"تتجاهل الإيغور لصالح الصين".. ما صحة الاتهام الغربي الموجه إلى تركيا؟
رغم مزاعم غربية متكررة بغض السلطات التركية طرفها عن انتهاكات الحكومة الصينية ضد أقلية الإيغور المسلمة، يثبت يوما بعد يوم أن أنقرة من أشد عواصم العالم دفاعا عن قضية تركستان الشرقية مهما بلغت تكلفة ذلك.
فلم يقتصر الأمر على إصدار بيانات شجب وإدانة كما تفعل معظم الدول الغربية، بل تحركت تركيا للتعبير عن تضامنها بمنح جنسيتها لعدد كبير من الناشطين الإيغور المقيمين على أراضيها منذ سنوات، كما رفضت تسليمهم إلى الصين.
تضامن واسع
وفي 29 ديسمبر/كانون الأول 2022، كشف وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، عن ركود علاقات بلاده مع الصين، مرجعا سبب ذلك إلى "موقف أنقرة من أقلية الإيغور في إقليم تركستان الشرقية".
وقال تشاووش أوغلو في تصريحات للصحفيين خلال "اجتماع تقييم نهاية العام" بالعاصمة أنقرة، إن "سبب ركود العلاقات بين تركيا والصين هو موقفنا حيال الإيغور"، حسبما نقلت وكالة الأناضول الرسمية.
وأوضح أن "هناك طلبات من بكين لتسليم أشخاص (أصولهم إيغورية) يعيشون في تركيا منذ فترة طويلة، مضيفا: "هم مواطنونا، ولا نسلم أحدا منهم".
ومنذ عام 1949، تسيطر بكين على إقليم "تركستان الشرقية" الذي يعد موطن أقلية "الإيغور" التركية المسلمة، وتطلق عليه اسم "شينجيانغ"، أي "الحدود الجديدة ".
وتشير إحصاءات صينية رسمية إلى وجود 30 مليون مسلم في البلاد، 23 مليونا منهم من الإيغور، فيما تؤكد تقارير غير رسمية أن أعداد المسلمين تناهز 100 مليون، أي نحو 9.5 بالمئة من مجموع السكان.
وعن الحملة الغربية المضادة لتركيا في هذه القضية والتي قادتها وسائل إعلام أوروبية مثل "دويتشه فيلة" و"يورو نيوز"، قال تشاووش أوغلو: "بعض الأنباء المتداولة التي تزعم أن تركيا تسلم الإيغور إلى الصين، ما هي إلا أكاذيب جملة وتفصيلا".
واستدرك قائلا: بل إن "دفاع تركيا عن حقوق الإيغور في المحافل الدولية يزعج بكين".
وأكد أن "مسألة الإيغور قضية إنسانية، وتقارير مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تكشف كل الانتهاكات التي تجرى هناك، وعلينا الرد وإبداء الموقف حيالها".
وفي أغسطس/آب 2018، أفادت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بأن الصين تحتجز نحو مليون مسلم من الإيغور في معسكرات سرية بإقليم تركستان الشرقية.
وفي تقريرها السنوي لحقوق الإنسان لعام 2018، أكدت وزارة الخارجية الأميركية أن احتجاز الصين للمسلمين بمراكز الاعتقال، "يهدف إلى محو هويتهم الدينية والعرقية".
غير أن الصين، زعمت حينها أن المراكز التي يصفها المجتمع الدولي بـ"معسكرات اعتقال"، إنما هي "مراكز تدريب مهني" وترمي إلى "تطهير عقول المحتجزين فيها من الأفكار المتطرفة".
كما كشف تشاووش أوغلو عن محاولات تركية للتعاون بشفافية مع بكين في هذه القضية دون جدوى قائلا: "نريد إجراء تعاون شفاف مع بكين، ولا نعد هذه القضية سياسية، ونحن لسنا ضدها، لطالما قلنا إننا نؤيد سياسة الصين الواحدة".
وتابع: "طلبوا زيارة وفد إنساني من تركيا لتفقد منطقة الإيغور، لقد مرت 5 سنوات منذ أن اقترح الرئيس الصيني شي جين بينغ هذا".
وتابع: "وإذا نُفذت زيارة فينبغي أن يجرى الالتزام بالبرنامج الذي يحددونه هم"، متسائلا: "لماذا تعرقلون زيارة هذا الوفد منذ 5 سنوات، لماذا لا تتعاونون، لماذا يجب أن نكون أداة للدعاية الصينية؟"
قضية حساسة
ولطالما كانت قضية الإيغور سببا رئيسا في موجات المد والجزر التي طرأت على العلاقات التركية الصينية في السنوات الأخيرة.
ويمتد تاريخ هذا الخلاف إلى استضافة تركيا عددا كبيرا من الإيغور الذين فروا من تركستان الشرقية بعد سيطرة الشيوعيين الصينيين على الحكم مطلع خمسينيات القرن العشرين.
ومنذ ذلك الحين اعتادت أنقرة منحهم الإقامة المؤقتة أو الدائمة، وواصلت الدفاع عنهم في المحافل الدولية.
ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا مطلع الألفية الثالثة، اكتسبت العلاقات الثنائية بين أنقرة وبكين زخما جديدا، ووقّع البلدان اتفاقيات اقتصادية وثقافية وتعليمية عديدة.
وبحلول عام 2018 كان عدد الشركات الصينية العاملة في تركيا قد تجاوز ألف شركة، وفق صحيفة "حرييت" التركية.
لكن عاد التوتر في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021، حين حثت 43 دولة، بينها تركيا، في بيان أممي، الصين على "ضمان الاحترام الكامل لسيادة القانون فيما يتعلق بأقلية الإيغور المسلمة".
ولم تمض أيام قليلة حتى تفجرت مشادة كلامية حادة بين ممثلي تركيا والصين في مجلس الأمن الدولي على هامش جلسة كانت مخصصة لمناقشة آخر تطورات القضية السورية في 29 أكتوبر 2021.
واتهم ممثل الصين قنغ شوانغ تركيا بأنها "تحتل أجزاء من شمالي شرق سوريا بشكل غير قانوني، داعيا أنقرة إلى "الامتثال للقانون الدولي وحماية المدنيين وصون البنى التحتية وتيسير الوصول الإنساني للأمم المتحدة".
وردا على هذه التصريحات، قال ممثل تركيا الدائم في مجلس الأمن فريدون سينيرلي أوغلو، إن "تركيا لن تتعلم من أولئك الذين ينتهكون القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني".
ويعيش قرابة 50 ألفا من الإيغور في تركيا، وفي الشهور الأخيرة زادت وتيرة تظاهراتهم بشكل ملحوظ أمام السفارة الصينية في أنقرة وقنصليتها في إسطنبول للمطالبة بمعرفة مصير أقاربهم في الصين.
اللافت أن الصين وتركيا، رغم هذا التوتر السياسي والدبلوماسي، حاولا دائما تحييد العلاقات الاقتصادية، بل وتطويرها بما يعود بالنفع على البلدين.
وفي هذا السياق، قال السفير الصيني لدى أنقرة، ليو شاوبين، في 23 يونيو/حزيران 2022، إن لتركيا تأثيرا كبيرا على الصعيدين الإقليمي والدولي، والظروف الدولية الحالية تؤكد ضرورة التعاون معها.
وأضاف في كلمة باجتماع "التعاون الاقتصادي التركي الصيني" في إسطنبول، أن عام 2021 وافق الذكرى 50 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين تركيا والصين، وأن بكين أصبحت ثاني أكبر شريك تجاري لأنقرة.
وأوضح أن حجم التبادل التجاري بين الصين وتركيا في 2021 بلغ نحو 40 مليار دولار، وأن التعاون الإستراتيجي بين البلدين يزداد عمقا.
وأشار إلى أن تركيا والصين دولتان ناميتان والتعاون بينهما لن يفيدهما فحسب، بل أيضا سيفيد جميع دول المنطقة والعالم.
مستقبل التوتر
وفي رؤية تحليلية للمشهد، يقول الخبير بالعلاقات الدولية التركي تولغا ساقمان، لـ"الاستقلال"، إن العلاقات التركية الصينية تطورت بسرعة على أساس اقتصادي، بفضل مبادرة الحزام والطريق.
ويضيف ساقمان، وهو رئيس مركز "الشؤون الدبلوماسية والدراسات السياسية" (مقره إسطنبول): كان هذا الطريق الممتد إلى أوروبا عبر تركيا مستقرا ومهما للتجارة الصينية".
ويستدرك: "لكن هذا الأمر تغير مع التطورات الجيوسياسية، وبدلا من تحقيق طموحات الصين، باتت المبادرة تمثل فرصة مهمة للدول التركية وسط آسيا، للانخراط أكثر مع أوروبا".
ويوضح أنه مقابل جائحة كورونا وشلل سلاسل التوريد بين الصين وأوروبا، سعت تركيا لأن تكون مركزا تجاريا دوليا، مستفيدة بقدرتها الكبيرة على الإنتاج وعدم مواجهتها أي مشكلة في التوريد، وطبيعة العلاقات التركية الصينية حاليا تبدو انعكاسا لذلك.
وانسجاما مع هذه الرؤية، بدأت تركيا تعزز علاقاتها مع دول العالم التركي وسط آسيا، وإبراز ثقل الهوية التركية في السياسة الخارجية، يشرح ساقمان.
ونتيجة لذلك زاد الاهتمام بقضية الإيغور، وفق الخبير التركي، لكن هذا الأمر ليس موجها لاستهداف الحكومة الصينية، إنما يستند إلى الخطابات والفعاليات الإنسانية والاجتماعية.
وهكذا تسعى تركيا لإبراز أولوياتها في هذه المرحلة التي تشهد تشكيل عالم جديد متعدد الأقطاب، وفق قوله.
ومع اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا وشلل الممر الشمالي لنقل البضائع الصينية لأوروبا عبر الأراضي الروسية والبيلاروسية، جددت تركيا طرح مبادرة "الممر الأوسط" التي كشفت عنها للمرة الأولى عام 2019.
وتهدف هذه المبادرة لإنشاء شبكة سكك حديدية تنطلق من آسيا الوسطى (كازاخستان وتركمانستان وغيرهما)، مرورا بالقوقاز (جورجيا وأذربيجان)، ووصولا إلى أوروبا عبر تركيا.
وفي ضوء هذه التطورات، يعتقد ساقمان أن الركود في العلاقات التركية الصينية، متعلق بالتطورات الاقتصادية أكثر من السياسية، وهذا الأمر في الحقيقة يصب في صالح الاقتصاد التركي.
ويوضح ذلك بالقول إن الخلل في الميزان التجاري بين تركيا والصين كان يصب في صالح الأخيرة، وحدوث ركود في العلاقات سينعكس إيجابيا مع انخفاض الواردات الصينية وزيادة الإنتاج التركي.
ويستبعد ساقمان أن ترد بكين على هذه السياسة التركية المسالمة، في وقت تتعرض هي بالأساس لضغوط سياسية واقتصادية كبيرة في المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي.
ويختم بالقول: "ستبقى مواقف تركيا إزاء السياسات الأولوية للحكومة الصينية في تلك المنطقة هي الأهم".