكبر كذبة، إذ إن بعض البطاقات في بعض المناطق سجلت وأصحابها غير حاضرين، وهذا يطرح أكثر من علامة استفهام".
وتابع الناشط السياسي قائلا، كما حصلت اختلالات أخرى وهي أن أصحاب الجوازات مُنعوا من التسجيل.
إذ قيل لهم لا يمكن التسجيل إلا ببطاقة الهوية، وفي التمديد المعلن عنه نهاية فبراير سُمح لهم بالتسجيل، مما يعني أن الكثير من المواطنين حُرموا من التسجيل إذ إنهم تَركوه وسافروا.
وأضاف: "فضلا أن اتاحة التسجيل بجواز السفر تم دون إعلام العموم، ولذلك وجدتُ شخصيا من له جواز سفر ولم يتمكن من التسجيل لأنه لا علم له بتمديد التسجيل وإتاحته لمن يحمل جواز السفر".
بدوره، عدد السياسي الموريتاني اكناته النقره، اختلالات العملية الانتخابية الحالية، قائلا إن منطق الأفعال وقرائن الأحوال تؤشر، إن لم يتم تصحيح عَوار المسلسل الانتخابي، إلى أننا مقبلون على واحدة من أكبر عمليات التلاعب الانتخابي وتزييف إرادة الناخبين طيلة التاريخ السياسي للبلد.
وأوضح النقره في مقال رأي نشره موقع "الأخبار" المحلي، 24 فبراير 2023، أن من أدوات هذا التلاعب، "التوطين أو الترحيل الانتخابي للناخبين إلى مواطن جديدة لا تربطهم بها أية صلة إدارية طبيعية، ولا يقطنون بها، ولا تربطهم وإياها مصالح معروفة، اللهم إلا قلب الميزان الانتخابي لصالح أطراف محسوبة في الغالب على النظام نفسه من الناحية السياسية".
واسترسل: "يجري الضغط على الموظفين في الدوائر الحكومية من قبل رؤسائهم للتسجيل في دوائر محددة لصالح حزب الإنصاف الحاكم".
وأيضا "التوظيف الفج للمال السياسي في شراء ذمم أصحاب الفاقة من المواطنين والتأثير على إرادتهم الحرة في الاختيار بسحب هوياتهم والتحكم بها، وغيرها من خروقات جسيمة تفرغ العملية الانتخابية ذاتها من أي مضمون ديمقراطي حقيقي".
وخلص إلى أن كل الأبواب تبقى مفتوحة أمام مختلف خيارات الفعل النضالي السلمي لتصحيح هذا الوضع، إذ لا يصح في النهاية إلا الصحيح، داعيا المواطنين إلى الوعي والفطنة، وعدم الانخداع بالشعارات الفارغة، حتى لا يُلدغوا من جديد.