انقسام رسمي.. كيف ساهم ماكرون في تفتيت وحدة الاتحادات الإسلامية بفرنسا؟

إسماعيل يوسف | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

خلافات وانقسامات مريرة تشهدها الجالية المسلمة في فرنسا منذ فرض الرئيس إيمانويل ماكرون تشكيل "مجلس وطني للأئمة"، في خطوة تسببت بشقاق بين مسجد باريس الكبير و3 منظمات من جهة، والمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية من جهة أخرى.

وأعلن "المجلس الفرنسي" نيته تشكيل التكتل الجديد للأئمة نهاية العام 2021، استجابة لخطة ماكرون الهادفة لبسط سيطرته على المساجد.

وبعدها، بادر مسجد باريس وثلاثة اتحادات إسلامية بتأسيس مجلس آخر للأئمة في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2021. 

يتألف المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية من تسعة اتحادات تمثل توجهات مختلفة (غالبيته من الجزائر والمغرب وتركيا وإفريقيا)، وكان هو المحاور الرئيس للسلطات بشأن مسائل تتعلق بالمسلمين في فرنسا.

الآن خرجت منه 4 اتحادات وتنوي تشكيل إطار جديد يعبر عن مسلمي فرنسا لرفضهم "ميثاقا" أصدره "المجلس" الحكومي بطلب من ماكرون، تضمن تنازلات وقبولا ضمنيا لاتهام المسلمين هناك بالإرهاب والتمويل من الخارج.

ترتب على ذلك انقسام وانشقاقات مستمرة وقعت في أوساط الجالية المسلمة، يحمل مراقبون مسؤوليتها لقانون ماكرون، وضغوط حكومته على المسلمين رغم أنهم ثاني أكبر أقلية دينية تقدر بحوالي 6 ملايين نسمة.

تفاصيل الأزمة 

تزايدت الضغوط على الهيئات الإسلامية إثر اغتيال مدرس فرنسي عرض على تلاميذه صورا كاريكاتورية ساخرة للنبي محمد 16 أكتوبر/تشرين الأول 2020 على يد مسلم.

كما تعمق الأمر بعدها بأسبوعين إثر مقتل 3 أشخاص في هجوم آخر على كنيسة نوتردام في مدينة نيس.

برغم وقوع أحداث عنف ضد المسلمين أيضا من جانب متطرفين فرنسيين، وطعن فتاتين محجبتين في ساحة برج إيفل في اليوم التالي لهجوم كنيسة نيس، ظل الرئيس الفرنسي يصف الإسلام بـ"الإرهاب".

دفع هذا شيخ الأزهر أحمد الطيب لانتقاد "الازدواجية في التعامل مع الحوادث الإرهابية طبقا لديانة الجاني"، ووصف موقف فرنسا بأنه "مخز ومعيب".

قبل هذه الحوادث أعلن ماكرون أنه سيحارب ما أسماه "الانعزال الإسلامي" في فرنسا على خلفية هجمات على عاملين في مجلة "شارلي إيبدو" التي تنشر كاريكاتيرات ساخرة من النبي محمد، وتحدث عن "نسخة فرنسية" يريدها من الإسلام.

خطط ماكرون للدفاع عما يسميها "القيم العلمانية" ومحاربة ما زعم أنه "مجتمع (إسلامي) مضاد" في مواجهة مسلمي فرنسا، تضمنت فرض رقابة صارمة على التعليم، والسيطرة على تبرعات وتمويل المساجد، ومراقبة الأئمة.

طالب ماكرون المسلمين 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 بوضع "ميثاق للقيم الجمهورية" يلتزمون به عبر المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية كمعبر عنهم.

بسبب ضغوط ماكرون، أعلن ممثلو "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية"، (تأسس 2003)، في 16 يناير/كانون الثاني 2021 أنه سيضع هذا "الميثاق" لمسلمي فرنسا.

البيان الصادر عن المجلس أكد أن الميثاق سيؤكد "توافق الشريعة الإسلامية مع مبادئ الجمهورية الفرنسية، ورفض توظيف الإسلام لغايات سياسية، ومنع تدخل دول خارجية في شعائر المسلمين في فرنسا"، وفق تعبيره.

إضافة إلى "الإقرار بمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، ورفض بعض الممارسات العرفية" التي يزعم أنها إسلامية.

لكن ذلك الميثاق تسبب بأزمة حادة داخل المجلس الذي يمثل مسلمي فرنسا، ورفضه عميد مسجد باريس، المحامي الجزائري شمس الدين حفيظ، وانسحب من النقاشات حوله كما اعترض على فكرة "المجلس الوطني للأئمة".

دعمت ثلاث هيئات منضوية في المجلس الفرنسي موقف مسجد باريس، وأعلنت في 21 يناير/كانون الثاني 2021 رفضها توقيع "ميثاق" مبادئ تنظيم شؤون مسلمي فرنسا، معتبرة أن بعض بنوده تظهر المسلمين ضمنا كإرهابيين.

أصدرت الهيئات الثلاث وهي "اللجنة التنسيقية للمسلمين الأتراك في فرنسا"، و"الاتحاد الإسلامي مللي غوروش"، وحركة "إيمان وممارسة" بيانا مشتركا نددت فيه بفقرات وصياغات في النص.

قالت في بيان إن بعض المواد "تمس شرف المسلمين ولها طابع اتهامي وتهميشي"، وأبدت اعتراضها على تعريفي "التدخلات الخارجية" و"الإسلام السياسي".

وهو ما ورد في المادة السادسة من "ميثاق مبادئ الإسلام والجمهورية" التي أثارت جدلا واسعا داخل المجلس، ودفعت الاتحادات الثلاثة داخله لرفض التوقيع عليه.

وتشير هذه المادة إلى "مكافحة أي شكل من أشكال استعمال الإسلام لأغراض سياسية أو أيديولوجية، ورفض المشاركة في أي نهج يروج للإسلام السياسي"، وإدانة استخدام أماكن العبادة لنشر الخطاب السياسي أو الصراعات الخارجية.

انقسام رسمي

في فبراير/شباط 2021 بدأ المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ترتيبات إعلان "المجلس الوطني للأئمة"، وسط الانقسامات الداخلية الحادة ورفض منظمات داخل المجلس مطالب ماكرون.

قيل إن "هدف مجلس الأئمة منح الاعتماد للأئمة والخطباء والدعاة وتدريب الأئمة في فرنسا على التوافق مع واقع المسلمين في البيئة الفرنسية واحترام قوانين الدولة، ومنع التطرف".

تولي "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" مسؤولية تشكيل "مجلس الأئمة" يقابل برفض كثير من المسلمين.

"أكثر من 1000 من بين 2600 مسجد في فرنسا لم يشاركوا في الانتخابات الأخيرة لاختيار المجلس"، بحسب "طارق أوبرو" إمام مسجد الهدى في بوردو في مقال نشرته له بصحيفة "لوموند" الفرنسية 9 ديسمبر/كانون الأول 2020.

الصراع حول الإشراف على مجلس الأئمة جاء في أعقاب إعلان الرئيس الفرنسي 18 فبراير/شباط 2020 سعيه لمنع استقدام أئمة من خارج فرنسا، وتأكيد وزير داخليته السابق كريستوف كاستانير في اليوم التالي إنهاء برنامج "الأئمة المستقدمين" عام 2024.

ولحظر جمع بيانات على أسس عرقية أو دينية، من المستحيل تقريبا إحصاء عدد الأئمة في فرنسا.

آخر تقديرات متاحة من وزارة الداخلية تعود لعام 2012، والتي قالت فيها إن عدد المساجد في فرنسا حوالي 2,500 مسجد، وآخر تقرير صادر عن مجلس الشيوخ، عام 2016، يقول إن العدد يقترب من ثلاثة آلاف.

مع هذا تؤكد هيئات ومنظمات إسلامية أن العدد أكبر من ذلك، وهناك أماكن عبادة أخرى في الطوابق السفلية للعمارات السكنية.

ومثلما تتحدث السلطات الفرنسية عن وجود عدد أئمة مساو لعدد المساجد، وتزعم استقدام 300 إمام من الخارج سنويا، يؤكد المسلمون أن هناك الكثير من المساجد الصغيرة خصوصا بلا أئمة مخصصين ويقوم بالإمامة أحد سكان المنطقة غالبا.

بحسب تقرير مجلس الشيوخ الفرنسي السابق، يوجد في فرنسا حوالي ألفي إمام، بينهم قرابة 150 من تركيا، و120 من الجزائر و30 من المغرب.

هذه الخلافات داخل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية حول تشكيل مجلس الأئمة ومن قبل حول "الميثاق والجمهورية"، انتهت بانشقاق علني رسمي بعدما كان داخليا.

4 اتحادات أعضاء بالمجلس أعلنت انسحابها النهائي منه في 22 مارس/آذار 2021، وتأسيسها "تنسيقية جديدة" تمثل المسلمين في البلاد.

الاتحادات الأربعة، وهي: الجامع الكبير بباريس و"اتحاد المنظمات الإسلامية" (مقرب من جماعة الإخوان المسلمين) واتحاد "تجمع مسلمي فرنسا" (مقرب من إسلاميي المغرب) و"الاتحاد الفرنسي للجمعيات الإسلامية لإفريقيا".

أكدت في بيان انسحابها احتجاجها على رضوخ قيادة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية لشروط وضغوط ماكرون، وأنها تفكر في "إعادة تأسيس تمثيل الدين الإسلامي في فرنسا لخدمة المسلمين بشكل أفضل".

ودعت الاتحادات الأربعة "جميع المسؤولين عن دور العبادة والمساجد إلى المشاركة بنشاط في هذا العمل المعمق، الذي سيسمح بظهور هيكل تمثيلي للعبادة الإسلامية قادر على تلبية تطلعات وطموحات المسلمين في فرنسا".

سلط إنشاء "المجلس الوطني للأئمة" الضوء أكثر على الانقسامات بين مسجد باريس الكبير والجمعيات الداعمة لموقفه، و"المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" الذي ينظم شؤون عبادة المسلمين في فرنسا.

"المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" احتج على هذه الخطوة وأعلن في بيان أنه كان يعتزم إعلان إنشاء هذا المجلس للأئمة من جانبه.

وصف رئيس "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" محمد موسوي المبادرة بأنها "سطو على العمل المنجز برعاية المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية"، وأعلن بدوره إنشاء "مجلس وطني للأئمة" آخر في 12 ديسمبر/كانون الأول 2021.

أصدر "اتحاد مسلمي فرنسا" الذي يتحالف مع مسجد باريس ومنظمات أخرى رافضة لسيطرة ماكرون على المسلمين بيانا ينتقد ما يشاع عن أنه يمثل "الإخوان المسلمين"، واعتبر هذا "افتراء وهراء".

أكد في بيان 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2021: "نحن منخرطون بشكل كامل في مشاريع مختلفة لتأسيس وتعزيز إسلام أصيل ومنفتح وروحي وسلمي، ونعمل مع جميع من لديهم نفس النوايا، والمسجد الكبير في باريس شريك مهم لنا".

مستقبل الجالية

كان من الواضح منذ بداية الأزمة أن "ماكرون" يسعى لدين على مقاس فرنسا، أو "إسلام فرنسي" على غرار دعوات مشابهة في ألمانيا والولايات المتحدة.

ولأن باريس كانت تحاول أن يكون لها "إسلامها الخاص"، عبر مجلس الديانة الإسلامية الرسمي (CFCM)، فقد رفضت الاتحادات الإسلامية الأربعة قبول هذا الإذعان في الدين، وسط مخاوف من لعب فرنسا بورقة الانقسام بين المسلمين.

ترغب باريس أن تتولى بنفسها تكوين مجلس الأئمة، بما يتفق مع قيمها العلمانية، بدلا من أن تتولى الدول ذات الجاليات الكبيرة مثل الجزائر والمغرب وتركيا وتونس إرسال أئمتها إلى فرنسا خاصة في شهر رمضان.

صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية قالت إن هدف قانون ماكرون هو "إغلاق أي جمعية إسلامية يرى أنها تنشر أفكارا تحرض على الكراهية أو العنف"، وإجبار المنظمات الإسلامية على استخراج تصاريح حكومية كل 5 سنوات، ومراجعة حساباتها سنويا.

أوضحت الصحيفة 22 يوليو/تموز 2021 أن "ماكرون يريد منع أي تمويل أجنبي لمسلمي فرنسا، لذلك أغلق بالفعل مساجد بعد التضييق على حصولها على تمويل، وأجبر مساجد أخرى على التخلي عن تبرعات خارجية بملايين الدولارات".

صحف فرنسية اعتبرت ما يفعله ماكرون من تضييق على المسلمين ليس سوى "دعاية انتخابية"، في ظل ارتفاع أسهم الهجوم على الإسلام في فرنسا واعتبار غالبية المرشحين ذلك أحد أساليب جمع أصوات الناخبين في مجتمع يعادي المسلمين.

الاتحادات والقوى الإسلامية التي عارضت مبادئ "ميثاق ماكرون" المفروض على المسلمين، وكذا اتحاد أئمة على مقاس باريس، اعتبرت أن الهدف مصادرة حرية المسلمين في المعتقد و"شرعنة" العنصرية ضدهم.

قالت إن الرئيس الفرنسي قدم الدليل على ذلك حين أعلن في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2020 تأييد الرئيس الرسوم المسيئة للنبي، وقال: "لن تتخلى عنها".

هذا العداء كان واضحا فيما يسمى قانون "مبادئ تعزيز احترام قيم الجمهورية" المثير للجدل، الذي أقره البرلمان الفرنسي بشكل نهائي يوليو/تموز 2021، والذي سمي في البداية باسم "مكافحة الإسلام الانفصالي".

بموجب القانون الجديد، تصل عقوبة من يدان بجريمة "الانفصالية" الهلامية إلى السجن 5 سنوات، وغرامات تصل إلى 75 ألف يورو لمن يرفضون اتباع القواعد التي تحكم "الخدمات العامة الفرنسية".

هذا القانون معناه مثلا سجن أي سيدة مسلمة ترفض الكشف لدى طبيب فرنسي غير مسلم أو العكس، أو رفض المسلمين فكرة تعري الفرنسيين أو الشذوذ والعلمانية بما فيها التهجم على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرسوم الكارتونية.

بعد مغازلة أصوات المسلمين في رئاسيات 2017، وفوزه بدعمهم، يسعى الرئيس الفرنسي لجعل عدائه للإسلام وقودا لحملته الانتخابية في فبراير/شباط 2022 في ظل تنافس كافة مرشحي الرئاسة على لقب "الأكثر عداء للمسلمين" هذه المرة.

صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية قالت إن هذه "الأزمة الجديدة" عقب الشقاق الحاصل بين الاتحادات الممثلة لمسلمي البلاد حول تأسيس "المجلس الوطني للأئمة" سببها قانون ماكرون لمحاربة ما يسمى "الانعزالية الإسلامية".

أكدت في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 أن فرضه تأسيس مجلس للأئمة وفق شروط فرنسية هو سبب الشقاق الحاصل بين الاتحادات الممثلة لمسلمي البلاد.

تطرقت لوفيجارو إلى وجود انقسامات في صفوف الاتحادات الممثلة لمسلمي فرنسا، متحدثة عن "حرب بين الأشقاء"، وتوقعت "أن نشهد تمزقا جديدا بسبب المجلس الوطني للأئمة الذي تريده حكومة ماكرون للتحكم في المساجد".

ألمحت إلى أن سعي كل طرف مسلم لإنشاء مجلس للأئمة قد يدفع حكومة فرنسا للصدام مع الرافضين لميثاقها، خاصة أنه يجري تصنيف انتماء بعضهم لجماعة الإخوان وحزب العدالة المغربي الإسلامي، بحسب زعمها.