"سيد الوقت".. مجلة فرنسية: سعيد يضرب معارضيه بقبضة من حديد وينشر الإحباط
ركز الرئيس التونسي قيس سعيد لمدة تفوق ستة أشهر كل الصلاحيات في يديه بعد أن أقال حكومة هشام المشيشي وعطل عمل البرلمان في 25 يوليو/تموز 2021.
وبعد أن استفاد في البداية من التحيز الإيجابي، يتهم اليوم رائد الديمقراطية المباشرة هذا بالانحراف الاستبدادي، وفق مجلة جون أفريك الفرنسية.
وكان سعيد قد غير بمرسوم بسيط، تاريخ الاحتفال بعيد الثورة يوم أحرق محمد البوعزيزي نفسه سنة 2010 إلى يوم 17 ديسمبر/كانون الأول، بدلا من 14 يناير/كانون الثاني 2011، الذي شهد فرار رئيس النظام الأسبق زين العابدين بن علي.
وكان سعيد قد شبه ذلك اليوم الذي انهار فيه النظام باليوم الذي وقع فيه "إجهاض الثورة".
أعلن قيس سعيد في "سيدي بوزيد"، مدينة محمد البوعزيزي، في 21 سبتمبر/أيلول 2021، بعد ثمانية أسابيع من الجمود السياسي، تنفيذ إجراءات انتقالية لإدارة البلاد.
في اليوم التالي من ذلك الإعلان، صدر المرسوم 117 بعد أن صدق عليه وجعله حيز التنفيذ والذي من خلاله قنن عملية استيلائه على السلطة في 25 يوليو.
إذ تولى حينذاك وبحكم الأمر الواقع جميع الصلاحيات من خلال التذرع بالمادة 80 من الدستور لتأكيد وجود خطر داهم، وبالتالي تجميد مجلس نواب الشعب، وحل حكومة هشام المشيشي التي عينها، وإمكانية الحكم عبر المراسيم الرئاسية.
يعارض قيس سعيد محاوريه الدوليين الذين يخشون أن تنحرف البلاد عن طريق الديمقراطية، من خلال المحاججة بالطوارئ الصحية وحالة التدهور الكبيرة التي كانت تعيشها الطبقة السياسية.
وفي مواجهة اتهامات بالانحراف الاستبدادي، يبرر وجهة نظره بالاستشهاد بمثال الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول والجمهورية الخامسة، دون أن ينسى مونتسكيو (الفيلسوف الفرنسي شارل لوي دي سيكوندا صاحب نظرية فصل السلطات).
بحسب الجدول الزمني المعلن في 13 ديسمبر/كانون الأول 2021، أصبحت حالة الاستثناء في تونس هي القاعدة، على الأقل حتى 17 من ذات الشهر لعام 2022 موعد الانتخابات التشريعية المقبلة.
إذ رفض قيس سعيد حتى ذلك الحين تقديم أي خريطة طريق، بحجة أن هذه الطلبات من الشركاء والمؤسسات الدولية تعتبر شكلا من أشكال التدخل في الشأن التونسي.
فعلى الرغم من استنزاف الموارد المالية العامة، يتباهى قيس سعيد، متحديا صندوق النقد الدولي ووكالات التصنيف الدولية، الذين يعبرون عن شكوكهم بشأن مناخ الأعمال.
وينظر سعيد إلى نفسه على أنه الشخص الوحيد الذي يمتلك كل السلطة بفضل الإجراءات الاستثنائية. وهو أيضا من يختار 17 ديسمبر 2022 موعدا لتنظيم الانتخابات التشريعية.
تماما مثل الاستفتاء الإلكتروني الذي يجب أن يصدق بموجبه التونسيون على الدستور الجديد المقرر في 25 يوليو 2022.
سيد الوقت
صرح أنور عبد الغني من "حركة مواطنون ضد انقلاب 25 يوليو" بالقول إن سعيد "يريد أن يضبط مواعيد الاحتفال بتاريخنا".
وأوضح: "25 يوليو هو يوم الاحتفال بعيد الجمهورية وليس يوما للاحتفال بانقلابه".
ويضيف عبد الغني "عن أي انتخابات تشريعية يتحدث، في الوقت الذي يضع نصب عينيه استبعاد الأحزاب وأي شكل من أشكال المعارضة ومشروعه يرقى إلى مستوى تكوين مجلس نواب بالمحاصصة؟".
يستنكر مراقب الحياة السياسية الذي كان يأمل أن ينتهي قيس سعيد مع انتهاء فترة حكم الإسلاميين (تعطيل البرلمان الذي يرأسه رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي) في 25 يوليو، لكنه أصيب بخيبة أمل في ضوء الكارثة الاقتصادية.
يبدو أن هذا الموقف المتكرر من قبل ساكن قصر قرطاج يستجيب بكل اهتمام لمحو بعض معالم تونس الحديثة ودخول التاريخ كأب مؤسس.
بالمثل، يريد أن يظهر في مجمع بناة عظماء من خلال اقتراح إقامة مدينة مكرسة للصحة في القيروان (وسط تونس) ومدينة أخرى خاصة بالثوار من خلال إعادة إحياء هذه الفكرة واستخلاصها من التيارات الأيديولوجية التي حركت الجامعة في السبعينيات، أي فكرة الديمقراطية المباشرة.
يستوحي سعيد أفكاره أيضا من نظام اللجان الشعبية الذي أنشأه رئيس النظام الليبي الأسبق معمر القذافي ومبادئ الحركة البلدية المستمدة من التروتسكية (تيار في النظرية الشيوعية).
يميل قيس سعيد نحو المزج بين الديمقراطية والقاعدية، التي تفهم على أنها قوة مجتمعية تديرها قوى المجتمع.
يعلق عضو سابق في البرلمان بالقول إن ما يفعله سعيد "انحراف شعبوي".
وكان سعيد قد أوضح قبل حملته الانتخابية بإعلان ترشحه في صفحات مجلة جون أفريك في أكتوبر/تشرين الأول 2018، مبادئ هذا النظام.
وتقول المجلة: "يجب أن نعكس الاتجاه بإعادة التنظيم السياسي والإداري الشامل لهرم السلطة والانتقال من المحلي إلى الإقليمي لتجميع التوقعات والإرادة المختلفة".
قال سعيد حينها إن "المجالس المحلية التي يرعى أعضاءها ناخبون ونساء سيجري انتخابهم بالاقتراع العام بعد جولتين من الاقتراع الفردي".
وسيجلس هؤلاء في كل مجلس محلي للتعرف على برامج التنمية المحلية. وستكون ولايتهم على أساس التمثيل، قابلة للإلغاء.
وستعرض المشاريع على المجلس الإقليمي المنبثق عن المجالس المحلية والذي يشارك فيه أيضا مدراء جهويين من الإدارات المركزية.
وهكذا، فإن خطة التنمية الإقليمية ستلخص المشاريع المختلفة التي جرى إعدادها على المستوى المحلي، مع بيئة العمل القائمة على خلق الإنجازات.
سيكون لكل مجلس إقليمي ممثله في البرلمان وسيسمح تناوب الأعضاء في المجالس الإقليمية بضبط النفس للحماية من الفساد والتجاوزات.
منذ انتخابه لم يعد قط إلى هذه الأفكار وهذا النظام الذي تحدث عنه، مكتفيا بطرح شعاره "الشعب يريد".
كان بإمكان سعيد وهو الأستاذ المتقاعد الذي عرف عنه كثرة الصمت رغم أنه "لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة" تقديم مشروعه إلى البرلمان في شكل مبادرة قانونية، وفق المجلة الفرنسية.
لكن بدون دعم الأحزاب وصلاحيات محدودة بصفته رئيسا في ظل نظام برلماني، ترك ذلك الخيار الذي كان سيفشل على الأغلب وفضل انتظار اللحظة المناسبة للخروج من الغابة.
دورة الحياة
أخيرا، لم يفعل قيس سعيد شيئا لم يذكره من قبل في جون أفريك: "بمجرد أن أتولى رئاسة الدولة، سأخاطب الشعب التونسي لأطلب مراجعة القانون الأساسي".
لكنه حتى ذلك الحين، لم يتطرق قط إلى شروط هذا الإصلاح الشامل أو يعلن عن رغبته في الذهاب إلى حد تحدي الدستور الذي أقسم على احترامه والذي سمح له بالانتخاب.
لا يبدو أن أنصاره قد تأثروا، لكن أمين محفوظ أستاذ القانون الدستوري وعضو لجنة الدستوريين المكلفة بالقانون الأساسي القادم يؤكد أنه "لن يدعم مشروعا لا يوطد مبادئ دولة القانون والحريات".
تونس لم تصل إلى ذلك الحد بعد، لكن يتساءل كثيرون عن مدى محافظتها على إنجازاتها الديمقراطية وفائدة مراجعة الدستور بأكمله وعن تكلفة هذه الاضطرابات السياسية، وملاحظة الابتعاد عن جميع الهيئات الوسيطة من قبل الرئيس ومن خلال الحكومة.
وهكذا دعت رئيسة الحكومة نجلاء بودن وزراءها إلى الأمر بإخطارهم، في منتصف ديسمبر، أن المناقشات مع المراكز النقابية ستتم عبر مصالح رئاسة الوزراء وليس ثنائيا بعد الآن.
وهي وسيلة تعتقد المجلة أن هدفها تكريس المركزية في دوائر صنع القرار عن طريق مركزة القرارات وتجاهل القنوات القطاعية.
كما نصحتهم بودن بضرورة إخضاع الاتصالات مع وسائل الإعلام التي أصبحت نادرة، من قبل كل دائرة لموافقة مصالح الإعلام والتواصل في رئاسة الوزراء في القصبة.
في حين أن المشاكل الاقتصادية التي ابتليت بها البلاد يجب أن تكون من بين أولويات السلطة التنفيذية، تقول المجلة.
فريق نجلاء بودن الذي يعمل تحت السيطرة المباشرة لقرطاج (قيس سعيد)، ليس لديه مساحة كبيرة للمناورة.وعندما تعمل السلطة ضد الفساد والمضاربة، يجب أن تضع نظاما تقييديا بشكل خاص، وهو علاج يمكن أن يكون أسوأ من المرض، بحسب جون أفريك.
وهناك أمور عبثية مثيرة للقلق مثل حظر السفر بدون تصريح لرجال الأعمال والسياسيين وتوقيف وزير العدل الأسبق نور الدين البحيري دون أي إجراء، وخفض أسعار المواد الغذائية بقرار من الرئيس.
يفكك أحد المحللين هذا الوضع وهو يخشى من أن مطاردة الفساد وسوء التصرف في المكاسب المحققة التي يحاول سعيد إنجازها تتسبب في أخطاء جسيمة في تطبيق العدالة وفي خلق مآسي جمة.
إذ "تشكل الإقامة الجبرية والحظر غير المبرر لمغادرة البلاد، وكذلك الاعتقالات على أساس الاشتباه، شكلا من أشكال الاستبداد والتعسف ونزعة قاتلة للحريات".
الرئيس الذي يتوقع تحفيز ديناميكية اقتصادية من خلال استعادة المكاسب غير المشروعة، لا يشرح كيف سيحدد هذه الأموال أو ما هي الآليات التي سيطالب بتعويضها وتخصيصها.
قبضة من حديد
منذ توليه السلطة على غرار الانقلاب الذي وقع الاعتراف به يوما بعد يوم، اتهم الرئيس العديد من التونسيين بالاختلاس، لكنه لم يتمكن من تقديم ملف موثق حسب الأصول القانونية.
وهو وضع مقلق، بحسب الصحيفة، في الوقت الذي أظهر فيه قيس سعيد، رغبته في تحقيق العدالة في خلال فترة حكمه وتصميمه على حل المجلس الأعلى للقضاء الذي يرفض الانصياع لمطالبه.
مثل الآخرين، يجب أن يسقط هذا الجهاز الدستوري المتمرد على جانب الطريق في النظام الجديد كما يتخيله الرئيس الذي لا يتصور وجود هياكل للرقابة، ناهيك عن الضوابط والتوازنات.
وتتابع المجلة: "بدأ القلق شيئا فشيئا، فالبلاد على مفترق طرق لكنها منقسمة لدرجة أنه يبدو من المستحيل رؤية جبهة سياسية تستعيد التوازن وتشكل قوة اقتراح لكسر الجمود."
أنصار المرشح قيس سعيد الذين طالبوا بالصبر، غارقون الآن في غياب الإنجازات الملموسة.
وأشاروا إلى أنه لم يجر التخطيط لأي شيء على المستوى الاقتصادي باستثناء مشروع لا يزال غامضا للشركات الشعبية الجماعية المسؤولة عن قيادة التنمية الإقليمية.
لم يجر اتخاذ أي مبادرة لوضع حد للاقتصاد الريعي والإدارة القديمة التي ابتليت بها البلاد.
بين عدم الدقة وخريطة الطريق التي تحدد فقط المراحل الأولى من إصلاح النظام، يعتقد التونسيون أنه لم يجر الاستماع إليهم حتى لو كان لا بد من إجراء استشارة عن بعد منذ يناير/كانون الثاني لجمع مقترحاتهم.
يأسف سائق تونسي يتذكر قيس سعيد المليء بالتعاطف مع الشعب التونسي والذي احتضن كل الأشخاص الذين غابت عنهم المشاريع التنموية ويقول "لقد صوت له ولكني لم أصل إلى ما أريد بعد" .
كانت تحركات سعيد في 25 يوليو جيدة لطبقة سياسية ابتليت بالنزاعات الحزبية والفساد. لكن ذلك كان في زمن قد ولى، فهو يضرب بقبضة من حديد في وجه الخصوم والمعارضين السياسيين.
كما أنه ينشر خطابا انتيابيا وأحيانا عنيفا، بل وحتى تهديدا ولا يتوقف أبدا عن إدانة المؤامرات التي نسجها سديم الخونة لتونس.
بدأ الانقسام ينشأ تدريجيا بين من يؤيدون الرئيس وأولئك الذين لا يستحقون أن يطلق عليهم اسم أبناء البلد.
أصبح المرشح الذي شرع في تلبية رغبات الشعب رئيسًا معزولا بشكل متزايد ينفذ خطته لإصلاح الدولة.
يلخص خريج عاطل عن العمل يشعر بالسخط أن الرئيس لا يطبق القانون 38 بشأن التوظيف في الخدمة العامة للخريجين الباحثين عن وظيفة، والذي كان قد صدق قبل 25 يوليو، إلا أنه تنكر له بعده.
ويوضح هذا الخريج: "الناس يريدون العمل والعيش بكرامة والقدرة على الاعتناء بأنفسهم والحصول على ما يكفي من الطعام".
وأردف: "ما يحدث مع قيس سعيد هو خيبة أمل لا يوشك الشباب على نسيانها".
ويخلص إلى أن الرئيس "مضلل"، وبدلا من أن يكون جالبا لحلول المشاكل الاقتصادية فهو يريد أن يفرض رؤيته دون أن يفهم أن مطالبنا مختلفة تماما، وفق قوله.