عبر سماء تشاد.. فرنسا تحيي جذور الاستعمار لاقتلاع بذور الوجود الروسي
التنافس الفرنسي المتصاعد مع روسيا في تشاد، التي تمر بتحديات أمنية وسياسية متفاقمة تحت قيادة المجلس العسكري الحاكم، يرسخ لمعضلة تتعلق بالانعكاسات الإقليمية التي يمكن أن تنتج عن هذا الصراع.
وأدى تصاعد حدة التنافس بين باريس وموسكو في نجامينا، إلى تدهور الأوضاع الأمنية في ذلك البلد الإفريقي الإستراتيجي، وكان له ارتدادات سلبية على المحيط الملتهب أساسا، خاصة في ليبيا والسودان، وكذلك منطقة الساحل الإفريقي.
وهي بقاع محورية في إفريقيا غنية بالموارد الطبيعية، وتسعى القوى الكبرى للسيطرة عليها، وجعلها بؤر نفوذ ومراكز انطلاق لها داخل القارة.
امتلاك السماء
وكشفت مجلة "إنتيليجنس أونلاين" الفرنسية المتخصصة في شؤون الاستخبارات، أن "شركة LMO Fly Dynamics الفرنسية، فازت بمناقصة أوروبية لمساعدة القوة متعددة الجنسيات في الساحل الإفريقي لتعزيز قدرتها على المراقبة الجوية فوق تشاد".
وأضافت المجلة في عددها الصادر بتاريخ 25 أغسطس/ آب 2022، أن " الشركة الفرنسية، لخدمات المراقبة والاستطلاع (ISR)، أتمت في الأسابيع الأخيرة العديد من المهام فوق العاصمة التشادية نجامينا".
وأوضحت أن شركة (LMO Fly) فازت بعقد مع الاتحاد الأوروبي، لتجهيز القوة المتعددة الجنسيات في تشاد، حيث تجمع قوات من بنين والكاميرون ونيجيريا وتشاد لمحاربة جماعة بوكو حرام، المنتشرة في تلك البقاع.
وذكرت المجلة الفرنسية أن الشركة تركز في الوقت الحالي على جمع استخبارات الصور (IMINT)، مستخدمة طائرات (Kodian 100) التي صممتها شركة "كويست إير كرافت"، بعد دمجها بالتكنولوجيا المقدمة من شركة "إيروتيك" الفرنسية.
ويتطلع الجيش التشادي عبر هذه الصفقة إلى تعزيز قدرته على المراقبة الجوية، من أجل السيطرة بشكل أفضل على منطقة بحيرة تشاد الحدودية، والتي تعد بمثابة أرض خصبة لجماعة بوكو حرام.
لكنها في الوقت ذاته فرصة عظيمة لزيادة هيمنة النفوذ الفرنسي على تشاد، والارتباط مع قواتها القتالية بعلاقات أوسع.
ما يعني قطع الطريق على القوى العالمية الساعية إلى وضع أقدامها في تشاد ذات الموقع الإستراتيجي، وفي مقدمتها مرتزقة "فاغنر" الروسية.
أهمية إستراتيجية
فتشاد التي تتحدث "الفرنسية" كلغة رسمية، تقع في وسط إفريقيا، وتحدها من الشمال ليبيا ومن الشرق السودان ومن الجنوب إفريقيا الوسطى ومن الغرب الكاميرون ونيجيريا والنيجر.
ورغم أنها غنية بالموارد الطبيعية، مثل "النفط، واليورانيوم، والذهب، والحجر الجيري، والرمل، والملح" لكنها من أفقر دول العالم، وأقلها في معدل التنمية.
فضلا عن معاناتها من العنف السياسي والانقلابات العسكرية المتكررة.
وفي 25 أبريل/ نيسان 2021، نشر موقع "ديفينس ويب" الأميركي، أن تشاد تشكل موقعا إستراتيجيا مهما لفرنسا والقوى الغربية.
وأرجع ذلك لأنها قريبة من النقاط الملتهبة في الحرب ضد الجماعات المسلحة بمنطقة الساحل الإفريقي، وفي مقدمتها تنظيم بوكو حرام.
وكذلك لأنها معقل لرصد الأحداث السياسية في الدول المجاورة، وأهمها ليبيا والسودان.
لذلك قدمت باريس دعما قويا للنظام التشادي بقيادة الزعيم السابق إدريس ديبي، ومازالت تدعم المجلس العسكري التشادي الجديد، بقيادة نجله الجنرال الشاب محمد إدريس ديبي.
وبحسب تقرير موقع "غلوبال فاير باور" الأميركي المختص في تصنيف الجيوش، الصادر في يناير/ كانون الثاني 2022، يحتل الجيش التشادي المرتبة رقم 90 بين أقوى 140 جيشا في العالم.
ويتولى الأمور في دولة مساحتها تتجاوز 1.2 مليون كيلو متر مربع، وعدد سكانها يتجاوز 16.8 مليون نسمة.
كما أن أكثر من 3 ملايين نسمة مؤهلون للخدمة العسكرية، ويصل إلى سن التجنيد سنويا 343 ألف فرد.
بينما يقدر عدد القوات العاملة في الجيش التشادي بـ30 ألفا و500 جندي، إضافة إلى 4 آلاف و500 فرد في قوات شبه عسكرية.
النفوذ الفرنسي
وتعد فرنسا تشاد من مناطق نفوذها التاريخي إبان عصر استعمارها لإفريقيا، فقد احتلتها في الفترة بين 1900 و1960.
ورغم الفتور النسبي في العلاقة مع تبني فرنسا لسياسة "فك الارتباط بالمستعمرات السابقة" في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا هولاند، لكن الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون أولى نجامينا اهتماما خاصا.
فقدمت فرنسا للنظام العسكري التشادي دعما استخباراتيا ولوجستيا، وساعدته على البقاء أمام عوامل التهديد والتمرد.
وظهر هذا بوضوح عند إصرار الرئيس الفرنسي حضور جنازة الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي، في 20 أبريل/ نيسان 2021، الذي قتل خلال مواجهات مع المتمردين "المدعومين من روسيا".
وعد حضور ماكرون الجنازة تحديا لتحذيرات أمنية، لكنه أراد بعث رسالة تؤكد دعم بلاده للمجلس العسكري الجديد في تشاد، الذي نصب بعد وفاة ديبي وترأسه ابنه محمد ديبي.
وذكرت صحيفة "التايمز" البريطانية في 23 أبريل/ نيسان 2021، أن باريس تنشر ما لا يقل عن 5 آلاف جندي في نجامينا، في إطار عمليات دولية لمحاربة مسلحي باكو حرام في الدول المجاورة.
وتحتضن تشاد أيضا مركز القيادة لعملية برخان الفرنسية لمكافحة الإرهاب في منطقة غرب إفريقيا.
ويتمركز هناك قرابة ألف جندي وعدد من طائرات (ميراج 2000) المقاتلة، وتضم تشاد مركز قيادة مجموعة دول الساحل الخمس، التي تشمل تشاد والنيجر ومالي وموريتانيا وبوركينا فاسو.
النفوذ الروسي
وبعيدا عن معارك بوكو حرام ومحاولات فرض النفوذ، فإن أخطر ما يواجه فرنسا في تشاد، هو تطلعات روسيا الرامية إلى السيطرة على تلك البقعة.
وتسعى موسكو لتوسيع حضورها الجيوسياسي في مناطق نفوذ فرنسا التقليدية في إفريقيا.
وذكر مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة" (مقره أبوظبي)، في 22 فبراير/ شباط 2022، أن جبهة الوفاق من أجل التغيير بتشاد (فاكت)، التي تخوض معارك ضد الجيش التشادي، قاتلت إلى جانب مجموعة فاغنر الروسية خلال الحرب الأهلية الليبية.
وأضاف أن أعضاء الجبهة تلقوا تدريبات وتسليحا متقدما على أيدي فاغنر، الجماعة شبه العسكرية التي يديرها يفغيني بريغوجين الحليف المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين".
وأورد: "من المناطق التي تسيطر عليها هذه المجموعة الداعمة لخليفة حفتر في ليبيا انطلق المقاتلون التشاديون في معركتهم مع الرئيس التشادي الذي لقي مصرعه إدريس ديبي، وكان ضحية صراع النفوذ بين موسكو وباريس".
من جانبه ذكر موقع "إنتيليجنس أفريكا" في مايو/ أيار 2021، أن "الكرملين استفاد من الصراعات في مجاهل إفريقيا لإعادة إشعال نفوذه المنهار في القارة بعد الحقبة السوفيتية".
وأضاف أن هذا الأمر لم يكن ظاهرا في أي مكان أكثر مما كان عليه في ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي، حيث استفادت مجموعة فاغنر من الروابط مع المتمردين في المناطق المضطربة، خاصة تشاد".
وأوضح أن "المتمردين في فاكت، العازمين على الاستيلاء على السلطة في تشاد ذات الموقع الإستراتيجي، يمكن أن يثبت أنهم حلفاء قيمون لموسكو".
ومع أن روسيا داعمة بقوة للمتمردين، لكن تدعم أيضا القوات المسلحة التشادية.
وأعلنت وزارة الدفاع التشادية، في 28 يونيو/ حزيران 2021، أن روسيا تقدم مساعدات عسكرية للبلاد.
وأفادت الوزارة في بيان نشرته على موقعها الإلكتروني، أن خبراء روس سيقدمون المساعدة في صيانة وتحديث معدات الجيش التشادي.
وأكدت أن وفدا تشاديا توجه إلى روسيا لحضور مؤتمر موسكو التاسع للأمن الدولي، وبحث مع مسؤولين في وزارة الدفاع الروسية قضايا الدفاع العسكري.
وأشارت إلى أن الروس تعهدوا للوفد التشادي بتقديم دعم بالمعدات العسكرية.
يذكر أن معطيات وزارة الخارجية التشادية تؤكد أن روسيا كانت تزود جيش البلاد بـ 90 بالمئة من العتاد العسكري في عهد الرئيس الراحل إدريس ديبي.