"الجيش متورط".. لماذا لم تنتشل الغواصة الهندية جثث المهاجرين اللبنانيين؟

12

طباعة

مشاركة

ما كادت الغواصة الهندية "بايسيز 6"، التي جرى إحضارها إلى لبنان بجهود أبنائه المقيمين بأستراليا، تبدأ مهمتها في البحث عن زورق غارق لمهاجرين غير نظاميين، حتى أعلن فجأة عن مغادرتها وطاقمها.

قارب المهاجرين كان قد غرق في أواخر أبريل/ نيسان 2022، على بعد حوالي 6 كيلومترات من شاطئ مدينة طرابلس شمالي لبنان.

ورغم نجاحها في الوصول إلى المركب الغارق على عمق 459 مترا قرب الحدود الإقليمية للمياه اللبنانية، فإن مغادرتها بهذا الشكل المفاجئ أعادت إحياء الأجواء المشحونة بين عائلات الضحايا والمتعاطفين معهم، وبين الجيش اللبناني.

إذ كان الأهالي يمنون أنفسهم بانتشال الغواصة للزورق، من أجل دفن رفات المفقودين. والأهم عرض صور الزورق أمام المحققين والرأي العام المحلي لإثبات أن البحرية اللبنانية تسببت في إغراقه عمدا. 

وكانت مجموعة من أهالي المفقودين قد تقدموا بشكوى قضائية ضد 13 ضابطا وعنصرا في الجيش  اللبناني، بتهمة التسبب بغرق القارب ووقوع ضحايا.

اتهامات متبادلة

في 23 أبريل 2022 انطلق الزورق، الذي يحمل حوالي 80 مهاجرا غير نظامي، أغلبهم من الجنسية اللبنانية وبعض السوريين والفلسطينيين، مع غروب يوم رمضاني من طرابلس شمال لبنان قاصدا إيطاليا. 

هذه الطريقة في الهجرة نشطت بالتزامن مع اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، وكانت تقتصر على السوريين الهاربين من جحيم نظام بشار الأسد. 

ثم تصاعدت حدتها وباتت عملا منظما في السنوات الأخيرة، إذ قرر عشرات اللبنانيين استخدام هذا الطريق للخروج مع عوائلهم من لبنان الذي يعاني أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة.

اعترضت زورق المهاجرين دورية من البحرية اللبنانية، وحاولت منعه من إكمال طريقه وإعادته إلى الشواطئ اللبنانية. ثم حدث اصطدام بين طراد عسكري ضخم وزورق المهاجرين أدى إلى غرقه. 

نجا من الغرق 45 شخصا عملت زوارق البحرية على انتشالهم، مع جثث 6 أشخاص قضوا غرقا بينهم طفل، في حين بقي حوالي 30 شخصا في عداد المفقودين حتى اليوم، بحسب تقديرات البحرية اللبنانية.

تضاربت رواية الجيش بشأن الناجين. فقد قال إن "المركب غرق بسبب الحمل الزائد، ولولا وجود عناصرنا بالقرب منه لكان عدد الضحايا أكبر" وهو مركب قديم ومتهالك ولا يمكنه بلوغ السواحل الإيطالية. 

لكن رواية الناجين، وبعضهم كان لا يزال يقطر ماء، اجتمعت على أن بحرية الجيش تعمدت إغراق زورقهم، وأن الضابط المسؤول عن الدورية البحرية هددهم وتوعدهم بذلك.

وعندما لم يتجاوبوا معه نفذ وعيده، واصطدم بقوة على مرتين في الزورق الذي لم يتحمل الصدمات فهوى في قاع البحر بمن عليه.

ومذاك توترت الأجواء بين الجيش وأهالي من كانوا على متن الزورق، ولا سيما عائلات من نجا منهم وفقد زوجته وأبناءه. 

وحصلت اشتباكات بين الجيش والمحتجين الغاضبين الذين تعاطفوا مع العائلات أوقعت قتيلا وعددا من الجرحى لدى الأول. وكادت الأمور تتطور نحو الأسوأ لولا حصول تدخلات سياسية.

وتعهد قائد الجيش جوزيف عون لأهالي الضحايا بإجراء تحقيق شفاف في لقائه معهم أوائل مايو/أيار 2022. 

ودخل على خط الوساطة وزير العدل الأسبق أشرف ريفي، والذي انتخب بعد الحادثة بأسابيع قليلة نائبا عن مدينة طرابلس، التي يقطن فيها كل من كانوا على متن الزورق، متعهدا بإحضار غواصة من الخارج للبحث عنهم.

ورغم التشكيك وطول المدة، فإن ريفي نجح بالتعاون مع شقيقه المغترب في أستراليا وعدد من أبناء الجالية اللبنانية هناك بالإتيان بالغواصة الهندية "بايسيز 6" المتخصصة في ولوج أعماق البحر حتى 2000 متر. 

وصرح ريفي لصحيفة "سيدني مورنينغ هيرالد" في يوليو/تموز 2022 أن "متبرعا مجهولا قدم أكثر من 295 ألف دولار لجلب الغواصة".

نجاح جزئي

وصلت الغواصة إلى ميناء بيروت في 18 أغسطس/آب 2022، وبدأت في عملية البحث بعدها بأربعة أيام تحت إشراف ومواكبة الجيش اللبناني وعدد كبير من الإعلاميين وفريق من المحامين يمثلون أهالي الضحايا. 

وأعلن قائد القوات البحرية العقيد هيثم ضناوي في مؤتمر صحفي عقده في باحة ميناء مدينة طرابلس أن "طاقم الغواصة مؤلف من ثلاثة أشخاص هم على تواصل دائم مع غرفة العمليات في مقر القوات البحرية في مرفأ طرابلس، وستنفذ مهمتها بمواكبة ميدانية من الجيش اللبناني". 

كما نقلت صحيفة "الأخبار" المحلية عن مصدر عسكري (لم تسمه) أن "التحضيرات المطلوبة لانتشال الغرقى والقارب أنجزت". 

وفي مؤتمر صحفي ثان عقده قائد القوات البحرية العقيد هيثم ضناوي، بالاشتراك مع النائب أشرف ريفي، وطاقم الغواصة الهندية في 28 أغسطس، قال الأول إن "فريق الغواصة عثر على 10 جثث متحللة في عمق البحر".

كما عثر على جثث أخرى ما زالت موجودة داخل المركب، وأن كل المقاطع المصورة من طاقم الغواصة ستسلم إلى القضاء الذي يحقق في غرق الزورق، وفق ضناوي. 

وأخبر سكوت ووترز، الذي يدير الغواصة، الصحفيين بأن "أول جثة عثر عليها كانت خارج الحطام، لكن معظمها تحلل منذ الغرق، غير أن الأجزاء المتبقية كانت بالأساس قطعا من الملابس وبعض العظام". 

كما قال ووترز إن الطاقم "تعرف على 6 جثث أخرى في الحطام وعدد كبير من الركام حول الزورق"، مرجحا أن بعض الأشخاص الذين حاولوا الهرب من الزورق علقوا في ذلك الركام. 

وأضاف "أحد آخر المقاطع المصورة والصور التي التقطناها كان لرفات شخص، ذراع فوق ذراع، لقد ماتوا وهم يمسكون ببعضهم بعضا". 

وذكر توم زريقة، وهو أسترالي من أصول لبنانية، ورئيس هيئة الإغاثة الأسترالية "أوسريليف" التي ساعدت في نقل الغواصة إلى لبنان، أن "الزورق كان تحت الطمي بدرجة كبيرة، ما جعل انتشاله أمرا صعبا". 

ونشرت بحرية الجيش صورا التقطتها الغواصة للزورق. ومع ذيوع خبر رحيل الغواصة "بايسيز 6" وطاقمها تضاربت الروايات. 

ونقلت صحيفة "المدن" الإلكترونية في 29 أغسطس في تقرير للصحافية جنى الدهيبي عن فريق الغواصة أنه "أنجز مهمته كاملة وبالفترة التي حددها على مدار أسبوع لاستئجارها".

وتمكن هذا الفريق بأقصى إمكانياته المتاحة أن يحدد مكان المركب بعمق 459 مترا وعلى مسافة 130 مترا من مكان غرقه، وأن يلتقط صورا له وينقل مشاهداته من محيط غرقه".

وقال النائب أشرف ريفي في حديث للصحيفة نفسها إن الغواصة لا تملك إمكانيات استخراج المركب لأنه مغروس بمواد طينية، "ويحتاج لوسائل وتقنيات عالية أخرى وباهظة الثمن غير متوفرة لدى الغواصة". 

وفي بيان توضيحي لريفي قال فيه إن الغواصة "أنجزت المهمة في جزئها الأول"، وطالب "الدولة وأجهزتها باستكمال المهمة، إذ كان يفترض بها أن تبدأ بالأساس ومنذ اللحظة الأولى للكارثة". 

وتوجه للأهالي قائلا: "ومع الأسف والاعتذار ما أردناه لم يتحقق إلا جزئيا بسبب ضعف إمكانياتنا". وحسبما ذكرت الصحيفة فإن الغواصة "بايسيز 6" علقت عملها في 28 أغسطس. 

تغطية الجريمة

ومساء 29 أغسطس، صدرت مذكرة عاجلة إلى النيابة العامة العسكرية في بيروت من قبل 11 محاميا عن الوكلاء، فندوا فيها ملاحظاتهم على المؤتمر الصحفي المشترك لعرض نتائج عمل فريق الغواصة الهندية.

وجاء فيها أن المؤتمر أجري دون حضور مترجم محلف لتمكين الإعلام غير المتحدث بالإنجليزية من طرح أسئلة مباشرة على ربان الغواصة الكابتن سكوت ووترز، الذي أدلى بمعلومات تشكل أدلة وقرائن جنائية مهمة لمسار القضية.

وأيضا جرى التنديد بقرار منع أهالي الضحايا وخصوصا الناجين منهم من حضور المؤتمر، ما خلق لديهم إحساسا بإقصاء متعمد عن مسار التحقيقات ومجريات عملية البحث عن المفقودين. 

في بداية المؤتمر أوضح رئيس الغواصة الكابتن سكوت ووترز بأن عملية البحث جرى تصويرها وتوثيقها بجودة عالية جدا (4K)، إلا أنه لم تعرض أي من هذه الصور في المؤتمر. 

وأكد الكابتن في كلمته وجود ضربات وعلامات اصطدام واضحة في مقدمة المركب الغارق. 

فيما ألمح قائد أركان البحرية العسكرية العقيد هيثم ضناوي إلى احتمال عدم انتشال المركب بذريعة أن الجثث الموجودة فيه قد تفتت إلى أشلاء.

وأعلنت المذكرة عن نية توجيه طلب إلى مفتي الجمهورية من أجل حسم مسألة انتشال الجثث التي عثر عليها بداخله، وما إذا كان يجوز انتشالها بهدف إقامة الحداد عليها برغم إمكانية تلف (تفتت) بعضها إلى أجزاء.

وفي نفس التوقيت قالت إن القرار في هذه المسألة يعود الى أصحاب الحقوق المشروعة أي أهالي الضحايا وحدهم دون غيرهم.

ولخص المحامون طلباتهم بتعيين جلسة للاستماع إلى كابتن الغواصة، بصفته خبيرا رئيسا في هذه القضية، بحضور المدعين وممثليهم القانونيين، بهدف تدوين مشاهداته وإفادته في محضر التحقيقات كدليل جنائي مهم وحاسم. 

إضافة إلى تكليفه بتسليم نسخته من التقارير والبيانات والصور والفيديوهات التي أكد أنه التقطها بنفسه لعملية البحث والغوص بنسختها الكاملة الأصلية من دون تقطيع أو مونتاج. 

وأيضا تمكين المحامين الموكلين بالاطلاع على جميع المستندات الموجودة في هذا الملف، وطلب المساعدة من المنظمات الإنسانية الدولية مثل الصليب الأحمر، واتخاذ كل ما يلزم من أجل التعجيل بانتشال المركب الغارق والكشف عليه جنائيا من قبل خبراء دوليين محايدين. 

بيد أن مذكرة وكلاء الأهالي لم تقف حائلا أمام مغادرة الغواصة وطاقمها. وترجح المعلومات المتداولة والتقارير الصحفية فرض بقاء المركب في قاع البحر مع رفات المفقودين كأمر واقع بذريعة عدم توفر الإمكانيات اللوجستية والمادية لانتشاله.

ويغمز البعض إلى تعمد الجيش عدم انتشال الزورق للتغطية على الجريمة التي نفذها بعض عناصر البحرية وغلق الملف بالكامل.

وقال المحامي محمد صبلوح، أحد وكلاء الأهالي، إن "هناك علامات استفهام كبيرة في مسار عمل الغواصة من الأصل". 

وتساءل صلبوح خلال حديثه لـ"الاستقلال": "كيف تغادر لبنان من دون أن تستكمل مهامها المنصوص عليها في العقد؟".

ويضيف "علمنا أنها غادرت إلى ميامي (أميركا) من دون أن تسلم تقريرها، ومن دون الاستماع إلى قائد الغواصة قبل سفره كما كنا طلبنا من الجهات المختصة". 

وفي تقرير لصحيفة "الأخبار" في 29 أغسطس، قال الصحفي عبد الكافي الصمد إن ما حصل شكل صدمة لدى الأهالي، وكانت ردة فعلهم غاضبة.

واتهموا النائب ريفي والدولة والمعنيين بملف غرق القارب أنهم "لا يريدون انتشال الجثث والمركب لإخفاء كيفية غرقه، من أجل منع محاسبة ومحاكمة من تسببوا بحادثة غرقه". 

كما كشف بعضهم للصحيفة أن "بعض الأشخاص الذين تعاطوا مع ملف الغواصة حاولوا ابتزاز الأهالي، والطلب منهم دفع مبالغ مالية بالدولار الأميركي مقابل انتشال جثث غرقاهم". 

وأوضح بعض أهالي الغرقى أنه "عندما وصلت الغواصة إلى لبنان تبلغنا أن العقد معها كان على مرحلتين، الأولى للاستكشاف وتحديد موقع القارب والتقاط صور له، والثانية انتشاله".

وتساءل: "فكيف تبرر اليوم أنها غير قادرة على تنفيذ الجزء الثاني من العقد، هل كانوا يضحكون علينا بعدما أوهمونا أن الغواصة قادرة على الغوص أكثر من ألفي متر، وانتشال مراكب وغرقى، فإذا بها اليوم ليست قادرة على انتشال غرقى وقارب على عمق 450 مترا؟". 

اللافت في هذه القضية أنه ومنذ غرق المركب نأت الحكومة اللبنانية بنفسها تماما عنها وكأنها غير معنية بالقضية، ولم تبذل أي جهد في هذا الصدد، حتى أنها لم تضع القضية على جدول أعمالها، وامتنعت عن تقديم أي عون مادي أو معنوي للأهالي.