فشلت محاولتان.. هل ينجح اليمين المتطرف في تنفيذ انقلاب حقيقي بأوروبا؟
لم يكن يتوقع أحد المراقبين لخروج المنتخب الألماني لكرة القدم من الدور الأول في مونديال قطر 2022، وللمرة الثانية تواليا بعد نسخة روسيا 2018، وجدل تبني الماكينات الألمانية الترويج لملف الشذوذ الجنسي بالبطولة العالمية، أن يتحول الأمر لمناقشة ملف "محاولة الانقلاب" على الحكم في برلين.
وصباح 7 ديسمبر/ كانون الأول 2022، وبعد 5 أيام من الخروج المذل لمنتخب المانشافت من أول بطولة عالمية بأرض عربية، اعتقلت سلطات برلين 25 ألمانيا في مداهمات جرت بـ11 مقاطعة وفي إيطاليا والنمسا، يشتبه في تآمرهم لـ"الانقلاب" على حكومة ألمانيا والإطاحة بها.
"الرايخ الثاني"
وسائل إعلام ألمانية بينها موقع "دويتشه فيله"، قالت إن مجموعة يمينية متطرفة تابعة لحركة "مواطني الرايخ" تضم عسكريين سابقين خططت لاقتحام مبنى البرلمان ببرلين، والاستيلاء على السلطة، في واقعة غريبة على الديمقراطيات الأوروبية.
الموقع، ذكر في 7 ديسمبر 2022، أن ثلاثة آلاف عنصر من الشرطة الألمانية اعتقلوا 25 شخصا، من "مجموعة إرهابية من اليمين المتطرف يشتبه بقيامها بالتخطيط لشن هجوم على البرلمان"، مبينا أن المتهمين يواجهون تهمة "الإعداد لإسقاط الدولة".
من جانبه، نقل موقع "بي بي سي" البريطاني، أن 50 رجلا وامرأة من أعضاء حركة "مواطني الرايخ "المتطرفة، تآمروا للإطاحة بالجمهورية الحالية، وإقامة إمبراطورية "الرايخ الثاني"، على غرار تأسيس دولة "الرايخ" بألمانيا عام 1871.
بدورها، أشارت "وكالة الأنباء" الألمانية إلى أن الاعتقالات التي جرت بـ11 ولاية وطالت شخصين بالنمسا وإيطاليا، ضمت الألماني البالغ من العمر 71 عاما، هاينريش الثالث عشر، الملقب بـ"الأمير" لضلوعه في خطط الاستيلاء على الحكم ببرلين.
محطة "ZDF" التلفزيونية العامة، لفتت إلى تورط عضو يميني متطرف سابق بمجلس النواب (البوندستاغ) بـ"المؤامرة"، موضحة أنه "جرى إعداده ليكون وزيرا للعدل بالمجموعة، التي يتزعمها "الأمير هاينريش"، مع عسكريين سابقين خدموا بالجيش.
رسميا، قال المدعي العام الفيدرالي الألماني، إن "مواطني الرايخ" خططت لانقلاب عنيف منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2021.
وأعلن في بلاغ أن "المتآمرين" وضعوا خططا لحكم ألمانيا، وعبر "الوسائل العسكرية والعنف ضد ممثلي الدولة بما يشمل عمليات قتل".
وزير العدل، ماركو بوشمان، وصف الأمر بأنه "عملية إرهاب".
Demokratie ist wehrhaft: Seit heute Morgen findet ein großer Anti-Terror-Einsatz statt. Der Generalbundesanwalt ermittelt gegen ein mutmaßliches Terror-Netzwerk aus dem Reichsbürger-Milieu. Es besteht der Verdacht, dass ein bewaffneter Überfall auf Verfassungsorgane geplant war.
— Marco Buschmann (@MarcoBuschmann) December 7, 2022
وقال في تغريدة عبر موقع "تويتر" في 7 ديسمبر، إن "عملية كبيرة تجري حاليا لمكافحة الإرهاب، وإنه يُشتبه في تخطيطهم لهجوم مسلح على هيئات دستورية".
نزعة تطرف
حركة "مواطني الرايخ" التي تضم عسكريين سابقين ترفض الاعتراف بدولة ألمانيا التي تأسست بعد انهيار النازية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 1949، ولا بقوانينها، ويمتنعون عن دفع الضرائب، ويصرون على أن ألمانيا بحدود عام 1937 أو حدود 1871.
تقول الحركة إن ألمانيا محتلة من قوى أجنبية، وتعتقد أن البرلمان والحكومة والسلطات الأمنية، دمى متحكم فيها من "الحلفاء"، في إشارة إلى قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية (1939- 1945).
وتحقيقا لأهدافها، قامت الحركة خلال السنوات الماضية بهجمات عديدة، بعد أن أسس أعضاؤها في نوفمبر 2021، تنظيما لمحاربة مؤسسات الدولة وممثليها، تعده برلين "تنظيما إرهابيا".
ووفق "دويتشه فيله"، بدأت الحركة في ثمانينيات القرن الـ20، ووصل عدد منتسبيها 19 ألفا، يتبنون إيديولوجيات معادية للسامية وللأجانب، بحسب تقارير الاستخبارات الألمانية، التي تصنف 950 من أعضائها كمتطرفين من أقصى اليمين.
أكثر ما يثير مخاوف الألمان من تلك المجموعة هي خشية ارتباطها بدول أخرى وخاصة روسيا.
ورغم رغبتهم بعودة "الإمبراطورية الألمانية"، إلا أن بعض أعضاء المجموعة ظهروا مع العلم الروسي، ما يثير الشكوك بشأن دعم موسكو للحركة.
"الحزب النازي"، صورة أخرى من الجماعات المتطرفة في ألمانيا، إذ يمثله بعض الألمان التابعين لما يسمى بـ"الاشتراكية الوطنية" التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى (1914- 1918).
وهم مجموعات متطرفة تؤمن بأفكار الحزب النازي، أو الحزب "القومي الاشتراكي العمالي"، الذي جرى تأسيسه عقب هزيمة ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، ويعلي من الجنس الألماني على حساب بقية الأجناس.
ووفق "المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات"، فإن وتيرة عنف التيارات اليمينية تصاعدت بألمانيا، مشيرا إلى إعلان الداخلية الألمانية في 27 يونيو/ حزيران 2022، أن 568 متطرفا يمينيا مطلوبون في ارتكاب جرائم عنف، وأن هناك 33 ألفا و900 يميني متطرف بالبلاد.
المثير أن تلك الحركات المتطرفة لديها تشابه مع حركات أخرى في بلدان أوروبية وأميركا.
بينها حركة "بيغيدا" بألمانيا، والنمسا، والدنمارك، وهولندا، والنرويج، والسويد، والتي تربطها جميعا النزعة القومية والشعور بالهوية الوطنية والثقافية، ورفض اندماج اللاجئين والأجانب.
كذلك هناك تقارب مثير بين أفكار "مواطني الرايخ"، والحركة الأميركية "حرية على الأرض" التي يرفض أعضاؤها تنفيذ القوانين الأميركية إلا ما يناسب أفكارهم.
الخوف واليمين
وبالتزامن مع توقيف ألمانيا الشبكة اليمينية جرى أخيرا ظهور سياسي لافت لليمين رصدته "الاستقلال" خلال تقرير سابق، في إيطاليا، وفرنسا، والمجر، والسويد، وهولندا، وغيرها، بصعود بعض الأحزاب اليمينية لسدة القيادة.
في إيطاليا، تولت زعيمة الجناح اليميني، جورجيا ميلوني، رئاسة الوزراء بعد فوزها بالانتخابات في 25 سبتمبر/ أيلول 2022.
صعود التيار اليميني الأوروبي بدا أيضا عبر "الديمقراطيين السويديين" الذين حصلوا على 21 بالمئة من أصوات ناخبي الدولة الإسكندنافية في 11 سبتمبر 2022.
كذلك تقدمت زعيمة اليمين الفرنسي، مارين لوبان، بالانتخابات الفرنسية أبريل/ نيسان 2022، وحصلت أمام الرئيس إيمانويل ماكرون على أكثر من 40 بالمئة، للمرة الأولى.
قبلها كان هناك حضور قوي لافت لحزب "الحرية" الذي يقوده السياسي اليميني المتطرف بهولندا، خيرت فيلدرز، إلى جانب سياسات الرجل الأكثر خطورة في أوروبا، وفق مراقبين، الرئيس اليميني المتطرف في المجر، فيكتور أوربان.
ومحاولة الانقلاب في ألمانيا هي ثاني محاولة فعلية ينفذها اليمين المتطرف في دولة أوروبية بعد محاولة سابقة في فرنسا عام 2021.
وفي 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، كشفت صحيفة "لو باريزيان" الفرنسية، أن عدوى الانقلابات انتقلت للمرة الأولى إلى أوروبا وتحديدا فرنسا، من إفريقيا والبلدان العربية، ليذوق طباخو الغرب سم دعمهم انقلابات إفريقيا والشرق الأوسط.
وقالت حينها إن فرنسا بلد الحريات في أوروبا، أحبطت محاولة انقلابية كان يقودها سياسي يميني متطرف وخطط لاقتحام قصر الرئاسة (الإليزيه)، لكن المخابرات قبضت عليه إضافة إلى 36 نقيبا عسكريا.
وتأتي محاولة الانقلاب الفاشلة في ألمانيا، بعد دعم بعض الدول الغربية ومباركتها أو صمت البعض الآخر على انقلابات دموية جرت بمصر عام 2013، وليبيا 2014، واليمن 2015، وتركيا عام 2016، على حكومات شرعية معترف بها رسميا.
كما تأتي إثر نحو 5 انقلابات عسكرية ضربت القارة الإفريقية بعامين، آخرها ببوركينا فاسو في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، ومالي أغسطس/ آب 2020، ومايو/ أيار 2021، وفي تشاد أبريل/ نيسان 2021، وفي غينيا سبتمبر 2021.
وبعيدا عن تجارب العرب والأفارقة بالانقلابات، تثار التساؤلات، هل تذوق القارة العجوز ما ذاقته شعوب أخرى؟، وهل تتعاظم فكرة الانقلابات مع صعود التيارات اليمينية بأوروبا؟، أم أن أنظمتها أقوى وأقل هشاشة، ولن تسمح باقي الدول بهذا الانزلاق؟.
وفي رده على تساؤلات "الاستقلال"، قال الباحث الفلسطيني في مركز "رؤية للتنمية السياسية" بإسطنبول، صلاح الدين العواودة: "عموما ليس من السهل المقارنة بين أوروبا والعالم الثالث في هذا الملف، والأفضل مقارنة أوروبا بنفسها".
وأضاف: "معروف أن الديمقراطية الأوروبية شهدت انتكاسات وتحولات كثيرة في تاريخها، ثورات وانقلابات وتغييرات جذرية لأنظمة الحكم، وهو ما أوصل الأوروبيين إلى تكريس كثير من القيم والقوانين والإجراءات لجعل الديمقراطية أكثر استقرارا".
واستدرك العواودة بالقول: "لكن هذا لا يضمن النجاح إلى الأبد"، معتقدا أن "صعود اليمين المتطرف بصورة ديمقراطية إلى السلطة قد يقود أوروبا إلى مراحل قديمة من الاستبداد".
وأشار إلى احتمال سيادة نموذج "استبداد الحزب الواحد كما حدث في ألمانيا وإيطاليا بداية القرن العشرين وعلى خلفية الهزيمة في الحرب العالمية الأولى".
ولفت العواودة إلى أن "المؤشرات المشتركة المحتملة تتمثل في تزايد الفجوة بين التيارات الليبرالية من جهة واليمينية المحافظة من جهة، والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تتزايد في أوروبا".
وألمح كذلك إلى "مؤشرات انتشار الإسلام، وفي المقابل الشذوذ الجنسي، مع شيخوخة المجتمعات الأوروبية، وتزايد أعداد المهاجرين، إضافة للمشاكل السياسية على غرار أزمة الحرب الروسية الأوكرانية المندلعة منذ 24 فبراير/ شباط 2022".
ويرى الباحث الفلسطيني، أن "أي مجتمع في العالم يشعر بالخوف يتجه لليمين عموما"، مبينا أن "الأنظمة السياسية تتجه للاستبداد عندما تشعر بالخوف أيضا، وتتقلص الديمقراطية وحقوق الإنسان عندما يكون هناك تهديد للأمن القومي".
سيناريو واقعي
ورغم اعتراف العواودة بأن أوروبا "مازالت بعيدة عن هذا، لكنه سيناريو واقعي، والسنن الكونية لا تجامل أحدا"، مؤكدا أن "أوروبا تشيخ وهناك صعود لمراكز قوى خارج أوروبا بدرجات متفاوتة، مثل الصين وتركيا ومجموعة دول آسيوية ومن أميركا اللاتينية".
ويرى أن "هذا الصعود يأتي على حساب أوروبا العجوز التي عاشت ومازالت تعيش على نهب ثروات العالم الثالث ولا سيما إفريقيا"، لافتا إلى أن "التوسع الصيني مثلا بالقارة السمراء يأتي على حساب رفاهية أوروبا، وهذا يدفعها تدريجيا نحو الضائقة".
وأكد أن "هذا الوضع ينسحب على أوروبا الشرقية بدرجة ما وعلى دول غربية مثل أميركا وكندا وأستراليا"، ولكنه شدد على أن "هناك خصوصيات لكل منطقة".
وأوضح العواودة لـ"الاستقلال" أن "أوروبا الشرقية -ليست من زمن بعيد- تحررت من الشيوعية، وضعف أوروبا ربما يجعل نموذج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مفضلا لها، أما الولايات المتحدة وأستراليا فشأن آخر، ففي أميركا شبح الانقسام أكثر من الاستبداد".
من جانبه، وصف الباحث والأكاديمي المصري محمد الزواوي، هذا الحدث بأنه "فريد في دولة ديموقراطية"، ويرى أنه "يعبر عن مدى تصاعد التوجهات اليمينية داخل أوروبا".
المحاضر بمعهد الشرق الأوسط في جامعة "سكاريا" التركية، الزواوي، قال لـ"الاستقلال" إنه "رغم محدودية الحركة والتي لا يتجاوز أعضاؤها بضعة آلاف حسب تقديرات السلطات، إلا أن اتخاذهم خطوة التحرك والهجوم على مؤسسات الدولة يفيد بمدى جدية وتصميم تلك الحركات اليمينية".
ولفت إلى أن خطورة الأمر تتمثل في أن تلك الحركة "تهدف إلى إعادة ألمانيا إلى حقبة الإمبراطورية، وإلى فترة ما قبل احتلال الحلفاء لألمانيا مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وما تلاه من ترتيبات لجعل ألمانيا دولة ديمقراطية على الطراز الغربي".
ويعتقد الأكاديمي المصري أن "أهدافهم لاستعادة الإمبراطورية الألمانية ورفضهم للديمقراطية الغربية، يعد كذلك حدثا فريدا بالنظر إلى الموجات المتعاقبة من التحول الديمقراطي حول العالم".
وقال الزواوي، إنه "يمكن عزو ذلك إلى ازدياد عدد المهاجرين في ألمانيا وغيرها من بلدان أوروبا، وتهديدهم للهويات الوطنية لتلك الدول".
ويرى أن "اتخاذ تلك الحركات اليمينية خطوة التحرك الفعلي يعبر عن مدى يأسهم وشعورهم بالخطر من فقدان ألمانيا لهويتها تحت ما يسمونه بالاحتلال الغربي لبلدهم".
ويعتقد الزواوي أنها "كلها ظواهر سياسية واجتماعية تفيد بحجم التحولات الديموغرافية التي تكتسح أوروبا وتثير معها المشاعر اليمينية المتطرفة المعادية للأجانب والأقليات والمهاجرين".