توترات صربيا وكوسوفو.. هل تطرق الحرب أبواب القارة الأوروبية من جديد؟
منذ اللحظات الأولى للهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، اتجهت أنظار العالم صوب القارة الأوروبية، خاصة منطقة غرب البلقان منها؛ تحسبا لاندلاع حرب جديدة في قلب القارة العجوز.
فقد جرت العادة أن تمهد التوترات القائمة في البلقان الطريق أمام اندلاع حروب واسعة النطاق في القارة الأوروبية؛ وذلك على غرار الحرب العالمية الأولى.
وتضم منطقة غرب البلقان ست دول هي: ألبانيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود، صربيا، كوسوفو، ومقدونيا الشمالية، جميعها لم تنضم بعد للاتحاد الأوروبي.
وازدادت أهمية تلك الدول الجيوسياسية في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا؛ ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى تكثيف جهوده للمساعدة في إدارة نزاعات المنطقة والمضي قدماً في دمج دول غرب البلقان في التكتل.
ملامح التوتر
ورغم ذلك؛ تصاعدت التوترات في البلقان خلال عام 2022 ووصلت ذروتها في ديسمبر/كانون الأول 2022 على طول الحدود بين صربيا وكوسوفو، تزامناً مع تقديم الأخيرة طلبها الرسمي لعضوية الاتحاد الأوروبي في 15 من الشهر نفسه.
وطلبت وزارة الدفاع الصربية من بعثة حلف شمال الأطلسي "الناتو" في كوسوفو الإذن بإرسال وحدة محدودة من الشرطة والجيش إلى البلاد.
بينما أغلق متظاهرون من الأقلية الصربية بعض الطرق في شمالي كوسوفو، وتبادل مسلحون مجهولون النار مع الشرطة الكوسوفية وألقوا قنبلة صوتية على أفراد من بعثة الاتحاد الأوروبي (EULEX) المكلفة بتسيير دوريات الأمن في المنطقة.
وأمر الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش في 27 ديسمبر 2022، برفع حالة الاستعداد القتالي للقوات المسلحة ووضعها في حالة تأهب قصوى، كما أمر قائدَ جيشه بالتوجه إلى الحدود مع كوسوفو، وسط تصاعد التوتر بين البلدين.
وقالت الخارجية الصربية إن بلغراد مستعدة للتدخل في حالة وقوع هجوم على الصرب في شمال كوسوفو ومنطقة ميتوهيا الجنوبية الغربية.
وفي المقابل وضعت سلطات كوسوفو قواتها في حالة تأهب قصوى، وتعهد رئيس وزرائها ألبين كورتي بأن بلاده "ستدافع عن نفسها بقوة وحسم".
وجاء هذا الإعلان الصربي على خلفية إلقاء حكومة كوسوفو القبض على ضابط سابق في الشرطة الكوسوفية من أصول صربية، واتهامه بالاعتداء على ضباط في الأمن الوطني.
مع العلم بأنه قد بادر في وقت لاحق بتقديم استقالته من الخدمة في أوساط الشرطة الكوسوفية، بجانب 600 ضابط آخرين، للتعبير عن رفضه خطط الحكومة الكوسوفية الرامية إلى إلغاء العمل بلوحات السيارات الصربية داخل البلاد.
وأثار هذا الأمر حالة من الغضب في أوساط الأقلية الصربية المقيمة في كوسوفو، وعدّوا الخطوة بمنزلة جزء من الأعمال الانتقامية والقمعية التي تمارسها الحكومة الكوسوفية ضدهم.
وجاء رد الأقلية عنيفاً؛ عبر تنظيم المظاهرات وقطع الطرق الرئيسية الواصلة بين عدة مدن في المناطق الشمالية من البلاد، ووقف العمل بعدد من المدارس القائمة هناك.
من جانبه يرى الباحث الكوسوفي في شؤون دول البلقان سند خاليتوفيتش في حديثه لـ "الاستقلال" أن وراء كل هذه التحركات قضية أساسية واحدة فقط، وهي قضية "الاعتراف" بمجتمع البلديات الصربية.
وفي اتفاق بروكسل بين صربيا وكوسوفو عام 2013، كان يتوقع إنشاء مجتمع البلديات الصربية، أي البلديات ذات الأغلبية الصربية في كوسوفو، والتي سيكون لها وضع خاص.
ولكن، على الرغم من توقيع الجانب الكوسوفي على هذا الاتفاق، فإنه لم يجر تنفيذه بعد.
ويضيف خاليتوفيتش أنه منذ حظر وصول كوسوفو إلى "اليونسكو" (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) عام 2015، بسبب الضغط الصربي؛ جرى تعليق إنشاء اتحاد البلديات الصربية تمامًا.
ويقول الجانب الألباني إن إنشاء اتحاد البلديات الصربية يمكن أن ينتهك سيادة كوسوفو، بينما تصر صربيا على التنفيذ الكامل لاتفاقية بروكسل وتشكيل اتحاد البلديات الصربية.
ويشير الباحث في شؤون دول البلقان سند خاليتوفيتش إلى أن سلطات كوسوفو لا تتمتع بسيادة كاملة في البلديات الصربية، خاصة في شمال البلاد.
لذلك حتى تنفيذ الصلاحيات الأساسية للدولة في شمال كوسوفو كان دائمًا صعبًا، وتعد هذه القضية بحسب خاليتوفيتش مركزية في العلاقات الحالية بين الجانبين، فضلا عن سبب العديد من التوترات في الفترة السابقة.
أدوار خارجية
أعلنت كوسوفو استقلالها عام 2008، لكنها لم تكتسب بعد عضوية الأمم المتحدة كدولة مستقلة ذات سيادة.
وبينما اعترف بها من قبل حوالي 110 دول، فإن صربيا لم تعترف بدولة كوسوفو، ولا تزال تراها جزءا من أراضيها، كما لا تزال كل من روسيا والصين تراها جزءا من بلغراد.
وهناك خمس دول في الاتحاد الأوروبي هي إسبانيا واليونان وقبرص ورومانيا وسلوفاكيا، لا تعترف باستقلال كوسوفو؛ بسبب مخاوف من حركات انفصالية وأقليات عرقية مماثلة داخل حدودها أو بسبب علاقات تاريخية وثيقة مع صربيا.
ويرى سفير البوسنة السابق لدى الكويت أدهم باشيتش في حديثه لـ "الاستقلال" أنه لولا الهجوم الروسي على أوكرانيا لكانت البلقان هي ميدان معركة مؤجلة بسبب الخلافات العرقية في المنطقة.
ولولا وجود قوات لحلف الناتو لكانت صربيا منذ زمن قد اجتاحت كوسوفو على وجه التحديد؛ في ظل وجود الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش الذي عمل كوزير سابقا في عدد من حكومات القادة الصرب المتطرفين، وفق باشيتش.
ويضيف أن الرئيس الصربي الحالي يستخدم الكنيسة الأرثوذكسية الصربية في تأجيج الخلافات سواء في البوسنة أو في الجبل الأسود - رغم انضمامها إلى الناتو-.
ومثل تلك التصرفات بحسب سفير البوسنة السابق جعلت المنطقة كأنها تحيا في القرون الوسطى وعرضة للهجمات المتطرفة في أي وقت.
ولا يمكن استبعاد الانخراط الروسي في التوترات بين صربيا وكوسوفو، إذ تداخلت موسكو في سياق الأزمة القائمة بصورة مباشرة.
وذكر المتحدث باسم الكرملين الروسي “دميتري بيسكوف”، في 28 ديسمبر 2022، أن "روسيا تدعم ما تقوم به صربيا بهدف وضع حد للتوترات في كوسوفو"
وأضاف بيسكوف أن لروسيا علاقات وثيقة جدا كحليفين تاريخية، وروحية مع صربيا؛ مشيرا إلى أنه "من الطبيعي أن تدافع بلغراد عن حقوق الصرب الذين يعيشون في الجوار وسط ظروف بالغة الصعوبة، وأن ترد بشكل حازم حين انتهاك حقوقها".
كما تواصل موسكو تقديم دعمها الدبلوماسي والمالي للزعيم القومي لصرب البوسنة ميلوراد دوديك، الذي يدعو للانفصال الكامل لإقليم "صربسكا" عن سراييفو.
وهناك اتهامات لروسيا بالوقوف خلف محاولة الانقلاب الفاشلة في الجبل الأسود عام 2016، كجزء من جهود موسكو لمنع هذه الدولة من الانضمام إلى الناتو.
ويشير سفير البوسنة السابق إلى أن صرب البلقان يعملون على تنفيذ أجندة الرئيس الروسي التوسعية وإعادة الإمبراطورية الروسية إلى سابق عهدها.
وأردف: "لو نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، ستكون دول البلقان وربما دول أخرى في أوروبا هي الهدف التالي له".
ويتابع باشيتش أنه على الرغم من فداحة الهجوم الروسي على أوكرانيا؛ فقد أرسل رسالة تحذير إلى دول الاتحاد الأوروبي وأميركا بأن الخطر الروسي قد يستهدف دول البلقان.
وبالتالي عمل الجانبان على محاولة منع أي توتر في المنطقة بسبب الرسائل الخطيرة التي خرجت من الحرب الروسية على أوكرانيا.
ففي مواجهة التحركات الروسية جاءت قمة تيرانا (العاصمة الألبانية)، في 6 ديسمبر 2022، كأكثر قمم الاتحاد الأوروبي نجاحاً مع دول غرب البلقان؛ بسبب مشاركة جميع رؤساء وممثلي المستويات العليا من السلطة بهذه الدول فيها، بما في ذلك صربيا.
وأسفرت القمة عن الإعلان عن تقديم الاتحاد الأوروبي حزمة مساعدات للمنطقة بقيمة مليار يورو، لمساعدة الأسر والشركات على تحمل ارتفاع تكاليف الطاقة، بالإضافة إلى دعم الاستثمار في البنى التحتية للطاقة المتجددة وتوليد الكهرباء.
كما سبق وأطلق الاتحاد الأوروبي خطة اقتصادية واستثمارية للمنطقة بقيمة 30 مليار يورو، تهدف إلى تعزيز التحول الأخضر والرقمي.
وجرى الإعلان أيضاً عن اتفاق لبدء خفض تكاليف السفر عبر دول غرب البلقان والاتحاد الأوروبي بدءاً من العام 2024، ومواصلة القيام بذلك تدريجياً حتى عام 2027.
بالإضافة إلى الالتزام بدمج جامعات غرب البلقان في برنامج الشراكة الأوروبية للتعليم.
ويضع الاتحاد الأوروبي تسوية النزاع الإقليمي وتطبيع العلاقات شرطا رئيسا لكل من صربيا وكوسوفو لتحقيق عضوية الاتحاد الأوروبي.
وهو ما يمثل حافزا قويا لكلا الجانبين على تخفيف التوترات، خاصة أن تفاقم الصراع بين صربيا وكوسوفو لن يؤدي فقط إلى تعطيل مسار انضمام الدولتين إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضاً ستكون له عواقب فورية على اقتصاد كلا البلدين.
جهود التهدئة
على الرغم من تصاعد التوترات بين دول المنطقة بصورة مقلقة خلال ديسمبر 2022، توجد العديد من المؤشرات الداعمة على أن الموقف الحالي ما هو إلا جزء من المناكفات المعتادة بين الغرماء التقليديين في هذه المنطقة، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال اندلاع حرب جديدة في البلقان.
فالحكومة الكوسوفية بادرت بإطلاق سراح ضابط الشرطة الذي مثل اعتقاله الشرارة الأولى للتصعيد الأخير بينها وبين بلغراد.
ورحبت صربيا بهذه الخطوة، كما صرح وزير دفاعها “ميلوس فوسيفيتش”، في 28 ديسمبر 2022، أن بلغراد "مستعدة للتوصل إلى اتفاق"، وأن لديها "خط اتصال مفتوحا" مع الدبلوماسيين الغربيين لحل القضية.
وفي أعقاب الإعلان عن إطلاق سراح الضابط الكوسوفي من الأقلية الصربية، رحبت واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي بهذه الخطوة، ودعتا إلى مزيد من التهدئة بين الطرفين.
وتكمن أهمية ذلك في ظل مساعي الاتحاد الأوروبي لتهدئة الأوضاع في البلقان وتقليل النفوذ الروسي والصيني في هذه المنطقة التي تمثل عمقاً استراتيجياً مهما، ومصدراً للطاقة.
ويرى الباحث في شؤون البلقان سند خاليتوفيتش أنه يمكن القول إن الحرب في أوكرانيا أدت إلى زيادة الضغط من المجتمع الدولي على السلطات الصربية والكوسوفية لإيجاد حلول للنزاعات المتبادلة في أسرع وقت ممكن، من أجل إغلاق الباب أمام أي صراع محتمل في المستقبل.
وبين خاليتوفيتش في حديثه لـ "الاستقلال" أن ألمانيا وفرنسا قدمتا اقتراحا بشأن تسوية العلاقات بين صربيا وكوسوفو في أكتوبر/تشرين الأول 2022.
وفي خطابه العلني في 8 أكتوبر 2022 قدم رئيس صربيا، ألكسندر فوتشيتش، الإطار الأساسي لهذا الاقتراح، وهو أن تسمح صربيا لكوسوفو بالوصول إلى المؤسسات الدولية.
وفي المقابل ستحصل صربيا على قبول سريع في الاتحاد الأوروبي ومساعدات اقتصادية كبيرة. ولكن حتى الآن، لا يوجد تقدم كبير.
ويضيف خاليتوفيتش أنه لا يمكن إغفال الجهود التركية للحفاظ على الاستقرار في دول البلقان؛ في ظل العلاقات القوية التي تتمتع بها أنقرة مع الطرف الصربي والكوسوفي.
ويشير الباحث في شؤون البلقان إلى أن تركيا تظهر اهتمامًا كبيرًا لمنطقة البلقان، ومن المؤكد أنها تراقب باستمرار كل ما يحدث في هذه المناطق وستسهم في إيجاد أفضل الحلول الممكنة لكلا الجانبين.
ومن المتوقع بحسب تقديره احتواء التوترات الحدودية والتهديدات المتصاعدة بين صربيا وكوسوفو، ومنع تحولها إلى اضطرابات عرقية واسعة أو التحول إلى مواجهة بين الدولتين.
وأرجع ذلك إلى الوجود الكبير لقوات حفظ السلام التابعة للناتو (KFOR)، بالإضافة إلى الضغط الدبلوماسي الغربي الذي يستثمر رغبة البلدين في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في تحفيزهما لخفض التوترات وتطبيع العلاقات.
وفي النهاية، يمكن القول إن الوضع في البلقان يتأرجح دائماً منذ القرنين التاسع عشر والعشرين بين التصعيد والتهدئة.
إلا أن التخوف الحقيقي يكمن في إمكانية تعرض المنطقة لذات التطورات التي أسهمت بصورة أساسية في إشعال الحرب العالمية الأولى عام 1914، في أعقاب اغتيال الأرشيدوق النمساوي “فرانز فرديناند”، وما تبع ذلك من إعلان النمسا الحرب على صربيا.
المصادر
- زعماء الاتحاد الأوروبي يمنحون البوسنة "وضع مرشح" للانضمام إلى الكتلة
- قمة برلين: الاتحاد الأوروبي يعلن عن حزمة دعم للطاقة بقيمة مليار يورو لغرب البلقان ويرحب بالاتفاقيات الجديدة لتعزيز السوق الإقليمية المشتركة
- توترات صربيا وكوسوفو.. حوافز التهدئة أكبر من دوافع التصعيد
- ما سبب تصاعد التوترات في البلقان؟
- مستشارة وزارة الخارجية تشوليت في جولة غرب البلقان