انقلاب البابا على فرسان مالطا.. محاولة لاحتكار سلطة الكنيسة أم أموالها؟

12

طباعة

مشاركة

بشكل مفاجئ ودون مقدمات، نفذ البابا فرنسيس مطلع سبتمبر/أيلول 2022 انقلابا على دولة فرسان مالطا المستقلة التي تشغل عدة مبان داخل مقر الفاتيكان، ولكنها تابعة له روحيا.

أقال بابا الفاتيكان، المستشار الأكبر لنظام "فرسان مالطا العسكري" الألماني ألبريشت فرايهر فون بوزيلاجر من منصبه، وعين حكومة مؤقتة برئاسة شخص مقرب منه هو "فرا جون دنلاب".

يوجد لدى نظام فرسان مالطا العسكرية المستقل أربعة مناصب عليا هي: "القائد الأعلى" و"المستشار الأكبر" و"الإسبتارية الكبرى" و"متلقي الكنز المشترك" (وزير المالية).

ألغى مرسوم فرانسيس ألقاب أعضاء فرسان مالطا في المناصب العليا، ومنحها لأعضاء آخرين، وأعاد تشكيل "المجلس السيادي" (الحكومة).

ووسع المجلس من أربعة أعضاء إلى 13 عضوا، فعين تسعة إضافيين جددا في مجلس السيادة، ضمن تشكيل حكومة مؤقتة.

انقلاب البابا في 3 سبتمبر تضمن تعيين حكومة مؤقتة للنظام لحين انتخاب "راع أكبر" جديد (رئيس للدولة) وإقرار دستور جديد يجعل الفاتيكان أكثر سيطرة على الدولة الكائنة داخل حدوده، وإجراء انتخابات في يناير/كانون الثاني 2023.

و"فرسان مالطا" ليست دولة بالمعنى المعروف، فهي أشبه بمنظمة تقيم في عدة مبان داخل الفاتيكان في روما الإيطالية، ومقرها الرئيس في قصر "ماجسترال" بروما، ودولة بلا شعب، وتضم في عضويتها 13.5 ألفا يطلقون على أنفسهم اسم "فرسان".

ويديرها مجلس مكون من 26 فارسا يساعدون الرئيس (الكاردينال العسكري) على تسيير شؤونها. وأول من شغل هذا المنصب هو البريطاني أندرو بيرتي.

وهي منظمة دينية ذات طبيعة عسكرية للفرسان، تقول إنها تعمل على تكريس الإيمان المسيحي، وخدمة الفاتيكان، وتزعم أن المهمة الرئيسة لها منذ تأسيسها هي خدمة المرضى وأعمال البر والإحسان.

وتطلق على نفسها اسم "النظام العسكري ذي السيادة المستقلة لمالطا"، أو "نظام السيادة العسكري لفرسان مستشفى القديس يوحنا الأورشليمي من رودوس ومالطا".

وهي تختلف عن دولة مالطا، ويرجع تاريخها إلى جماعة كاثوليكية من بقايا الحروب الصليبية هم "فرسان الإسبتارية" لكنها معترف بها دوليا ككيان ذي سيادة، وعضو في الأمم المتحدة.

ولها علاقات دبلوماسية رسمية مع 103 دول، وسفراء فيها بما فيها 8 عربية هي مصر والأردن والسودان والصومال وجزر القمر ولبنان والمغرب وموريتانيا، وما يزيد على 28 دولة إسلامية.

ويدور حول هذه الدولة المريبة التي لا يجري ذكر اسمها رسميا إلا مرتبطا بأحداث تتعلق بأعمال إنسانية ورعاية مستشفيات، وتسهيل سفر حجاج مسيحيين لإسرائيل، غموض وشبهات كثيرة، إذ تدير لوبيات مشبوهة ومؤثرة حول العالم.

أسباب الانقلاب

منذ إعلان دولة "فرسان مالطا" في 7 يونيو/حزيران 2022 وفاة رئيسها الأعلى "ماركو لوتزاغو" وتعيين "الكوماندور الأعظم" روي غونزالو دو فالي بيكسوتو دي فيلاس بوا، قائما جديدا بأعمال الرئيس حتى انتخاب جديد "رئيسا دينيا" وهناك صراع داخل الفرسان بين فريق موال للفاتيكان وآخر مستقل عنه.

كانت هناك مناقشات ساخنة دامت خمس سنوات بين كبار الحرس القديم لنظام الفرسان والفاتيكان، حول الدستور الجديد الذي من شأنه إضعاف فرسان مالطا لصالح الفاتيكان، بحسب ما نشرت وكالة رويترز البريطانية في 3 سبتمبر.

وفي عام 2017، أمر البابا فرانسيس بإصلاحات في الحياة الدينية للطائفة ودستورها، و"أثيرت مخاوف طوال عملية الإصلاح من أن بعض تصرفات البابا فرنسيس تهدد سيادة فرسان مالطا"، بحسب وكالة الأنباء الكاثوليكية 3 سبتمبر.

وفي 17 أغسطس/آب 2022 عقد اجتماع حاسم بين الكاردينال سيلفانو ماريا توماسي، مندوب البابا الخاص لدى فرسان مالطا، و"فرا جون دنلاب" عضو نظام الفرسان (الذي دعمه البابا وعينه رئيسا للحكومة المؤقتة)، مع أعضاء المجلس السيادي للفرسان، للنظر في "الإصلاحيات".

وقدم أعضاء المجلس السيادي وثيقة تعد أن إصلاحات البابا المطلوبة تتعارض مع "سيادة" دولة الفرسان، ما تسبب في رد فعل قاس من "دنلاب" بحسب ما قالت وكالة الأنباء الكاثوليكية في 17 أغسطس 2022.

في 25 يوليو/تموز 2022 ترددت أنباء عن قرار يحضر له فرسان مالطا بنقضهم الرعاية البابوية لكرسي الفاتيكان التي تقيدهم منذ ألف عام، وإبراز صورة دولتهم الأولى المستقلة التي ظهرت خلال الحروب الصليبية.

لكن البابا نفذ انقلابا مفاجئا وأقال أنصار هذا التيار الذي يتبنى توجها صليبيا عسكريا أصوليا يرى حصر قيادة هذا النظام على الوجهاء وأصحاب الخلفية الملكية النبيلة، ووضع دستورا جديدا لفرسان مالطا يسمح بتولي أي كاثوليكي للمناصب.

يرى مراقبون أن انقلاب البابا سببه أحد أمرين: الأول مادي يتعلق بالأموال الطائلة التي يمتلكها تنظيم فرسان مالطا الذي يقدم نفسه للعالم بصفته نظام مستشفيات ورعاية طبية ويحصل على تبرعات ضخمة.

إذ تبلغ ميزانية الفرسان ملايين الدولارات، ويبلغ عدد أعضائها 13500، ويعمل معها 95 ألف متطوع و52 ألفا من العاملين في المجال الطبي، وتدير عيادات طبية في أنحاء العالم، بحسب رويترز.

والثاني: سياسي ديني يتعلق بالصراع القديم بين الفاتيكان وفرسان مالطا وازدواجية السلطة الروحية.

ورغبة الفاتيكان في إنهاء هذه الازدواجية لصالح تصديره هو فقط كسلطة روحية للكاثوليك.

لذلك حل البابا قيادة فرسان مالطا الذراع العسكري للحروب الصليبية والدولة الغنية الغامضة التي لا تملك سوى علم وجوازات سفر عالمية وسفارات ومقعدا في الأمم المتحدة، وشكل حكومة مؤقتة للنظام موالية له.

وقد أشار مرسوم البابا بشأن الانقلاب إلى هذه الصراعات داخل فرسان مالطا التي سعى لحسمها لفريق ضد آخر.

قال فرانسيس في بيان المرسوم: "بعد الاستماع والتحاور مع مختلف ممثلي الرهبانية، حان الوقت لاستكمال عملية التجديد التي بدأت".

أضاف: "أثناء إصلاح منظمة فرسان مالطا جرى اتخاذ العديد من الخطوات، ومواجهتها بنفس القدر من العوائق والصعوبات على طول الطريق".

وقد نقل موقع حكومة فرسان مالطا في 3 سبتمبر عن رئيس الحكومة المؤقتة "فرا جون دنلاب" الذي عينه البابا، ترحيبه بحسم الخلافات بشأن "نظام فرسان مالطا العسكرية"، كونه يمثل التيار الفائز بين المتنازعين على السلطة.

قال: "حدد البابا طريقا للمضي قدما يعد بضمان مستقبل فرسان مالطا كمؤسسة دينية وكيان سيادي"، في إشارة لتغليب التبعية الروحية للفاتيكان على هذه الدولة.

أضاف أن قرار البابا بتمكين حكومة مؤقتة "هو الخطوة الأولى في مخطط واضح لحوكمة أكثر كفاءة وانسيابية للأمر"، مشيرا إلى "دماء جديدة وتفكيرا جديدا في طبيعة نظام ديني عمره ألف عام".

في إفادة صحفية إلى جانب بعض أعضاء الحكومة المؤقتة في 3 سبتمبر، قال الكاردينال سيلفانو توماسي، المندوب الخاص للبابا للصحفيين إن الدستور الجديد "لن يضعف سيادة نظام فرسان مالطا الدولية".

لكن الكاردينال جيانفرانكو غيرلاندا، عضو مجموعة العمل التي أعدت الدستور الجديد الذي وافق عليه البابا، قال إن النظام الديني يجب أن يظل تحت رعاية الفاتيكان، بحسب وكالة رويترز.

بموجب الدستور السابق كان يطلب من كبار الفرسان والماستر أن يكونوا من "سلالة نبيلة"، وهو أمر قال الإصلاحيون من أنصار البابا إنه يستثنى بذلك الجميع تقريبا باستثناء الأوروبيين من الخدمة في المناصب العليا، ويجعلها حكرا على فريق.

لذلك ألغى الدستور الجديد "قاعدة النبلاء"، كما أنهى تقليد انتخاب الأساتذة الكبار (المجلس السيادي) "مدى الحياة"، كي تصبح الدولة أكثر ديمقراطية، بحسب كلمة مندوب البابا لدى الفرسان.

بموجب الدستور الجديد للفرسان سيجري انتخاب مسؤولي المجلس السيادي في المستقبل لمدة 10 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط، وسيتعين عليهم التنحي في سن 85.

ودعا الإصلاحيون، بدعم من الفاتيكان، إلى حكومة أكثر شفافية لجلب دماء جديدة والسماح للنظام بالاستجابة بشكل أفضل للنمو الهائل الذي شهده في السنوات الأخيرة، بحسب رويترز.

وشدد البابا في مرسوم الدستور الجديد، وهو يرد على انتقاد الحرس القديم في دولة الفرسان أن إصلاحاته بشأن "سيادة" هذه الدولة تؤكد أن "فرسان مالطا هم نظام ديني، مما يعني أنها تعتمد على الكرسي الرسولي".

كتب أن "طبيعتها السيادية ليست منفصلة عن جانبها الديني ولكنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بها".

وبين أن "هذه السيادة تهدف فقط إلى المساعدة في تسهيل هدفها ووظيفتها، والتي تشمل تقديم المساعدة الإنسانية والخيرية في جميع أنحاء العالم"، وذلك بحسب ما نشر موقع "أور صاندي فيزيتور" في 4 سبتمبر.

كيف نشأت؟

بدأ ظهور "فرسان مالطا" في القدس عام 1048، خلال عصر الدولة الفاطمية كهيئة خيرية، أسسها بعض التجار الإيطاليين لرعاية مرضى الحجاج المسيحيين، في مستشفى "قديس القدس يوحنا" قرب كنيسة القيامة ببيت المقدس.

وظل هؤلاء يمارسون عملهم في ظل سيطرة الدولة الإسلامية، وأطلق عليهم اسم "فرسان المستشفى" Hospitallers تمييزا لهم عن هيئات الفرسان التي كانت ظهرت لاحقا في القدس مثل "فرسان المعبد" وغيرهم.

وعندما بدأت الحروب الصليبية الأولى 1097 وجرى الاستيلاء على القدس، أنشأ رئيس المستشفى "جيرارد دي مارتيز" تنظيما منفصلا أسماه "رهبان مستشفى قديس القدس يوحنا" وبحكم درايتهم بأحوال البلاد قدموا مساعدات قيمة للصليبيين.

ثم تحولوا إلى نظام فرسان عسكريين بفضل ريموند دو بوي (خليفة مارتينز) الذي أعاد تشكيل التنظيم على أساس عسكري مسلح باركه البابا "أنوست الثاني" 1130.

ومع الاحتلال الصليبي للقدس توسعت مهام المنظمة لتشمل تقديم الحماية العسكرية للمسيحيين، ونالت اعترافا رسميا من بابا الفاتيكان باسكال الثاني عام 1113 باعتبارها نظاما دينيا.

وعقب هزيمة الصليبيين في القدس وسقوط عكا عام 1291 وطرد الصليبيين نهائيا من الشام اتجهت هيئات الفرسان الصليبيين لنقل نشاطها إلى ميادين أخرى.

 فاتجه الفرسان التيوتون (طائفة مسيحية ألمانية تمريضية تحولت لعسكرية) نحو شمال أوروبا، ونزح الداوية أو فرسان المعبد (عسكريون متعصبون) إلى بلدان جنوب أوروبا وخاصة فرنسا وقضى عليهم فيليب الرابع فيما بعد (1307 - 1314).

أما فرسان الإسبتارية أو الهوسبتالية (نسبة لكلمة مستشفى)، فقد اتجهوا في البداية إلى مدينة صور ثم قبرص عام 1291.

وانتقلوا لاحقا إلى جزيرة رودوس، لكن طردهم العثمانيون منها عام 1523، فذهبوا إلى مالطا وأنشؤوا نظامهم السيادي، الذي ارتبط باسمهم "فرسان مالطا"، حتى طردهم نابوليون بونابارت منها عام 1798 ليحولها لنقطة انطلاق لاحتلال مصر.

وأخيرا استقروا في روما داخل مقر الفاتيكان، حيث المقر الرئيس للمنظمة حاليا في العاصمة الإيطالية روما.

منذ تأسيسها قبل 970 عاما، جرى استخدام العديد من الأسماء لتعريف المنظمة وأعضائها، بحسب الموقع الرسمي لها.

فالاسم الرسمي لمنظمة فرسان مالطا هو "نظام القديس يوحنا العسكري المستقل لفرسان القديس يوحنا في مدينة رودس ومالطا".

لكن غالبا ما تستخدم اختصارات مثل: فرسان مالطا العسكرية المستقلة، أو فرسان مالطا السيادية، أو فرسان مالطا.

وأطلق على الفرسان في البداية اسم فرسان الإسبتارية لوصف مهمتهم، لكن أطلق عليهم أيضا اسم فرسان القديس يوحنا بسبب وجودهم في القدس.

وبعد غزوهم جزيرة رودس عام 1310 بعد طردهم من القدس، أصبحوا "فرسان رودس"، وفي عام 1530 خلال وجودهم في جزيرة مالطا أصبح يطلق عليهم اسم "فرسان مالطا" حتى بعدما تركوها وذهبوا إلى روما.

ووفقا لدستورهم، ينقسم أعضاء منظمة فرسان مالطا إلى ثلاث فئات، وعلى الأعضاء أن يديروا حياتهم بطريقة مثالية وفقا لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية ومبادئها، وأن يكرسوا أنفسهم لأنشطة المساعدة التي تقدمها الرهبانية.

وأعضاء الدرجة الأولى هم من الفرسان ورجال الدين المعترف بهم، والثانية، هم رهبان عسكريون، والطبقة الثالثة أعضاء علمانيون لا يعترفون بالنذور الدينية لكنهم يعيشون وفقا لمبادئ الكنيسة والنظام.

وكان أبرز من كشف أدوارهم المعادية للإسلام في الوقت الحاضر، الصحفي الأميركي "سيمور هيرش" خلال محاضرة مهمة ألقاها في قطر 18 يناير/كانون الثاني 2011.

قال "هيرش" في محاضرته بكلية الشؤون الدولية بجامعة جورج تاون بقطر، عن السياسات الأميركية: "إن القوات المسلحة الأميركية يوجهها ويسيطر عليها صليبيون أصوليون مسيحيون يهدفون إلى تحويل المساجد إلى كنائس".

وفي تقرير عما قصده هيرش حول فرسان مالطا، نشرت مجلة "فورين بوليسي" تقريرا في 19 يناير من نفس العام يقول إن أعضاء منظمة "فرسان مالطا" يتمتعون بحضور غامض في مراكز صنع قرارات السياسة الخارجية الأميركية.