عملاق صناعة النبيذ الفرنسي.. هكذا تواطأ في جرائم ضد الإنسانية بإفريقيا

فتح مكتب المدعي العام لمكافحة الإرهاب في فرنسا تحقيقا أوليا ضد عملاق المشروبات "كاستل" الذي بنى معظم ثروته في إفريقيا.
وفي إفريقيا يواجه جميع رواد الأعمال والصناعيين الذين يستثمرون في الدول التي تعيش في حالة من الحرب وضعيات صعبة خلال مزاولتهم أنشطتهم التجارية.
يجد هؤلاء المستثمرون أنفسهم في مواجهة السؤال الشائك: متى يصبح من الضروري عليهم تعليق نشاطهم حتى لا يستسلموا متواطئين مع أفعال المتحاربين؟
تقف اليوم جوهرة صناعية فرنسية أخرى في مرمى العدالة، بعد تأكيد محكمة الاستئناف في باريس خلال مايو/أيار 2022 لائحة الاتهام المتعلقة بـ "التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية" لشركة الإسمنت لافارج.
ولافارج مشتبه في تحويلها في سوريا مبلغ يناهز 13 مليون يورو بين عامي 2013 و2014 لتنظيم الدولة مع جهات أخرى على غرار الجماعات المسلحة والوسطاء.
ميزانية هذه الشركة على المحك والتداعيات الجيوستراتيجية لا يمكن قياسها، وفق ما تقول صحيفة لوموند الفرنسية.
وفتح مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب في فرنسا (PNAT) في 29 يونيو/حزيران، تحقيقا أوليا في نفس التهمة أي "التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية" و"التواطؤ في جرائم حرب".
استهدف التحقيق هذه المرة مجموعة كاستل التجارية بجمهورية إفريقيا الوسطى، رغم أنه لم يجر من قبل تقديم أي شكوى ضد عملاق المشروبات هذا، التي تعد واحدة من أكبر منتجي وتجار النبيذ في العالم.
تشتهر- كاستل- وهي العلامة التجارية المعروفة- في فرنسا بمنتجاتها من قبيل مشروب ليستال أو لا فيلاجواز أو تاجر النبيذ نيكولاس.
وقد بنت معظم ثروتها في إفريقيا تحت زخم رئيسها ومؤسسها بيير كاستل (95 عاما) وهو تاسع أثرى رجل فرنسي - مع عائلته - وفقا لتصنيف 2021 من مجلة تشالينجز challenges.
"ترتيب أمني"
اعتمدت نائبة المدعي العام أوريلي بيليوت من وحدة الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والجرائم التابعة للنيابة الوطنية لمكافحة الإرهاب على استنتاجات تقرير قدمته المنظمة غير الحكومية ذا سانتري The Sentry - التي شارك في تأسيسها الممثل الأميركي جورج كلوني - بعد أيام قليلة من نشره في أغسطس/آب 2021.
وتتهم المنظمة الشركة الإفريقية للسكر في إفريقيا الوسطى (Sucaf RCA)- سوكاف اختصارا- بالتعاون مع مليشيا وحدة السلام في جمهورية إفريقيا الوسطى (UPC). وهذه الأخيرة متورطة في انتهاكات جماعية، تقول صحيفة لوموند.
وسوكاف تابعة لشركة أكبر منها لتنظيم إدارة وتطوير الصناعات الغذائية والزراعية اسمها سومديا (Somdiaa) مملوكة أكثر من 87 بالمئة لمجموعة كاستل.
ترى ذا سنتري، التي جعلت من مهمتها تعقب "الشبكات الدولية المفترسة التي تستفيد من الصراع العنيف والقمع وعمليات النهب"، أن سوكاف "طورت نظاما متطورا وغير رسمي لتمويل المليشيات المسلحة من خلال المدفوعات النقدية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن الدعم العيني في شكل صيانة المركبات وتوريد الوقود".
مقابل "هذا الاتفاق الضمني، تعهد قادة مليشيا وحدة السلام في جمهورية إفريقيا الوسطى بتأمين المصنع الخاص بـ"سوكاف" وحقول قصب السكر التابعة للمصنع الواقعة في قرية نجاكوبو، على بعد أكثر من 400 كيلومتر إلى الشمال الشرقي من بانغي، وضمان حرية الحركة في الطرق الرئيسة اللازمة لتزويد المحطة الصناعية".
ويقال أيضا إن زعماء هذه المليشيا- وهي بالأساس تنظيم سياسي عسكري- قد عملوا على "حماية احتكار الشركة لتوزيع السكر في عدة محافظات في البلاد، ولا سيما من خلال الاستيلاء الإجباري على السكر المهرب".
العلاقة "المربحة للجانبين"- وفقا للمفردات العصرية لعالم الأعمال التجارية- كانت قد بنيت على أرض قد تخلت عنها دولة إفريقيا الوسطى أساسا، حيث تنطوي الإمكانية الوحيدة للحفاظ على نشاط ما على ترتيبات حتمية مع سلطة الأمر الواقع.
هذه السلطات التي غالبا ما تكون ممثلة في أمراء الحرب الذين يرون حماية حقوق الإنسان مفهوما مجردا مثل التقاسم العادل للثروة مع السكان.
السؤال المطروح على الشركات هو متى تنتقل من مرحلة البقاء على قيد الحياة إلى مرحلة التواطؤ؟
توضح الباحثة ناتاليا دخان وتقول إن بعض الشركات في جمهورية إفريقيا الوسطى، اضطرت إلى الدفع للهروب من موجة النهب التي نفذها تحالف سيليكا (تحالف المتمردين الذي تولى السلطة في مارس/آذار 2013 في بانغي والذي انبثقت منه مليشيا وحدة السلام) وذلك لحماية استثماراتهم.
لكن مثل هذا الأمر يصبح غير قانوني عندما يتعلق الأمر بالتعاون الذي يستمر لمدة ست سنوات، وفق قولها.
بدأت التحقيقات التي أجرتها "دخان" مع منظمة ذا سنتري برسم خرائط التغوّل لمختلف الجماعات المسلحة الناشطة في جمهورية إفريقيا الوسطى.
تقول الباحثة في هذا السياق إنه "في إفريقيا الوسطى تحديدا ظهرت كاستل كمصدر لتمويل مليشيا وحدة السلام.
ولكن أيضا لمقاومة مليشيا بالاكا (عدو وحدة السلام)، الناشطة في موقع مصنع سوكاف، وبالتالي كعنصر من عناصر إدامة الصراع".
تُعد مليشيا وحدة السلام، في المشهد العام في جمهورية إفريقيا الوسطى، حالة خاصة الى حد ما.
ظهرت هذه المليشيا رسميا في أكتوبر/تشرين الأول 2014 لكن زعيمها، علي دَرّاسا، كان بالفعل عضوا منتظما في الكفاح المسلح في هذا البلد.
عقيدته الرئيسة الدفاع عن المجتمعات المحلية في الجزء الجنوبي الشرقي من جمهورية إفريقيا الوسطى وحماية ممرات رعي الماشية، وهي مصدر دخل كبير لمليشياته.
"حملة ممنهجة"
يمتدح البعض في إفريقيا الوسطى الحماية الجزئية التي توفرها لهم مليشيا وحدة السلام لكنها أيضا حماية مصحوبة بعنف لا يوصف بالنسبة للبعض الآخر.
كانت هذه المليشيا مسؤولة عن واحدة من أسوأ المذابح التي ارتكبت منذ بداية الصراع في وسط إفريقيا.
في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، هاجم أعضاء تابعون لهذه المليشيا معسكرا للنازحين في ألينداو، والذي عدوه معقلا لمقاتلي جماعة بالاكا.
وكانت النتيجة أن ذُبح هناك المئات من الناس، وجرى محو موقع النزوح من الخريطة وحرقه، وفق صحيفة لوموند.
وتقول: "دخل الموقع في حالة من الفراغ الكلي، وتوجه الناس إلى الأدغال. كان الهجوم سريعا وغير متوقع. كثير ممن ماتوا هم من الأطفال أو المرضى أو كبار السن".
وأردفت: "هرب الذين تمكنوا من الفرار فيما أحرق المهاجمون المخيم ونهبوه، أشعلوا النيران وأطلقوا الذخيرة الحية، لقد كانت غارة ممنهجة، وحدث كل ذلك في وضح النهار".
قال ديودوني نزابالاينجا، رئيس أساقفة بانغي، لاحقا إن قوات حفظ السلام لم تطلق طلقة واحدة وظلت غير فعالة.
قبل يومين من الأحداث، وفقا لتقارير أمنية داخلية لـ "سوكاف" حصلت عليها ذا سنتري، أمضى علي درّاسا وحوالي 60 من أفراد مليشياته إحدى الليالي في موقع الشركة في نجاكوبو، على بعد 95 كيلومترًا من ألينداو، حيث أقاموا هناك مخيمهم العسكري.
وعلى وجه الخصوص، ورد أن موظفي شركة "سوكاف" تلقوا في اليوم السابق للهجوم "طلبًا من علي دراسا لإصلاح إحدى سيارات الدفع الرباعي الخاصة به".
ومن المستحيل إسناد المسؤولية المباشرة عن هذا القتل إلى الشركة، إلا أن الأخيرة، وفقا للمنظمة غير الحكومية، لم تنأ بنفسها عن مليشيا وحدة السلام بعد ذلك.
وذلك على الرغم من أنه يبدو من غير المرجح أنها لم يجر إبلاغها بالانتهاكات المرتكبة من قبل المليشيا. واستمر تحويل المدفوعات النقدية لاثنين من قائدي تلك الجماعة المسلحة.
بالإضافة إلى الحواجز التي لا مفر منها عند مفترقات الطرق، تلقى علي دراسا ما يقرب من 18 مليون فرنك إفريقي (حوالي 27400 يورو) سنويا بين نهاية عام 2014 وبداية عام 2021.
ذراعه السياسي حسن بوبا، الذي انفصل منذ ذلك الحين عن زعيمه ليصبح تابعا مهما لروسيا في جمهورية إفريقيا الوسطى، كان سيحصل على 12 مليون فرنك إفريقي سنويا حتى عام 2019.وتقدر ذا سنتري أن جميع المدفوعات لزعيمي هذه المليشيا تقدر بحوالي 150 مليون فرنك إفريقي.
بناء على الحكم الصادر في 7 سبتمبر/أيلول 2021 عن محكمة النقض فيما يتعلق بقضية لافارج، يرى كليمنس ويت -محامي ذا سنتري- على غرار زميله أنايس سارون، أن "أي شركة تقدم العون أو المساعدة للجماعات المعروفة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية من أجل مواصلة نشاطها الاقتصادي في منطقة نزاع، يمكن مقاضاتها بتهمة التواطؤ".
منذ نشر التقرير في أغسطس 2021 ثم الإعلان في نهاية يونيو عن فتح التحقيق الأولي من قبل مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب في فرنسا، ظلت مجموعة كاستل وفيّة لتقاليدها في التحفظ.
قال مصدر مقرب من المجموعة "نحيط علما أننا سنتعاون مع نظام العدالة الذي أحالنا إليه تحقيقنا الداخلي في 16 مايو". وعينت كاستل مكتب المحاماة "جِيد" بتكلفة تناهز حوالي 2.5 مليون يورو.
يتأسف بيير اوليفييه سور محامي الكسندر فليغرين المدير التنفيذي لشركة سومديا في الوقت الذي حدثت فيه العملية المذكورة ويقول إنه "تمت مراجعة 47000 رسالة بريد إلكتروني، وعقدت 22 جلسة استماع ولم يجر اكتشاف أي شيء غير مقبول".
فكل ما حدث دائما كان خارج موقع سوكاف، وفق قوله. وجرت تنحية فليغرين من منصبه في أبريل/نيسان من قبل رئيس هذه الشركة التي أسسها جده.
ودُفع بحماس نحو الخروج من قبل مجموعة كاستل التي ترغب في تطهير صورتها واستعادة السيطرة على هذا اللاعب التاريخي في صناعة المواد الغذائية في إفريقيا.
بدون سند قانوني
يضيف المحامي- بيير اوليفييه سور- في ذات السياق ويقول إن "عمل ذا سنتري قد اعتمد إلى مجموعتين من الأدلة":
الأول هو تقارير الأمن الداخلي المسروقة، والتي استخلصت منها المنظمة غير الحكومية استنتاجات لا علاقة لها بما جرى التعبير عنه فيها، بالإضافة إلى شهادات مجهولة الهوية يجب رفع هويتها".
"إذا أظهر التحقيق الداخلي حماقة الاتهامات، فإن الادعاء يريد أن يعرف اليوم من ولماذا عملت ذا سنتري، ماذا عن الشهادات المجهولة؟ هل هي حقيقية أساسا؟" يقول المحامي.
وإذا كان الأمر كذلك، ألم يجر التلاعب بهم (حتى شراء ذمتهم)، وهو أمر شائع في الكثير من الحالات في هذه التقارير؟ وهذا ما من شأنه أن يغذي عملنا بالنقض والاستئناف".
في مقابل ذلك، يقول كليمونس وين - أحد محامي ذا سنتري- "يبدو أن ما تقوم به الشركة هو إستراتيجية بلطجة خالصة بدون أساس قانوني".
"إذ إنه يجرى عمدا إخفاء هوية الشهود في هذا النوع من القضايا حيث إن ظهورهم قد يهدد سلامتهم".
ألكسندر فيلغرين استقال أيضا في أبريل من منصبه كرئيس للمجلس الفرنسي للمستثمرين في إفريقيا.
يقول فيلغرين: "إذا عملت سوكاف جنبا إلى جنب مع مليشيا وحدة السلام وكانت متواطئة في جرائم ضد الإنسانية، فإن المنظمات غير الحكومية الموجودة هناك والقوات العسكرية الفرنسية (سانغاريس) والأمم المتحدة (مينوسكا)، والسفارة الفرنسية، التي لا تزال تتلقى تقارير أمنية، قد تتعرض للمقاضاة بسبب عدم الإبلاغ عن تلك الجرائم".
خلال الأيام الأولى لبداية ظهور تحالف سيليكا، بين عامي 2012 و2014، كان علي دراسا في بامباري، المدينة التي سيطر عليها بعد ذلك، وهو محاور ملازم للدبلوماسيين والجنود الفرنسيين.
يقول عنه مصدر فرنسي رسمي كان موجودا في ذلك الوقت في جمهورية إفريقيا الوسطى: "اقتربنا منه بحذر، لكنه وقتها كان جزءا من الحل".
وأردف "كان من الضروري أن نناقش معه نزع سلاح رجاله وإعادة تشغيل مصنع السكر الذي كان مهما للتوظيف في المنطقة".
فتح التحقيق الأولي الآن، وجرى تعيين فريق من المكتب المركزي لمكافحة الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الكراهية في الأيام الأخيرة.
سيكون أحد التحديات الأولى التي يواجهها هذا الفريق هو التحقيق على الأرض، وفق لوموند.
لم يعد موقع سوكاف خاضعا لسيطرة مليشيا وحدة السلام، التي وقع طردها بهجوم مضاد من قبل جنود إفريقيا الوسطى وحلفائهم الروس من مرتزقة فاغنر.
ولم تجر عملية آخر حصاد لمحصول القصب. وأصبح حل الشركة ساري المفعول في 11 يوليو، مما أدى إلى فصل 116 موظفا.
منذ ذلك الحين، جرى توزيع السكر في جمهورية إفريقيا الوسطى، وفقًا لمصادر عديدة، من قبل شبكات التهريب، وشراؤه من الخارج وعدم دفع الأخيرة أي ضريبة للدولة بسبب قربها منها.