الإسلام يتصاعد والمسيحية تتراجع.. أربعة تنبؤات لمستقبل الدين في بريطانيا

12

طباعة

مشاركة

تحولات كبيرة داخل المجتمع الإنجليزي، وتزايد في تخلي نصف البريطانيين عن ديانتهم المسيحية رغم أنها البلد الوحيد في أوروبا التي يرأس الملك فيها الكنيسة، أثار ذلك تساؤلات حول الأسباب والدلالات.

"مكتب الإحصاء الوطني البريطاني" أوضح في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 أن المسيحية لم تعُد ديانة الأغلبية، وتراجعت إلى ما دون النصف، وهو حدث غير مسبوق في تاريخ المملكة المتحدة.

وللمرة الأولى في التاريخ، تظهر الأرقام أن كلا من بريطانيا وويلز لم تعودا ذات أغلبية مسيحية، مع ارتفاع ملحوظ في أعداد الملحدين، وزيادة نسبة الأقلية المسلمة، وفق الإحصاء الرسمي.

الأكثر انتشارا

بالمقابل، أظهرت الأرقام أن الإسلام هو أكثر الديانات سرعة من حيث الانتشار في بريطانيا خلال العقد الماضي.

وكشف "الإحصاء الوطني" عن ارتفاع ملحوظ في أعداد الأشخاص الذين يعرّفون أنفسهم بأنهم مسلمون بنسبة 44 بالمئة خلال السنوات العشر الماضية.

وارتفعت أعداد المسلمين البريطانيين من 2.7 مليون شخص في 2011 إلى 3.9 ملايين عام 2021، بزيادة 1.2 مليون مسلم خلال 10 سنوات، وبات المسلمون يشكلون 6.5 بالمئة من مجموع سكان بريطانيا.

هذه النتائج أعادت النقاش الذي يتكرر منذ عام 2016 بشأن تأثير هذا التراجع المتعلق باعتبار أغلبية البريطانيين أن الكنيسة الأنجليكانية لا تمثلهم ولا يؤمنون بها، على أوضاع البلاد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.

وبدأت تتصاعد الأصوات المطالبة بعدم تمويل الحكومة المدارس الدينية المسيحية، وتقليص حصة الوجود الكنسي للأساقفة في البرلمان البريطاني، وإنهاء دور الكنيسة في التاج البريطاني طالما لا يؤمن غالبية الشعب بها وأصبحوا "لا دينيين".

وديانة دولة إنجلترا تابعة للمذهب الإنجليكاني، وتعتبر كنيسة إنجلترا الإنجليكانية هي الكنيسة الوطنية لشعب إنجلترا وويلز.

وتعد كنيسة إنجلترا إحدى الهيئات التشريعية في إنجلترا وويلز، بينما الملك تشارلز الثاني هو رئيس الكنيسة وصاحب لقب "حامي الإيمان والعقيدة"، والحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا.

وبحسب بيانات مكتب الإحصاء الوطني البريطاني لعام 2022، تراجعت نسبة المسيحيين في كل من إنجلترا وويلز وباتت تشكل 46.2 بالمئة فقط لأول مرة في تاريخ المملكة، علما أنها كانت تشكل 59.3 بالمئة خلال إحصاء 2011.

وأظهر الاستطلاع أن الأشخاص الذين يُعرفون أنفسهم بأنهم لا يعتنقون أي ديانة (لادينيون) باتوا يشكلون 37.2 بالمئة من سكان المملكة المتحدة، ما يجعلهم ثاني أكبر كتلة بعد المسيحيين، ويبلغ عددهم 22.2 مليون شخص.

كما أظهرت نتائج الإحصاء أن لندن بحكم كونها المدينة الأكثر تنوعا من حيث الثقافات والديانات، لا يشكل المسيحيون فيها سوى 25.3 بالمئة، وتتوزع بقية النسب على أتباع الديانات الأخرى أو من أعلنوا أنهم لا يعتنقون أي ديانة.

في المقابل، وُصف الجنوب الشرقي لبريطانيا بوصفه أقل المناطق تنوعا، حيث قالت الأغلبية إنها تعتنق المسيحية بنسبة تفوق 96 بالمئة.

وتتصدر ويلز دول المملكة (إنجلترا، إسكتلندا، ويلز، أيرلندا الشمالية)، من حيث نسبة المواطنين الذين قالوا إنهم لا يعتنقون أي ديانة بنسبة 46.5 بالمئة، علما أن هذه النسبة كانت 32.1 بالمئة عام 2011.

ومن المآخذ على الإحصاء هو أنه لا يفصّل أكثر بشأن معتقد الأشخاص الذين يقولون إنهم لا يعتنقون أي دين، فلا يقول هل هم ملحدون (لا يؤمنون بوجود آلهة أصلا)؟ أم لادينيون (لا يؤمنون أو يبالون بدين معين) ؟، بحسب وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية.

حضور قوي

ونقل "مركز الإعلام الديني بلندن" في 22 سبتمبر/أيلول 2022 عن البروفيسورة، ليندا وودهيد، قولها في المحاضرة السنوية بكنيسة "سانت برايد" إن تراجع المسيحية في بريطانيا "يبدو كأن هناك سحرا".

وتوقعت أن تشهد بريطانيا تراجعا مستمرا للمسيحية، وعودة الأصولية والتزمت، وظهور اللادينيين، وانتشار "الإسلام البريطاني".

وفي المحاضرة نفسها، قدمت رئيسة قسم اللاهوت والدراسات الدينية في كلية لندن الملكية، وودهيد، أربعة تنبؤات أو اتجاهات لمستقبل الدين في بريطانيا العقود القادمة.

أولها انتشار الأصولية والتزمت الكنسي، وثانيها كسب المسيحية المعركة، ولكن خسارة الحرب، وثالثها أن يرسخ المسلمون والإسلام مكانهم في بريطانيا، ورابعها انحطاط الكنيسة وبيع الكنائس ونمو اللادين، وانتشار السحر.

وقالت وودهيد: "المسيحية الليبرالية فشلت في تقديم لاهوت فكري وإجابات موثوقة حول مسائل العقيدة، لذا فقد فقدت رأس مالها الثقافي".

ورأت أن "الإسلام في بريطانيا لم يكن مرئيا حقا حتى السبعينيات، حيث كان على الجيل الأول من جنوب آسيا إنشاء بنيتهم ​​التحتية من الصفر في المساجد، وانتشار الجزارين الحلال والمدارس الإسلامية".

ثم أسس الجيل الثاني منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية، وأوصل المسلمون البريطانيون صوتهم مع أعضاء البرلمان المسلمين والشباب من ذوي التعليم العالي الذي يخلقون نوعا ثقافيا جديدا من "الإسلام البريطاني"، وفق قولها.

وأكدت رئيسة قسم اللاهوت والدراسات الدينية في كلية لندن، أن "الإنتاج الثقافي البريطاني المسلم رائع في جميع أنحاء العالم ويحظى بشهرة عالمية". 

المسيحية باتت خلفنا

وفي تعليقه على هذه الأرقام، قال أسقف كنيسة "يورك"، ستيفان كوتريل، لصحيفة "الغارديان" البريطانية في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 إنها "تضعنا أمام تحد كبير لإقناع الناس بمملكة الرب على الأرض، وأيضا علينا القيام بدورنا في التعريف بالمسيحية".

ويعترف القس البريطاني بأن "الفترة التي كان الناس يُعرفون أنفسهم بأنهم مسيحيون بشكل تلقائي قد ولت وباتت خلفنا، لكن هناك استطلاعات رأي تظهر أن الناس لا تزال تبحث عن الروحانيات والحكمة والقيم التي يمكن أن يعيشون بها".

لكن، هذه الأرقام التي ذكرها مكتب الإحصاء الوطني البريطاني بشأن تقلص عدد المؤمنين بالمسيحية في بريطانيا إلى 46.2 بالمئة، ليست مفاجئة، إذ ظلت الإحصاءات السابقة تشير للعزوف نفسه عن الكنيسة في بريطانيا تدريجيا.

وأكدت مجلة "إيكونوميست" البريطانية في 9 سبتمبر/أيلول 2017 أن نسبة البريطانيين الذين يسمون أنفسهم أنجليكان تراجعت من 40 بالمئة عام 1983 إلى 15 بالمئة عام 2016، وفقا لـ"التقرير السنوي الوطني للبحوث الاجتماعية".

وقالت المجلة إن "الأنجليكانية فقدت أي ادعاء كانت تستند إليه كواقع قومي مفترض" حتى أن 3 بالمئة فقط من الشباب بعمر ما بين 18-24 يؤمنون بارتباطهم بهم مقابل 4 من كل 10 ممن تزيد أعمارهم على 75 عاما لا يزالون يعترفون بهذه الرابطة.

وسبق هذا أيضا تقرير نشرته "الغارديان" في 11 يوليو/تموز 2019 يؤكد أن "العلمانية تتزايد في المملكة المتحدة حتى أنه يمكن القول إن أكثر من نصف البريطانيين لا دين لهم".

وأوضحت أن 1 بالمئة فقط من الشباب الإنجليزي الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما ينتمون لكنيسة إنجلترا وأن الإلحاد آخذ في الازدياد، وفقا لدراسة استقصائية أعدها مركز "الاتجاهات الاجتماعية البريطانية" لعام 2018.

وأكد المسح أن 52 بالمئة من البريطانيين أكدوا (عام 2018) أنهم لا ينتمون إلى أي دين، مقارنة بـ31 بالمئة عام 1983 عندما بدأ استطلاع المركز بتتبع المعتقد الديني.

وانخفض عدد من يرون أنفسهم مسيحيين من 66 بالمئة إلى 38 بالمئة خلال نفس الفترة، وأن "بريطانيا أصبحت علمانية بدرجة أكبر، وهناك تدهور ديني في بريطانيا من قبل الأجيال الجديدة الأقل تدينا من آبائهم".

وأوضح الاستطلاع أن "واحدا من كل أربعة أفراد ممن تم استطلاع آرائهم قالوا (أنا لا أؤمن بالله) مقارنة بواحد من كل عشرة في عام 1998".

أي زادت نسبة الأشخاص الذين يقولون إنهم "غير متدينين للغاية أو غير متدينين" بأكثر من الضعف، من 14 بالمئة إلى 33 بالمئة في العقدين الماضيين.

وعلقت صحيفة "إكسبريس" البريطانية على نفس الاستطلاع لمركز "الاتجاهات الاجتماعية البريطانية" في 11 يوليو/تموز 2019، وترى أن "المسيحية في خطر".

وصفت التقرير بأنه "صادم"، لأنه كشف "تدهورا كبيرا" في الهوية المسيحية البريطانية.

وقال المذيع والكاهن الأنجليكاني المقيم في كندا، مايكل كورين، لموقع "نيوزستاتمنت" مطلع ديسمبر/كانون الأول 2022 في تعليقه على الإحصاء الخاص بأن 46.2 بالمئة فقط من البريطانيين يرون أنفسهم مسيحيين "لا يلومن أحد غير نفسه".

وأوضح: "لا يمكن للمسيحيين أن يلوموا أي شخص آخر على تدهور الإيمان"، مرجعا السبب لوجود "أقلية دينية صاخبة غير متسامحة منذ فترة طويلة في الكنيسة" ربما هي سبب نفور الناس من المسيحية.

وأفاد بأن "مبادئ الإنجيل الأصيلة المتمثلة في الحب والعدالة والتسامح والقبول والتقدم والسلام، فشلت في بيع هذه العلامة التجارية، وهذا يتطلب من المسيحيين إعادة طرح حجتهم".

من جهته، قال الرئيس التنفيذي لمنظمة "يو.كيه هيومانيست" الخيرية، أندرو كوبسون، لوكالة "أسوشيتد برس" في 29 نوفمبر 2022، إن "النمو الهائل لغير المتدينين جعل المملكة المتحدة واحدة من أقل البلدان تدينا على وجه الأرض".

ورأى أن "هذه النتائج تظهر مفارقة هي مدى الخلاف بين السكان (غير المتدينين) والدولة نفسها (التي تتبنى مظاهر الدين المسيحي)"، بحسب "الغارديان" 29 نوفمبر 2022.

إنهاء الوصاية

ولأن هذه الإحصاءات أظهرت انخفاض عدد أتباع المسيحية (كديانة رسمية) بين البريطانيين عن نصف إجمالي السكان للمرة الأولى، بدأ علمانيون يطالبون بتغيير دور الدين في الدولة، بحسب "أسوشيتد برس" في 29 نوفمبر 2022.

وقالوا إن "هذا التحول (التراجع عن اعتناق المسيحية) يوجب إعادة التفكير في الطريقة التي يتم بها استخدام الدين في المجتمع البريطاني".

ويوجد في المملكة المتحدة مدارس تابعة لكنيسة إنجلترا تمولها الدولة، ويجلس الأساقفة الأنغليكان في الغرفة العليا من البرلمان (مجلس اللوردات)، والملك هو "المدافع عن الإيمان" والحاكم الأعلى للكنيسة.

مجلة "إيكونوميست" عقبت في 29 نوفمبر 2022 على "انحسار الإيمان المسيحي في بريطانيا إلى لحظة فاصلة" كما وصفته، مشيرة إلى أنه "سيؤدي لتقليص الإنفاق الحكومي على أنشطة الكنيسة". 

وقالت: "يمكن أن تؤثر هذه النتائج بشأن تراجع المسيحية على التمويل الحكومي للمدارس الدينية المسيحية، رغم أن هناك مخاوف من أن المدارس الدينية غير المسيحية خاصة الهندوسية قد تؤدي إلى تفاقم الفصل العرقي".

ونقلت "أسوشيتد برس" عن الرئيس التنفيذي لمنظمة "يو.كيه هيومانيست" الخيرية، كوبسون: "لا توجد دولة في أوروبا لديها مثل هذا الهيكل الكنسي كما هو الحال لدينا من حيث تأثيرها في القانون والسياسة العامة، مع أن غالبية السكان غير متدينين".

وبسبب تراجع المؤمنين بالمسيحية في بريطانيا، أعلنت "الجمعية الوطنية العلمانية" رفضها الامتيازات التي مازالت ممنوحة للكنيسة الأنجليكانية، مثل تمويل الدولة ربع المدارس المسيحية في إنجلترا، واحتلال الكنيسة 26 مقعدًا أسقفيًا في مجلس اللوردات بالبرلمان، بحسب "إيكونوميست" في  9 سبتمبر/أيلول 2017.

ووصفت "الجمعية الوطنية العلمانية" هذا الوضع المتعلق بتمويل الدولة لأنشطة الكنيسة بأنه "أمر غريب، في بلد يستمر فيه عدد الأشخاص الذين لا يعتنقون أي دين في الارتفاع، بمعدل 53 بالمئة من إجمالي السكان و71 بالمئة من الفئة الأصغر سنا".

غرب ملحد 

رغم أن الإحصاءات الأخيرة تركز على انفضاض المسيحيين من حول كنيسة بريطانيا الأنجليكانية، تظهر إحصاءات وتقارير أخرى أن ظاهرة التبرؤ والبعد عن الكنيسة والإلحاد عموما منتشرة في كل دول الغرب بما فيها أميركا.

وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2020، حذر تقرير لمجلة "فورين بوليسي" من أن التدين يتراجع في العالم كله، باستثناء الدول الإسلامية، وتساءل عن أسباب ذلك.

ونقل عن متخصصين في الأديان أنه بعد صعود الدين في مطلع القرن الحالي، شهد العالم موجة معاكسة من تراجع التدين في العالم، ما عدا بين المسلمين.

وأوضحت |فورين بوليسي| نقلا عن بيانات دراسة استقصائية أجرتها رابطة مسح القيم العالمية)، التي تهدف إلى استكشاف قيم الأفراد ومعتقداتهم وكيفية تغيّرها بمرور الوقت، امتد اتجاه عدم الدين لبقية دول العالم، مع استثناء واحد رئيسي يتمثّل في سكان 18 دولة تمثل أغلبية مسلمي العالم.

وأكد المسح أن تلك الدول (الإسلامية) ظلت بعيدة عن نقطة التحول السالفة الذكر بشأن تخلي العالم وخاصة الغرب عن التدين (المسيحي)، حيث واصلت الحفاظ على الطابع الديني للمجتمع والالتزام بالمعايير التقليدية.

الكاتب رونالد أنجليهارت، أشار إلى أن صعود التدين والدين في الدول الإسلامية "استثناء من ظاهرة تراجع الأديان، مقارنة بنفور الغرب من المسيحية، خصوصا بعد صعود التيارات المحافظة المسيحية المتطرفة وظهور ممارساتها المضادة للحريات والديمقراطية".

وأوضح المذيع والكاهن الأنجليكاني، مايكل كورين، في موقع "نيوزستاتمنت" مطلع ديسمبر 2022 أن تقرير التعداد السكاني في كندا عن نوفمبر 2022 أظهر تكرار نمط العزوف عن المسيحية في معظم أنحاء أوروبا وأميركا الشمالية.

واعترف أنه مقابل هذا الإلحاد بين المسيحيين هناك تزايد وتوسع ديني للديانة الإسلامية وفي المجتمعات الهندوسية أيضا.