طلب الصفح من الكنديين.. لماذا لا يعتذر الفاتيكان عن الجرائم بحق المسلمين؟
لم تنه "رحلة التوبة والتكفير عن الذنوب" التي أجراها بابا الفاتيكان فرنسيس إلى كندا الجدل حول الانتهاكات والجرائم "الصليبية" التاريخية، وأعادتها إلى الواجهة.
وفي 24 يوليو/تموز 2022 توجه البابا إلى كندا للاعتذار عن انتهاكات الكنيسة بحق السكان الأصليين هناك، وطلب الصفح منهم.
وكان للكنيسة دور كبير في العنف الذي تعرض له الآلاف منهم لأكثر من قرن، و"الإبادة الثقافية الجماعية" لهم بين عامي 1831 و1996.
لماذا الآن؟
اعترف فرنسيس بدور قساوسة وراهبات ومؤسسات دينية مسيحية أداروا مدارس داخلية شهدت انتهاكات جسيمة لمحو ثقافات السكان الأصليين.
إذ فصلوا الأطفال عن أسرهم ولغتهم وثقافتهم، ضمن نظام دمج ثقافي كنسي تسبب في وفاة 6 آلاف شخص على الأقل كشفت قبور جماعية لهم.
اعتذار البابا لسكان كندا الأصليين فتح الباب مجددا للسؤال عن أسباب رفض الكنيسة وباباوات روما المتتابعين الاعتذار عن جرائم الحروب الصليبية بحق المسلمين، رغم أنهم اعتذروا للجميع.
وقبل أدائه "رحلة الحج الأخيرة" إلى الشرق الأوسط اعتذر بابا الفاتيكان الراحل يوحنا بولس الثاني خلال قداس أقامه في 12 مارس/آذار 2000 لليهود عن موقف الكنيسة الكاثوليكية من الاضطهاد النازي لهم.
واعتذر للكنائس الأرثوذكسية الشرقية عن عنف الكنيسة الكاثوليكية واضطهادها الذي ساعد على إسقاط نظيرتها البيزنطية.
كما طلب العفو من الروس، واعتذر عن محاكم التفتيش وصكوك الغفران واضطهاد العلماء والمفكرين.
في المقابل، رفض يوحنا الاعتذار للمسلمين عن "الحروب الصليبية" لأنها جزء من أخطاء متبادلة، وأن الاعتذار يجب أن يكون من الطرفين.
جاء الاعتذار عن تعذيب وقتل أطفال السكان الأصليين خلال عملية تنصيرهم بالقوة، ضمن استكمال الفاتيكان سلسلة الاعتذارات عن جرائم الكنيسة، وللتخفيف من اتهامات المواجهة للقساوسة في دول مختلفة بتنفيذ انتهاكات جنسية للأطفال خصوصا.
الحديث يدور عن "شبكة المدارس السكنية الكندية الهندية"، التي مولتها حكومة أتاوا وأشرفت عليها الكنائس الكاثوليكية، وفي عام 2015، سلط تقرير تاريخي الضوء على الانتهاكات التي تعرض لها الناجون فيها.
ونقل "تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة الكندية" عن الناجين من المدارس قصصا تؤكد إشراف نظام المدارس الداخلية الكاثوليكية على سياسة "الإبادة الجماعية الثقافية".
وكانت تلك الشبكة جزءا من سياسة تهدف إلى دمج أطفال السكان الأصليين وتدمير ثقافاتهم ولغاتهم، وبموجبها جرى انتزاع نحو 150 ألف طفل من أبناء شعوب الميتي والإسكيمو (السكان الأصليين) من عائلاتهم ووضعوا في تلك المدارس.
وفي مايو/أيار 2021 عثر على أدلة، باستخدام تقنية الرادار المخترقة للأرض، على قبور لأطفال في موقع مدرسة سابق في منطقة للسكان الأصليين في بريتيش كولومبيا.
وبدأت جماعات السكان الأصليين الأخرى في إجراء عمليات بحث مماثلة بالقرب من مواقع المدارس السكنية، وعثر حتى الآن على أدلة على أكثر من ألف مقبرة.
لذا تكثفت الدعوات من قادة السكان الأصليين لاعتذار رسمي من البابا، وانتهى الأمر باعتذار لوفد منهم زار الفاتيكان أبريل/نيسان 2022.
لكن البابا وعدهم بزيارة أرضهم ومدارسهم للاعتذار لهم في بلدهم. وطالبه زعماء السكان الأصليين بأن تتخلى الكنيسة الكاثوليكية عن عقيدة يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر، استخدمت كمبرر لقمعهم وقتلهم.
وفي زيارته إلى كندا، قدم البابا فرنسيس اعتذاره عن استخدام الكنيسة الجوع والعنف الجنسي والتلقين الديني بالقوة لدمجهم، ووصف الإدماج الثقافي القسري بأنه "شر مؤسف" و"خطأ كارثي".
تاريخ الاعتذارات
لم يكن اعتذر البابا للسكان الأصليين في كندا عن جرائم الكنيسة الكاثوليكية هو الأول من نوعه، فقد سبق لأسلافه أن قدموا اعتذارات مماثلة.
فمنذ أن أصبح رئيسا للكنيسة الكاثوليكية عام 2013، قدم البابا الحالي فرنسيس عدة اعتذارات، أبرزها عن الاعتداء الجنسي من جانب القساوسة على أطفال، وفي رسالة إلى أساقفة تشيلي عام 2018 اعترف بارتكاب "أخطاء جسيمة".
وفي العام نفسه كتب رسالة مطولة للكاثوليك في جميع أنحاء العالم أعرب فيها عن أسفه العميق لدور الكنيسة في الإساءة للأطفال القصر والتستر عليها، معترفا: "لقد تخلينا عنهم".
وخلال رحلته إلى بوليفيا عام 2015 اعتذر فرنسيس عن "العديد من الخطايا الجسيمة التي ارتكبت باسم الرب بحق السكان الأصليين في القارة الأميركية".
وجاءت اعتذارات فرنسيس، بعدما تغاضى سلفه بنديكتوس السادس عشر (2005 -2013) عن أزمة الاعتداء الجنسي في بعض الكنائس وتردد تورطه في المساعدة فيها كما نقلت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية في 25 يوليو 2022، عن مركز بيو الأميركي للأبحاث.
وسبق أن اتهم تحقيق ألماني بنديكتوس بارتكاب مخالفات في تعامله مع قضايا الاعتداء الجنسي خلال فترة إدارته لأبرشية ميونيخ بين عامي 1977 و1982، ما دفعه للإعراب لجميع ضحايا الاعتداء الجنسي عن "خزيه العميق".
وقد استقال البابا بنديكتوس متذرعا بأسباب صحية، لكن العار كان يلاحقه بسبب الاتهامات التي وجهت له. والمفارقة أنه كان من أبرز المعادين للإسلام، وله تصريح شهير أثار ضجة قال فيه "إن الإسلام أتى بكل ما هو سيئ".
وكان بنديكتوس قد ألقى خطابا في 11 سبتمبر/أيلول 2006 في جامعة بألمانيا، استشهد خلاله بإمبراطور مسيحي وصف بعض تعاليم الرسول محمد على أنها "شريرة وغير إنسانية" وأن هناك تناقضا بين الإسلام والعقل، ما أثار احتجاجات وغضبا في العالم الإسلامي.
وبسبب هذه التصريحات المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، جمد شيح الأزهر الحالي أحمد الطيب حوار الأديان مع الفاتيكان حينئذ.
وتعد فترة تولي البابا يوحنا بولس الثاني الفاتيكان، والتي تصل إلى 27 عاما (1978 -2005) أكثر فترات اعتذارات الكنيسة الكاثوليكية عن جرائمها.
وكان من بينها اعتذار عامي 2000 و2001 عن "سلسلة من الظلم، بما في ذلك الاعتداء الجنسي، الذي ارتكبه رجال الدين الكاثوليك الرومان".
وقال خلال قداس أقامه في الفاتيكان إنه يعتذر ويطلب الصفح عن طريقة تعامل الكنيسة الكاثوليكية مع "اليهود والمارقين عن مذهبنا والنساء والسكان الأصليين في بعض البلدان الكاثوليكية"، وفق ما نقل موقع بي بي سي البريطاني في 12 مارس 2000.
واستدرك الموقع: "لكن البابا لم يتحدث بالتحديد عن الحروب الصليبية ولم يذكر شيئا عن امتناع البابا بيوس الثاني عشر عن التنديد بالمحارق النازية لليهود".
وخلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وأثناء زياراته لدول إفريقية، "اعتذر البابا عدة مرات عن دور الكنيسة في تجارة الرقيق واستعباد النساء جنسيا"، بحسب وكالة أسوشيتد برس الأميركية في 25 يوليو 2022.
كما اعتذرت الكنيسة رسميا في أوقات سابقة لفشلها في اتخاذ إجراءات أكثر حسما خلال الحرب العالمية الثانية لوقف الحرب الطاحنة التي أودت بحياة أكثر من 60 مليون شخص.
تجاهل المسلمين
لم يتطرق أي من باباوات الفاتيكان للحروب الصليبية والجرائم التي ارتكبت فيها، ولم يعتذروا للمسلمين عن قتل ونهب واحتلال بلادهم باسم "إرادة الرب".
وحين قدم يوحنا بولس الثاني اعتذارا علنيا غير مسبوق عن "أخطاء الكنيسة الكاثوليكية في الماضي"، وطلب "الصفح من الله" عن "خطايا"، دون أن يذكر المسلمين.
وهذا برغم تأكيد القس لورنزو ألباسيتي لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية في 13 مارس 2000 أن الاعتذار يعكس رغبة البابا حينئذ "في المصالحة مع المسيحيين والأديان الأخرى".
قال إن البابا يوحنا "وسع عملية المصالحة التي بدأت في الستينيات خلال مجلس الفاتيكان الثاني"، لكن صحفيين حضروا اللقاء أكدوا أنه لم يذكر الإسلام أو الحروب الصليبية.
وبينت صحيفة الغارديان في 13 مارس 2000 أن البابا يوحنا "اعتذر عن الحروب الصليبية ومذبحة البروتستانت الفرنسيين ومحاكمة غاليليو ومعاداة السامية".
واعتذر يوحنا في وثيقة عام 1998 عن عدم مساعدة الفاتيكان والكاثوليك اليهود خلال الهولوكوست، وخصص عظته عام 2000 لـ "الاعتراف بالخطايا ضد شعب إسرائيل".
لكن اعتذار يوحنا بولس العام عن "أخطاء الكنيسة" الماضية أثار غضب بعض القساوسة المحافظين في الفاتيكان، بحسب مصادر تحدثت لصحيفة "التايمز" البريطانية في 20 مارس 2006.
ولم تسفر حوارات الأديان بين مشيخة الأزهر في مصر والفاتيكان للمطالبة باعتذار الكنيسة الكاثوليكية عن الحروب الصليبية، عن اتفاق.
وبدأ عمل لجنة الحوار بين الأديان بالأزهر الشريف فعليا في أبريل 1994 في عهد الإمام الراحل الشيخ جاد الحق، عندما كان يعالج في سويسرا، حيث أجرى لقاء مع الفاتيكان.
وعندما تولى محمد سيد طنطاوي الأزهر أخذ الحوار الشكل الجدي، وصدر قرار منه بتشكيل لجنة دائمة بالمشيخة الإسلامية للحوار بين الأديان.
وكان أول اتفاق يدخل ضمن حوار الأديان بين الأزهر والفاتيكان جرى توقيعه عام 1998 مع الفاتيكان، وتلاه ثان في يناير/كانون الثاني 2001 مع الكنيسة البريطانية، لكنه لم يتطرق للحروب الصليبية.
ولفت علماء أزهريون شاركوا في جلسات الحوار بالأزهر حينئذ إلى أنه رغم إصدار الفاتيكان وثيقة يبرئ فيها اليهود، فقد رفض بإصرار غريب طلب المشيخة بالاعتذار عن فظاعات الحروب الصليبية، حسبما أكد أحدهم لـ "الاستقلال".
قال الشيخ الذي لا يعمل حاليا في مؤسسات الأزهر، مفضلا عدم ذكر اسمه، أنه رغم مطالبة المشيخة للفاتيكان بإدانة الحروب الصليبية الغربية في العالم الإسلامي عدة مرات لم تستجب الكنيسة الكاثوليكية وتصدر وثيقة بذلك كما فعلت مع اليهود وغيرهم.
وطالب عدد كبير من علماء الأزهر في يناير 2001 الفاتيكان بالرد على الطلب الذي تقدمت به المشيخة عام 2000 للاعتذار عن الحرب الصليبية التي شنها الغرب على الدول الإسلامية في العصور الوسطى، ولكن دون جدوى.
وخلال زيارة إلى لبنان في سبتمبر 2021 وقع البابا يوحنا ما سمي وثيقة "الإرشاد الرسولي"، التي تحمل أفكارا خطيرة، من بينها "الدعوة إلى تنصير العالم، والتحذير من أسلمة المجتمع الإسلامي".
وهو ما دعا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لإصدار بيان في 13 سبتمبر 2012 ينتقد توقيع بابا الفاتيكان على الوثيقة ويحذره من إشعال الفتنة و"تخويف المسيحيين من الإسلام في المنطقة".
وقال الاتحاد إنه حاول في الماضي الحوار مع الفاتيكان، لكن الأمر كان من طرف واحد، وطالب البابا بالاعتذار للمسلمين عما وقع من مجازر وقتل وحرق وتهجير على أيدي الصليبيين في الأندلس والشام، أسوة باعتذاره لليهود.
ومر 927 عاما على الغزوات الصليبية حتى الآن، وانطلقت في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1095 الشرارة الأولى لها عندما ألقى أوربانوس الثاني بابا الفاتيكان خطابا شهيرا دعا لموجات متتالية من الغزوات الصليبية لاستعادة "الأرض المقدسة".
وخلالها دمر الصليبيون البلدان التي مروا بها وذبحوا السكان المسلمين واستولوا على القدس ومدن عربية أخرى عام 1099، وبعد 200 عام من الصراع طردتهم الجيوش الإسلامية إلى الأبد.