عبر شركات "الأوفشور" .. هكذا يساهم نظام السيسي في قتل الاقتصاد المصري
حالة من الاضطراب وغياب الشفافية يعيشها الاقتصاد المصري، مما يثير قلق المستثمرين الذين اضطر بعضهم للهروب إلى أسواق أجنبية، أو الاحتماء بقوانين دول أخرى بنقل بعض أنشطتهم للخارج، وفق ما يعرف بـ"شركات الأوفشور" الوهمية.
وفي 25 ديسمبر/ كانون الأول 2022، جاء خبر بيع صوري لربع أسهم شركة "النساجون الشرقيون" الأهم في مصر بصناعة السجاد، لشركة إنجليزية، ليثير ملف هروب بعض رجال الأعمال من السوق المحلية، وإنشاء شركات تحمل جنسية أجنبية بدوافع عديدة.
هروب مثير
وأعلنت "النساجون الشرقيون" نقل ملكية 24.61 بالمئة من أسهم الشركة المقيدة بالبورصة المصرية، والمملوكة لياسمين وفريدة، نجلتي رجل الأعمال الراحل محمد فريد خميس (مؤسس الشركة)، لشركة إنجليزية، تحمل اسم "FYK LIMITED"، ومكونة من الحروف الأولى من اسميهما واسم والدهما.
إجراء نجلتي خميس، قرأه خبراء ومراقبون بأنه "محاولة للهروب من السوق المصري المعقد بقوانين معوقة وقرارات متضاربة وتحيطه أزمات مستمرة، ويأتي تحسبا لأي تغول من النظام عليهم، كما حدث لبعض رجال الأعمال، أبرزهم مؤسس شركة جهينة للألبان والعصائر، صفوان ثابت".
وأكد الخبراء أن تصرف نجلتي فريد خميس، هو نوع من اللجوء للخارج والاحتماء بقوانينه، والاستفادة من نظام شركات "الأوفشور" أو الملاذات الضريبية.
وألمحوا إلى أن العديد من رجال الأعمال المصريين سبقوا نجلتي خميس في هذا الأمر، وهو ما كشف عنه الخبير الاقتصادي ورجل الأعمال المصري المعارض، محمود وهبة، في 4 يناير/ كانون الثاني 2022.
وهبة، أعلن عن أسماء وعناوين 356 شركة مصرية لها حسابات سرية في الخارج عبر شركات "الأوفشور" الوهمية أو ما يعرف بـ"الملاذات الضريبية".
وعبر صفحته بـ"فيسبوك" في 4 يناير 2023، تقدم ببلاغ للنائب العام المصري للتحقيق مع هذه الشركات، داعيا إياه لـ"وقف ما يقومون به من عمليات تهريب للأموال من مصر إلى الخارج".
وهبة، نقل تلك البيانات عن "وثائق بنما"، و"وثائق باندورا"، و"وثائق كريدت سويس"، والتي تكشف بعض تسريباتها عن حسابات خارجية لرؤساء دول وشخصيات عامة وسياسية، بينهم حكام ومسؤولون ورجال أعمال عرب ومصريون.
وقال المعارض المصري الذي يحمل الجنسية الأميركية، إن "مصر تعاني نقص العملة الأجنبية بينما أمامها مصدر ضخم منها مخبأ في حسابات سرية (أوفشور)".
ودعا وهبة، رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، لاستردادها، ملمحا لاحتمال "مشاركته بتلك الجريمة".
الحديث عن شركات "الأوفشور" المصرية يأتي في توقيت يعاني فيه اقتصاد البلاد من أزمات مالية طاحنة، وسط مطالبة القاهرة بسداد فوائد وأقساط نحو 17.6 مليار دولار عام 2023، كخدمة لدين خارجي تعدى 172 مليار دولار.
وفي 2022، تفاقمت أزمات الاقتصاد المصري بشدة، وفقدت العملة المحلية نحو 58 بالمئة من قيمتها، وعانى الشعب من الفقر والبطالة والغلاء ووصول معدل التضخم الأساسي لمستوى قياسي بنحو إلى 21.5 بالمئة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
وفي انحدار جديد للعملة المحلية وصف بـ"الكارثي" شهد 4 يناير 2023، تخطى سعر صرف الجنيه رسميا حاجز الـ26 مقابل الدولار الأميركي، لأول مرة في تاريخه، ما أدى لاشتعال السوق السوداء ووصولها إلى حاجز الـ38 جنيها للدولار.
ماذا تعني؟
مصطلح "أوفشور" يُطلق على الحسابات التي تفتحها شركات محلية بأي دولة خارج حدود مقرها الأصلي بطريقة قانونية؛ لتجنب دفع نسب ضرائب عالية في بلدها الأم، والاستفادة من قوانين وتسهيلات الدول الأخرى، وهربا من قوانين تراها مجحفة بها في موطنها.
ويعتبر ذلك الجانب الرسمي والقانوني والمعروف لشركات "الأوفشور"، والذي لا يمكن مساءلة الشركات بحقه، وفق متحدثين لـ"الاستقلال".
لكنه على الجانب الآخر، يمثل هذا النظام فرصة لبعض الشركات للتهرب من الضريبة المستحقة ببلادها أو نقل الأموال منها بطرق غير مشروعة واستخدامها في تجارة مجرمة قانونا ومحرمة دوليا.
سويسرا، كندا، جزر كايمان، جزر العذراء البريطانية، أيرلندا، بنما، جزر كوك، أسكتلندا، المملكة المتحدة، وغيرها في أوروبا وأميركا تتنافس على تقديم حوافز لشركات "الأوفشور".
هدف تلك البلدان وبنوكها المنتشرة في العالم جذب المستثمرين ورؤوس الأموال للعمل لديها، مقابل ضرائب منخفضة.
وفي هذا الإطار تضع قوانين تمنع مساءلة شركات "الأوفشور" أو الكشف عن حساباتها، خاصة التي تعمل في بلدان غير ديمقراطية.
ووفق دراسة صادرة عام 2016، عن "المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية" بالقاهرة، يضم العالم نحو 80 منطقة أوفشور، قدرت حجم الثروات النازحة إليها بنحو 32 تريليون دولار.
الكاتب والمحلل الاقتصادي، عمرو الأبوز، أكد على سهولة تأسيس مثل تلك الشركات، لافتا إلى أنه في دولة مثل بنما إحدى دول جنوب أميركا الوسطى، يُمكن تأسيس شركة "أوفشور" مقابل 3385 دولارا.
الأبوز، وفي مقال منشور في أبريل/ نيسان 2016، عقب تسريب "وثائق بنما"، أكد أن "تكلفة تلك الشركات هناك زهيدة جدا بالنظر إلى مصروفات تأسيس الشركات في دول العالم، هذا بالإضافة إلى إمكانية فتح حساب مصرفي سري ببنما وخارجها".
ولفت إلى أن حكومة بنما لا تفرض أي نوع من أنواع الضرائب على شركات "الأوفشور"، طالما أنها لا تمارس الأعمال التجارية في الدولة.
وأشار إلى أن الوثائق التي سربها موظف سابق في مصرف "إتش إس بي سي" فرع سويسرا، وأُعلن عنها في فبراير/شباط 2015، كشفت أن مديري الحسابات في هذا المصرف يبحثون بصفة غير قانونية عن زبائن مفترضين راغبين بإخفاء أموالهم بشركات "الأوفشور".
فما قصة شركات "الأوفشور" المصرية وحساباتها السرية بالخارج؟، وهل يجري تدشينها والسماح بنقل أموالها للخارج بتواطؤ حكومي؟، وما إمكانية وقف تلك الحسابات ومصادرة تلك الأموال؟.
شركات قانونية
وفي إجابته قال الباحث في الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية، مصطفى يوسف، إن "شركات (الأوفشور)، قانونية تماما، وهي طريقة متبعة تلجأ إليها بعض الشركات التي تعمل في سوق غير جيدة وتحكمه قوانين جائرة".
وأكد يوسف لـ"الاستقلال"، أن السوق المصري تنطبق عليها هذه الحالة، مشيرا إلى أن "العديد من المستثمرين المصريين تعرضوا لمصادرة أموالهم، والسطو على شركاتهم، فيدشن شركة بالخارج بحسابات سرية وأسماء أجنبية".
ويرى أن "ما فعلته ابنتا محمد فريد خميس، تصرف في غاية الذكاء، فهم أناس تعبوا في جمع هذه الأموال، ولديهم مخاوف، فهل يتركونها حتى تسطو عليها الحكومة، مثلما فعلت في أموال وشركة رجل الأعمال صفوان ثابت".
وأوضح أن "البعض يلجأ للأوفشور بوصفها شركات قانونية يقوم عليها محامون ومحاسبون محترفون ليحافظوا للأغنياء على أموالهم، بجانب تقليل ما يدفعونه من ضرائب لبلدانهم، وبشكل قانوني، فالمستثمرون يفعلونها ويسمونها ملاذات ضريبية".
ولتقليل خسائر مصر من هذا الهروب، يرى يوسف أنه "يجب تغيير القوانين الداخلية، حتى لا يمكن الاقتراب من مستثمر بغير وجه حق، مع تقليل الضرائب، ووضع منظومة قوانين مستقلة ومنظومة عدالة حقيقية، حتى لا يمكن لأحد فعل ما تم فعله في صفوان ثابت".
وشدد على ضرورة تقليل نسب الضرائب، مشيرا إلى تجارب بعض الدول وبينها أميركا، فمع بداية حكم الرئيس السابق دونالد ترامب (2017- 2020)، قلل الضرائب مما دفع الشركات التي تضع أموالها في ملاذات آمنة للعودة للسوق المحلي.
ويعتقد يوسف أن "ما يثار عن الإبلاغ للنائب العام المصري عن تلك الشركات ونشر أسمائها لن يؤدي لأي تغيير، لأنها بالفعل قانونية، وكون شركة مصرية لها فرع بكندا أو أيرلندا أو جزر كايمان أو أي ملاذ ضرائبي في أوروبا فلا أحد يقدر على الاقتراب منها".
وبين أن "التحكيم الدولي سينصفها، خاصة أن محاكم الاتحاد الأوروبي الاقتصادية والأميركية كذلك، تعلم نوعية الأنظمة والقوانين المصرية، ولذا فلن يحكم ضد تلك الشركات؛ لأنه يراها أيضا قانونية ولا ترتكب خطأ".
وختم الباحث في الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية، بالتأكيد على ضرورة "تعديل منظومة القوانين؛ ليكون المستثمر آمنا على أمواله".
وفي أبريل/ نيسان 2016، طالب برلمانيون مصريون بفتح تحقيق قضائي بشأن الملفات المسربة من "أوراق بنما"، التي شملت اسم الرئيس الراحل حسني مبارك، وزوجته سوزان، ونجليه علاء وجمال، والتي كشفت عن أموال مهربة وجرائم غسيل الأموال.
وذلك إلى جانب أسماء رموز من نظام مبارك، أبرزهم رجل الأعمال أحمد عز، ووزراء الداخلية حبيب العادلي، والإسكان أحمد المغربي، والتجارة رشيد محمد رشيد، والسياحة زهير جرانة.
شبهة تواطؤ
خبير اقتصادي مصري آخر، تحدث لـ"الاستقلال" عن "الأوفشور"، مفضلا عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، قائلا: "له أكثر من زاوية، الأولى تتعلق بالتهرب الضريبي وعدم دفع مستحقات الدولة، وإخفاء معاملات الشركات مع تهريب الأموال للخارج".
وأشار إلى أن "الجزء الثاني، يجري بدول تعاني من نظم سياسية استبدادية"، مبينا أن "هذه الشركات ورجال الأعمال يحاولون الحفاظ على أموالهم بنقلها للخارج وربطها بحسابات أجنبية لا يمكن للدولة القادمة منها مصادرتها أو السيطرة عليها".
وأوضح الخبير الاقصادي أن "الأمثلة في مصر كثيرة لرجال أعمال استولت على أصولهم الدولة ونقلتها للغير، بينما الذين يتحصنون خلف الجنسيات الأجنبية وخاصة الدول الكبرى أو خلف أسماء لشركات أجنبية، بعيدون عن أيدي الحكومة لحد كبير".
ولفت إلى أن "الدولة المصرية مرتبطة بالتزامات دولية، وبالتالي فإن سيطرتها على هذه الشركات ضعيفة، ورغم تهربها من الضرائب إلا أنها شركات قانونية، ولكنه نظام عالمي إلى حد كبير معترف به، وهذه هي المشكلة".
وأفاد الخبير المصري بأن "الحكومة ترى وتعرف كل شيء عن كل شيء ولا يوجد رجل أعمال بمصر إلا وهناك شخص من مؤسسة أمنية يعمل في مكتبه، وبالتالي كل هذه الأموال والشركات مرصودة".
وذهب للاعتقاد بأن "أصحاب هذه الشركات إما أن يكونوا أنفسهم مسؤولين أو سياسيين أو أعضاء بالبرلمان بغرفتيه أو مقربون من السلطة أو لديهم شراكات مع أجهزة داخل الدولة".
وأكد على أن "هذه الشركات تعمل تحت سمع وبصر نظام السيسي".
ويرى الخبير المصري أنه "من الصعوبة بمكان أن يجري منعها منعا باتا، ولكنه كما نعلم حال الأنظمة التي تحكمنا بالوطن العربي كله تستطيع أن تجبر هذه الشركات على دفع مستحقات الدولة، إذا أراد النظام ذلك".
ويرى أن "النظام يغض الطرف عن هذه الممارسات والشركات، ويغض الطرف عن مستحقاته لدى هذه الشركات، في نوع من أنواع التواطؤ إلى حد كبير".
وبيّن أنه "لا يمكن وقف تدفق هذه الأموال للخارج، لأنه في النهاية هو تدفق قانوني تحكمه قوانين عالمية، ولا يمكن أن يحدث مخالفة له على الأقل ظاهريا من قبل الدولة".
وقال الخبير المصري: "بالطبع هذا له تأثير كبير وخطير على المستوى الاقتصادي للدولة؛ لأن تهريب هذه الأموال يحرم الدولة من مصادر مالية كان يمكن أن تغطى جزءا من عجز الموازنة العامة، أو كان يمكن توجيهها للاستثمارات".
"إضافة إلى أن هذه الأموال وحتى إن لم تدفع تلك الشركات الضرائب فقد يعاد استثمارها بالوطن، ولكن ما يجري هو حرمان لمصر من الضرائب والاستثمار، ومن خلق فرص عمل، وبالتالي حرمانها من المزيد من الضرائب والمشروعات الجديدة".