ليست اقتصادية فقط.. ما أسباب سماح الأسد لشركة خاصة باحتكار نفط سوريا؟
مع كل أزمة اقتصادية تتفجر فجأة في الشارع السوري خلال العقد الأخير، تتكشف لاحقا تفاصيلها بأنها تدار بعناية شديدة من قبل ما بات يعرف محليا بـ"حيتان" القصر الجمهوري.
فبعد أن طفت على السطح أخيرا أزمة محروقات خانقة في مناطق النظام السوري، صدر قرار جديد من حكومة بشار الأسد، بتنظيم عملية بيع الوقود من قبل من يوصفون بـ"أمراء الحرب"، الذين يتلقون الإستراتيجيات الاقتصادية الجديدة من "غرفة واحدة".
وتشرف تلك الغرفة داخل القصر الرئاسي الذي يسكنه رئيس النظام، على "اقتصاد عائلة" الأسد، في ظل الانهيار الاقتصادي المستمر.
ومنذ سبتمبر/أيلول 2022، تراجعت شحنات النفط الإيرانية التي تصل إلى سواحل سوريا عادة بطرق التفافية، مما خلق حالة توتر داخل أروقة مؤسسات النظام نتيجة فقدان المحروقات.
احتكار للمحروقات
وأدت أزمة الوقود الجديدة في مناطق النظام السوري، لتعطيل دوائره الرسمية لأيام، وتخفيض الكميات المخصصة من مادتي البنزين والمازوت للسيارات التابعة للمؤسسات الحكومية بنسبة 40 بالمئة.
وعقب ذلك وفي خطوة مفاجئة، أصدرت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022 قرارا يقضي بالسماح لشركة الخدمات النفطية في لبنان (B.S) ببيع المحروقات للفعاليات الاقتصادية من مادتي المازوت والبنزين.
وقررت البيع بسعر 5400 ليرة سورية للتر الواحد من مادة المازوت، و4900 ليرة للتر الواحد من مادة البنزين، علما أن الدولار الواحد يساوي 6300 ليرة.
وشركة "بي إس" (B.S) للخدمات النفطية في لبنان تتبع لـ"مجموعة قاطرجي الدولية" المعاقبة أميركيا، وهي مملوكة لرجل الأعمال السوري حسام قاطرجي وإخوته، وهو أبرز "أمراء الحرب" المحسوبين في الوقت الراهن على عائلة الأسد.
وقاطرجي هو الاسم الصاعد في عالم المال والأعمال بضوء أخضر من الأسد، ويمسك بشريان النفط المغذي للنظام ودوائره الحكومية وآلته العسكرية.
وتعمل الشركة في مجال الخدمات النفطية، ومن أعمالها تأمين حاجة الصناعيين السوريين من المازوت والفيول بالسعر الحر المحدد من قبل حكومة النظام.
وتقوم الشركة باستيراد النفط الخام من مناطق قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وعن طريق لبنان والعراق، ومن ثم تكريره في مصفاتي "بانياس" و"حمص" السوريتين الحكومتين مقابل أجور مالية تدفع للنظام.
كما يسمح مقر الشركة في بيروت بإجراء عمليات استيراد المحروقات من روسيا وإيران وغيرها من البلدان بطرق التفافية يساندها فيه رجال أعمال موالون للنظام السوري في لبنان.
ومنحت الشركة مقابل ذلك الحق ببيع المشتقات النفطية الناجمة عن التكرير في السوق المحلية أو تصديرها، في كل من العاصمة دمشق وريفها وحلب وحمص وحماة واللاذقية.
وبهذا القرار أصبح الصناعيون محكومون بمزاج شركة "BS" وشروطها، بما يعني أن عجلة الصناعات المحلية المتبقية في مناطق النظام باتت تحت "رحمتها".
كما تستعد شركة "B.S" لبيع المحروقات للمواطنين، بعدما أعلنت عبر صفحتها على "فيسبوك" في 5 ديسمبر 2022، أنها تجهز عدة محطات في مختلف المحافظات لبيع المحروقات بسعر التكلفة.
وستعتمد الشركة، بحسب ما نقلته صحيفة "الوطن" الموالية، آلية جديدة في تعبئة المحروقات، تتضمن الدفع مسبقا، وعدم السماح للسيارة نفسها بتعبئة المحروقات إلا مرة واحدة خلال خمسة أيام.
تطويق السوق
وفي عام 2019، أكدت وزارة الخزانة الأميركية، أن شركة "B.S" تتبع لمجموعة قاطرجي وأحد الشركاء الملاك فيها هو محمد براء قاطرجي شقيق حسام، المدرج من قبل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية منذ عام 2018 في قائمة العقوبات الأميركية.
ويأتي القرار لتسهيله تجارة الوقود بين نظام الأسد و"تنظيم الدولة"، بما في ذلك توفير المنتجات النفطية للأراضي التي كان يسيطر عليها التنظيم في الأراضي السورية.
وذكرت وزارة الخزانة الأميركية حينها على موقعها الرسمي، أن "الشركة تعد واحدة من أكبر مستوردي النفط الخام إلى سوريا، وقد استوردت مئات الآلاف من الأطنان المترية من النفط الخام الإيراني الخفيف عام 2018 باستخدام مجموعة متنوعة من ناقلات النفط وشاحنات الصهاريج".
ويستهلك قطاع النقل في مناطق النظام السوري 33 بالمئة من المشتقات النفطية، بينما 27 بالمئة منها للاستخدام المنزلي التي من ضمنها التجارية، و25 بالمئة للزراعة.
في حين أن 15 بالمئة من استهلاك المشتقات النفطية من نصيب النشاط الصناعي، حسب دراسة أعدت في وقت سابق بوزارة نفط النظام.
وأمام ذلك، فإن نظام الأسد يبدو أنه متجه إلى تطويق السوق السوداء، واحتكار بيع المحروقات الذي سيعود عليه بملايين الدولارات يوميا، وإن كان عبر خصخصة القطاع النفطي، وفق خبراء اقتصاديين.
وخلال عام 2022، رفعت وزارة التجارة الداخلية التابعة للنظام سعر لتر البنزين بنسبة 127 بالمئة في ثلاث زيادات كان آخرها في أغسطس/ آب 2022، من 3500 إلى 4000 ليرة.
بينما يبقى بيع المحروقات في السوق السوداء هو الأعلى سعرا، والأكثر ربحا لـ"مافيات الأسد" التي تدير هذه التجارة منذ سنوات، إذ يبلغ سعر ليتر المازوت 8500 ليرة والبنزين 11 ألفا.
ورغم أن حكومة النظام تتذرع بنقص المخزون الإستراتيجي من المحروقات، لتشغيل قطاعاتها الحكومة بطاقة كاملة، هناك من يتهم النظام في المقابل ببيع تلك الحصص للسوق السوداء.
وتهيمن مليشيا "الفرقة الرابعة" التي يقودها شقيق رأس النظام السوري، ماهر الأسد، على قطاع تهريب الوقود بين مناطق النظام ومناطق "حزب الله" في لبنان.
خصخصة النفط
وضمن هذه الجزئية، يرى الباحث السوري ومدير موقع "اقتصادي"، يونس الكريم، أن "نوايا النظام تتسارع في خصخصة قطاع النفط عبر تضخيم أزمة المحروقات الحالية، وبشكل يحقق أهدافه، ويمهد له لمزيد من السيطرة والتغلغل في اقتصاد البلاد تلافيا لأي حلول سياسية قد تطرح عليه نتيجة المتغيرات الدولية التي تعصف بحلفائه".
وأوضح الكريم لـ"الاستقلال" أن "هذا يشير بوضوح إلى مزيد من الغلاء وارتفاع الأسعار، بعدما ألزمت بموجبه الشركات الموردة للمشتقات النفطية ببيع المحروقات التي تستوردها، للفعاليات الاقتصادية من مادتي (البنزين، المازوت)".
وأكد على أن "النفط تحول إلى سلعة شأنه شأن أي سلع أخرى يتم تسعيرها دوريا، وبالتالي تقلص دور وزارة النفط، لتصبح مسؤولة فقط عن إدارة حقول النفط ونقل المحروقات، وهذا دليل على خصخصة قطاع النفط".
واعتبر الكريم أن "قرار السماح لشركة خاصة مثل شركة B.S ببيع المشتقات النفطية للفعاليات الاقتصادية، هو بمثابة منح الإذن لهذه الشركة لفرض السيطرة على تلك الفعاليات، لتعمل وفق شروط الشركة، لكل من يرغب الحصول على وقود ليستمر بعمله يجب أن يخضع لتلك الشروط".
واستطرد: "لا سيما أن النظام وجد في حسام قاطرجي الشخص المثالي لهذه المهمة بعدما رضخ لمطالب زوجة بشار الأسد (أسماء) بتسديد مبلغ 200 مليون دولار لتمويل تجارة النفط خلال 6 أشهر إلى مساعد رئيس النظام، يسار إبراهيم".
وبعد أن أطاح الأسد، بمدير منظومته المالية وابن خاله رامي مخلوف عام 2020، حتى كان البديل جاهزا وهو يسار إبراهيم، الشخص القادم من ردهات القصر الجمهوري.
واستطاع إبراهيم أن يحظى بثقة زوجة بشار، وأن يقود دفة المرحلة الجديدة، تحت عنوان "اقتصاد العائلة"، في وقت تحتاج فيه الأخيرة إلى رجل يعيد ضبط "اقتصاد الحرب" من جديد بعد القضاء على مخلوف.
وذهب الكريم للقول إن "النظام يسعى إلى إعادة بناء مراكز قوته الاقتصادية الجديدة بإدارة من أسماء، وهي المرأة التي درست العلوم المصرفية في أشهر بنوك العالم مثل (دويتشه بانك) و(جي بي مورغان)، ومنه تعلمت كيف تجد وتبني لنفسها حلفاء يبقون تحت جناحها، ويمنحونها القوة".
وذلك كله بعيدا عن الرضوخ لشروط الحلفاء، أي روسيا وإيران، اللتين تبحثان عن مصالحهما ولو على حساب النظام مثل اشتراطهما الدفع المسبق وبالعملة الأجنبية مقابل أي توريدات نفطية إلى سوريا خلال هذه الأزمة التي تهدد بقاءه، وفق الكريم.
ورأى الباحث السوري أن "هذه الخطوة على ما يبدو بداية انطلاقته الجديدة يتم تتويجها بالتعاقد مع حكومة النظام على بيع ما يستورده من نفط، لكن كل ذلك تحت جناح أسماء وتخطيطها، والتي أعطت قاطرجي الضوء الأخضر باستثمار عدة محطات وقود، دون أن يضطر لدفع أموال لشرائها، بحيث تجرى الأمور الآن بشروطه".
وختم بالقول: "بما أن (B.S) أصبحت هي المورد الوحيد بالمحروقات للفعليات الصناعية مما يعني أنها أمنت لهذه الشركة السيطرة التامة على القطاع، الأمر الذي يتيح لأسماء البدء بتشكيل طبقة اقتصادية لنفسها تدعمها وتسيطر هي عليها، وهذا يسد النقص الذي كانت تعاني منه عند صراعها مع مخلوف، والذي كان يملك دعم الطبقة الاقتصادية له".
وكانت سوريا قبل الحرب من الدول المكتفية ذاتيا في مجال الطاقة، وحسب إحصاءات النظام عام 2021، فإن آبار النفط السورية كانت تنتج يوميا ما يقدر بنحو 385 ألف برميل.
وتسيطر قوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة أميركيا، على قرابة 90 بالمئة من حقول النفط، و45 بالمئة من إنتاج الغاز بسوريا.
وتقدر خسائر قطاع النفط في سوريا منذ عام 2011 بـ91.5 مليار دولار، فضلا عن تكلفة شحنات تأتي من إيران من حين لآخر، وفق إحصاءات وزارة النفط في حكومة الأسد لعام 2021.