إضراب قضاة لبنان في 2022.. الفقر يوقظ "الوحش" والحكم لشريعة الغاب

12

طباعة

مشاركة

يواصل قضاة لبنان إضرابهم المفتوح والانقطاع التام عن العمل منذ 16 أغسطس/آب 2022، احتجاجا على الأوضاع المالية والاجتماعية التي يعيشها الجسم القضائي، ورفضا للإذلال والقهر اللذين يتعرض لهما. 

وانضم قضاة كبار إلى الإضراب بينهم أعضاء في مجلس القضاء الأعلى، أرفع سلطة قضائية، وديوان المحاسبة ومجلس شورى الدولة، وهما سلطتان رقابيتان، للمطالبة بزيادة على رواتبهم تتناسب مع الانهيار الكبير في سعر صرف الليرة اللبنانية. 

ويعد هذا الإضراب، الذي يقترب من شهره الخامس، الأطول في تاريخ لبنان. وتشكل الأزمة المالية العنصر الأساسي فيه، بعد أن فقدت رواتب القضاة قيمتها بسبب انهيار العملة، ما دفع بعضهم إلى تقديم استقالته والانتقال للعمل في دول الخليج العربي.

الفقر أوقظ الوحش في لبنان، إذ أدى إضراب القضاة الى تجميد سير العدالة، وتعطيل العمل في دوائر التحقيق ومعظم المحاكم، وتأجيل البت بعشرات القضايا التي بقيت حبيسة الأدراج، فتحولت البلاد للحكم وفق "شريعة الغاب".

و"شريعة الغاب" عبارة تاريخية، يقصد بها تفش حالة الفوضى في المجتمع، حيث يتصرف كل شخص كما يريد، ويأخذ حقه بنفسه، وذلك لأسباب مختلفة؛ من بينها ضعف الأمن أو سوء السلطة، وفي لبنان يجتمع الاثنان.

إذ تفشت الجرائم والسرقات في لبنان بشكل غير مسبوق، بالتوازي مع اكتظاظ السجون التي بلغت نسبة نزلائها 323 بالمئة من قدرتها الاستيعابية، وسط عجز الدولة عن تأمين الطعام والطبابة للمساجين.

رواتب هزيلة

وفي الأيام الأخيرة برزت بعض المؤشرات التي تشير إلى قرب انفضاض إضراب القضاة مع مطلع السنة الجديدة. 

وقال القضاة في البيان الصادر عنهم في 17 أغسطس، والذي أعلنوا فيه الإضراب المفتوح "دق ناقوس الخطر في العديد من المرات".

وحذروا من أن ظروف العمل لامست خط التعذر، من دون أن يلقوا آذاناً صاغية من السلطة التي تعمدت التجاهل في التعاطي مع مطالب القضاة المستحقة. 

أما عن سبب هذا التجاهل من قبل الدولة فيختصره البيان بـ"الرغبة المتعطشة لتقويض القضاء وإخضاعه وإذلاله على الدوام". وتابع: "فقد بلغ السيل الزبى وأمسى التوقف النهائي عن العمل خيارا لا بد منه ومناصا يتعذر اجتنابه". 

ويشير إلى أن "راتب القاضي الأصيل الذي أمضى في الخدمة ما يقارب أربعين عاماً لا يتجاوز 8 ملايين ليرة (أي ما يعادل 190 دولار تقريباً حالياً)". 

وتظهر لائحة رواتب القضاة التي كشف عنها الصحافي علي الموسوي في مقالته في 10 ديسمبر/كانون الأول 2022 بموقع "محكمة" المتخصص في الشؤون القضائية، مدى تدهور رواتب القضاة. 

فالقاضي من ذوي الدرجات (من 1 إلى 4) يبلغ راتبه 4.100.000 ليرة لبنانية، وكان يعادل 2.721 دولارا قبل بدء انهيار العملة، في حين بات يعادل اليوم 98 دولارا تقريبا، وهذا في حده الأدنى. 

أما في حده الأعلى للقضاة من أصحاب الدرجات الرفيعة (من 22 الى 24)، فيبلغ راتب القاضي 9.350.000 ليرة لبنانية، وكان يعادل 6.204 دولار قبل انهيار قيمة العملة المحلية، في حين بات يعادل 223 دولارا تقريبا. 

وكان مجلس القضاء الأعلى قد حاول بالاتفاق مع الحكومة اللبنانية، ومحافظ المصرف المركزي تمرير زيادة خاصة بالقضاة وحدهم في يوليو/تموز 2022 تعادل 5 أضعاف الراتب الحالي. 

لكن القرار سقط بعد أن كاد يحدث ثورة ضد الدولة من قبل باقي القطاعات والمؤسسات، ولا سيما المؤسسات العسكرية والأمنية التي بات معدل رواتب الأفراد من غير الضباط أقل من 100 دولار. 

وسارعت رئيسة رابطة موظفي القطاع العام نوال نصر إلى المطالبة بـ"مساواة الموظفين مع القضاة الذين في الأساس رواتبهم عالية".

وفي المقابل قدمت الحكومة إلى صندوق تعاضد القضاة مبلغا أتاح لكل قاضٍ الحصول على ثلاث دفعات تتراوح كل واحدة بين 500 الى 1.100 دولار حسب درجة كل قاضٍ.

لكن ذلك لم يدفع القضاة إلى تعليق إضرابهم، نظراً لأن هذا المبلغ غير مستدام، فقد منح لمرة واحدة مع وعد بتجديده، وكذلك لأن صندوق تعاضد القضاة يقوم على اشتراكات يدفعها القضاة أنفسهم. 

زيادة مرفوضة

عادت الحكومة اللبنانية وأقرت زيادة على رواتب موظفي القطاع العام بنسبة تعادل الضعفين.

هذه الزيادة التي وافق عليها البرلمان في 26 سبتمبر/ أيلول 2022 من ضمن موازنة العام 2022، لم ترضِ القضاة لأنها أقل بكثير مما طالبوا به، وبسبب بعض الشروط التي تجعل الزيادة لدى البعض أقل من الضعفين. 

وكشفت الصحفية لينا فخر الدين في تقرير لها بصحيفة "الأخبار" المحلية في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول2022،  عن دراسة أجراها عدد من القضاة حول هذه الزيادة تشير إلى أنها "لن تتجاوز 6 ملايين ليرة لبنانية (حوالي 143 دولارا) لكل قاضٍ بعد احتساب الضرائب". 

وتضيف فخر الدين أنه "بناء على هذه الأرقام، فإن الزيادة لم تغرِ القضاة للعودة عن اعتكافهم، ولا يزالون يأملون بأن يسير مصرف لبنان في آلية لدفع الرواتب على سعر صرف 8 آلاف للدولار باعتبار أن هذا هو مطلب الحد الأدنى بالنسبة لهم". 

وتلفت في تقريرها أن "عدد القضاة العاملين في لبنان يبلغ 620 قاضيا، في حين يبلغ عدد المتقاعدين 2500 قاضٍ. وهؤلاء أيضا سيستفيدون من الزيادة على الرواتب".

من جانب آخر، تصاعدت الضغوط على القضاة من قبل العديد من الأطراف. وفي 12 أكتوبر 2022، أصدرت نقابة المحامين بياناً طالبت فيه القضاة بفك إضرابهم "الذي يضر بهم وبالمتقاضين والمحامين أضراراً كبيرة وهو ليس الطريقة الناجحة لتحقيق مطالبهم".

ودعت النقابة في بيانها القضاة إلى "العودة فورا إلى عملهم لأن العدالة لا تضرِب، والحاكم لا يضرب، بل يجابه بالمزيد من العطاء، تمهيدا للوصول إلى تحقيق مطالبه". 

وتعرض القضاة لانتقادات حادة من قبل بعض المنظمات الحقوقية، وأيضا من المواطنين المتضررين من اعتكافهم ومن عوائلهم. 

فالسجون قاب قوسين من الانفجار أو أدنى. وهي بحسب ما سبق وأعلن عنه وزير الداخلية بسام مولوي في 31 أغسطس/ آب2022، تعاني من ثلاث مشكلات رئيسية. 

أولها الاكتظاظ، حيث بلغت نسبة المساجين 323 بالمئة من طاقتها الاستيعابية، من ضمنهم حوالي 80 بالمئة غير موقوفين. أي لا يوجد حكم صادر بحقهم ويصنفون في عداد الموقوفين احتياطيا. وثانيها الطبابة، حيث لا دواء ولا استشفاء، أما الثالثة فهي التغذية. 

كما أن اعتكاف قضاة الجزاء حرم كثيرين من حريتهم نتيجة عدم البت في ملفاتهم، بحيث تجاوزت أيام التوقيف مدة محكوميتهم. 

فمنهم من لم تصدر أحكام بحقهم في مواعيدها نتيجة الاعتكاف، ومنهم من أوقف بجنحة بسيطة، لا تتجاوز مدة توقيفهم خمسة أيام قانونا ومازالوا حتى اللحظة قيد الاعتقال. 

وفي السياق عينه، ينتظر كثير من الموقوفين انعقاد الجلسات للبت في ملفاتهم، والحكم عليهم، خاصة في القضايا حيث يصعب استصدار قرارات إخلاء سبيل بحقهم. 

وتتكدس الملفات نتيجة تعليق الجلسات بسبب الإضراب، ويطول أمد المحاكمات، وتاليا مدة التوقيف وتختنق السجون بالموقوفين يوما بعد آخر.

وإلى القضايا الجزائية التي تشمل الموقوفين، هناك مئات الآلاف من الملفات ينتظر أصحابها البت فيها لتحصيل حقوقهم، وهي ذات طابع مدني. 

وباتت بحكم المجمّدة منذ بداية الأزمة المالية التي عصفت بالبلاد، والإضرابات المتعاقبة، وجائحة كورونا، وأصبح البت بها مؤجلا إلى أجلٍ غير مسمى، ما يكبد الكثير من المتقاضين خسائر جسيمة، سيّما في ظل التدهور الدراماتيكي لسعر صرف الليرة. 

حتى أن الكثير من القضايا التي أقيمت قبيل الأزمة ولم يُبت بها حتى الآن للأسباب المذكورة، باتت تكاليف التقاضي (بدل تبليغات، أتعاب محامين، بدلات نقل) فيها، تساوي أكثر بكثير من قيمة الحق المطالب به، ما سيعرضها بالتأكيد للإهمال، وتالياً لخسائر كبيرة في الحقوق. 

عودة حتمية

مطالب القضاة ليست محصورة فقط بزيادة الرواتب، بل ترتبط أيضاً بتحسين أوضاع قصور العدل بعدما تحولت إلى صحراء مهجورة، بلا ماء ولا كهرباء ولا أعمال صيانة ونظافة. 

إلا أنه مع تصاعد حدة الضغوط على القضاة، وبسبب ارتفاع معدلات الجرائم والسرقات بشكل ملحوظ، قرر بعض القضاة العودة إلى العمل بشكل فردي بمعزل عن زملائهم. 

وتشير المعلومات المستقاة من بعض المصادر القضائية، والتي انتشرت في الإعلام اللبناني إلى أن القضاة سيعلقون إضرابهم خلال يناير/كانون الثاني. 

وذلك ليأسهم من استجابة الحكومة لمطالبهم، الأمر الذي يجعل الإضراب غير ذي جدوى. بل على العكس فقد جعلهم في موضع الاتهام بتعطيل سير العدالة في نظر الرأي العام. 

ويكشف قاضٍ عاد إلى عمله بأنه وزملاءه الذين فعلوا مثله يفضلون "فك الإضراب مع تحسين أوضاع القضاة، لأن الوضع الأمني بات في خطر كبير". 

وقال: "قد عدنا عن قرارنا رغم أن الرواتب لم تعد لها قيمة، لأننا ندرك أن الدولة مستفيدة من هذا الوضع. فهي لا تأبه لحسن سير العدالة، خصوصاً على صعيد ملفات مثل انفجار بيروت (المجمد منذ أكثر من سنة)"، وفق صحيفة العربي الجديد. 

بدوره، يشير منسق اللجنة القانونية في "المرصد الشعبي" المحامي جاد طعمة إلى أن "المطلب الأساسي الذي رفع عند إعلان القضاة اعتكافهم، كان يرتكز على إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية".

قبل أن تضاف إليه المطالب المادية في ظل انهيار قيمة الرواتب، وعدم كفاية بدلات الانتقال، وذلك ربطاً بالأزمة الاقتصادية التي تطاول كل شرائح المجتمع اللبناني. ويتوقف طعمة في حديث لـ"الاستقلال"، عند تأثيرات اعتكاف القضاة الخطيرة على المجتمع.

ولفت إلى أنه "لا شكوى يمكن أن تسلك طريقها، ولا يمكن ملاحقة السارق أو المجرم، ولا جلسات إلا ما ندر". 

وبالتالي هناك تعطيل تام لمرفق العدالة، وغياب للردع القضائي، وتوقف المحاسبة والمساءلة، ما يترجم انتشارا للجريمة، وربما تشجيعاً عليها أيضاً. 

وهذا ما يذهب إليه المحامي نهاد سلمى، بقوله إن "اعتكاف القضاة الذي طال كثيرا ينعكس حتما على كل المجتمع، ويؤدي إلى انفلات أمني في مختلف المناطق، حتى إن البؤر الأمنية انتشرت نتيجة لتوقف مرفق العدالة. 

ويضيف لـ"الاستقلال": "السارق الذي لم يجر توقيفه لعدم صدور إشارة قضائية بحقه، لا يمنحه هذا فقط الإفلات من العقاب، بل يشجعه على ارتكاب مزيد من الجرائم". 

ويتوقف سلمى عند انعكاس الاعتكاف على قضايا النساء "في حال أرادت سيدة اللجوء إلى القانون لطلب الحماية، أو إبعاد الزوج عن مكانها الآمن، أو الحصول على حضانة أولادها، أو النفقة المؤقتة، فإنها لن تستطيع لأن القضاء معطل".

وفي 28 ديسمبر 2022، عقد قضاة لبنان جمعية عمومية بدعوة من رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، للبحث في قضية الإضراب.

وتمنى عبود على القضاة تسيير عمل المحاكم ضمن الاستطاعة حرصاً على استمرارية المرفق القضائي والعدالة. 

وكشف موقع "محكمة" المتخصص في الشؤون القضائية نقلا عن المجتمعين بأن العودة إلى العمل ستكون في مطلع عام 2023، دون تاريخ محدد.