نموذج لإدارة السيسي.. القصة الكاملة لقضية الفساد في وزارة الصحة المصرية
أحداث سريعة ومتلاحقة، وسط تعتيم مريب من النظام المصري تشير إلى ملف "فساد خطير" داخل وزارة الصحة، أطرافه قيادات كبيرة بالوزارة ومدير مكتب الوزيرة، بل والوزيرة نفسها والتي جرى سماع أقوالها قبل انهيارها وتعرضها لأزمة صحية حادة.
الأحداث بدأت بـ"خبر خاص" عن نقل وزيرة الصحة هالة زايد (54 سنة) فجر 26 أكتوبر/تشرين الأول 2021، للعناية المركزة بمستشفى "وادي النيل" في القاهرة، بعد ارتفاع حاد للضغط أدى لارتشاح بالمخ.
أزمة الوزيرة جرت بعد ساعات من عودتها إلى مكتبها عقب مشاركتها في حفل تخرج الكليات العسكرية الذي حضره رئيس النظام عبد الفتاح السيسي، ولذلك فإن الأزمة الصحية التي تعرضت لها زايد، لم تكن مقنعة للكثيرين وأثيرت التساؤلات عن أسبابها.
معالم القضية
بعد ساعات من دخول الوزيرة المستشفى، تكشفت بعض معالم القصة، حيث نشر موقع صحيفة "الأسبوع" الذي يرأس تحريره الصحفي والبرلماني مصطفى بكري خبرا مساء 26 أكتوبر/تشرين الأول 2021، بعنوان "القبض على مدير مكتب وزير الصحة وآخرين (تفاصيل كاملة)".
وأكد الخبر أن "جهاز الرقابة الإدارية" الذي يحظى بدعم السيسي ويعمل فيه نجله الأكبر مصطفى، قام بتوقيف 5 مسؤولين بالوزارة، بينهم مدير مكتب وزيرة الصحة وفي حضورها بتهم الفساد المالي والرشوة في قضية تتابعها الرقابة المالية لنحو شهر.
ووفق "الأسبوع" فإنه من بين الذين جرى توقيفهم مدير "إدارة العلاج الحر" بالوزارة وثلاثة مسؤولين في إدارته، بجانب مسؤول عن لقاحات فيروس "كورونا"، وذلك بتهم تلقي "رشاوى مالية وفساد مالي إداري والإضرار العمدي بالمال العام".
وأكد الموقع أنه منذ ما يقرب من شهرين جرى توقيف أحد أعضاء "إدارة العلاج الحر"، مسؤولة عن تفتيش العيادات والمستشفيات الخاصة وإعطائها تراخيص العمل، بتهم فساد، وتوقع أن يكون ما جرى من عمليات توقيف في إطار هذه القضية.
إلا أن خبر "الأسبوع" جرى حذفه بعد ساعة تقريبا من نشره، ما أثار الكثير من الجدل، خاصة في ظل حالة التجاهل الإعلامي للواقعة التي تمس مكتب وزيرة من إحدى أكثر المقربين من السيسي الذي أسند لزايد المنصب في يونيو/حزيران 2018، وسط انتقادات حادة واتهامات لها بقلة الخبرة.
ووفق مصادر لموقع "العربي الجديد"، فإن "القضية تدور أحداثها عن إرساء تعاقدات بالمخالفة للقانون مع عدد من المستشفيات والشركات الخاصة، وأن المتهم الأول في القضية، وهو سكرتير مكتب الوزيرة (أحمد سلامة)، طلب رشاوى وجرى التسجيل له من قبل الرقابة الإدارية".
المصادر أوضحت أن الموقوفين من "إدارة العلاج الحر" جرت متابعتهم من قبل الرقابة الإدارية، بالإضافة إلى المسؤول عن لقاحات كورونا، و"جميعهم تم إثبات تهم الفساد ضدهم بالأوراق والمستندات".
وقال رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام "تكامل مصر"، الباحث مصطفى خضري: "لا أحد يعلم يقينا ما جرى بوزارة الصحة، ولكن تورط رئيس إدارة العلاج الحر والتراخيص ومكتب الوزيرة في الأمر، وفق صحف محسوبة على النظام، له دلالة خطيرة".
وأضاف لـ"الاستقلال": "ربما يكون له علاقة بقضايا فساد متعلقة بصفقات الاستحواذ الأخيرة على عدة مؤسسات طبية كبرى قام بها مستثمرون تابعون للنظام الإماراتي، تعدت قيمها 50 مليار جنيه (32 مليون دولار) وتمت في ظل عدم الشفافية ومخالفة لقوانين منع الاحتكار بمصر".
تلك الاحتمالات تتزامن مع ادعاء نشطاء وأطباء وصحفيين بمواقع التواصل الاجتماعي بتلقي الوزيرة سيارة "BMW" من رئيس قسم التأمين الصحي، محمد ضاحي أحد الموقوفين، وأن مدير مكتبها أقر بذلك في التحقيقات.
ورغم الجدل الكبير في قضية رشوة وزارة الصحة ومع فرض السلطات "التعتيم الإعلامي" خرج بيان من مكتب النائب العام في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2021، ليكشف عن وجود تحقيقات مع بعض المسؤولين دون أن يذكر أسماءهم أو مناصبهم أو علاقة الوزيرة بالقضية أو نوع المخالفات التي ضبطتها "الرقابة الإدارية".
لكن الأحداث تسارعت بشكل لافت وأخذت منحى آخر، إذ إنه بعد مغادرة الوزيرة المستشفى بيومين، أصدر رئيس الوزراء مصطفى مدبولي تكليفا لوزير التعليم العالي خالد عبد الغفار بمباشرة مهامها في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2021، معلنا أن الوزيرة في "إجازة مرضية".
تعتيم مريب
فرض النظام حالة من التعتيم على أحداث القضية أثار غضب المصريين، إذ تساءل نائب رئيس تحرير "الأهرام" الأسبق أسامة الألفي: "لمصلحة من التعتيم على فضيحة الرشوة بوزارة الصحة، فعملها مرتبط بصحة المواطن، والتعتيم يوجد بلبلة بين الذين يعالجون في مستشفياتها؟".
عضو مجلس نقابة الأطباء سابقا الطبيب محمد فتوح عوض، أشار إلى أن حالة التعتيم هذه لعدم إحراج الحكومة والوزيرة المقربة من السيسي، منتقدا عبر "فيسبوك"، أسس النظام في تعيين القيادات الحكومية الخاضعة للتقارير الأمنية عن التوجه السياسي.
ولفت إلى أنه بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، كانت هناك تقارير من منظمات مجتمع مدني وجهات مستقلة أكدت أن تكلفة الفساد في وزارة الصحة يصل لـ30 بالمئة من ميزانية الوزارة.
ويعتقد الباحث خضري، أن "إصرار النظام على التعتيم الإعلامي على قضية فساد وزارة الصحة، طبيعي، خاصة وأنها تمس قيادات عليا بالحكومة، وربما كان من تم القبض عليهم، هم فقط رأس الجبل الجليدي المختفي بمحيط الفساد".
الخبير المصري في التحليل المعلوماتي وقياس الرأي العام يضيف لـ"الاستقلال"، "وربما يسبب الإعلان عن التفاصيل؛ حرجا لجهات ما بمصر وخارجها، ولذلك تفضل الأجهزة القضائية؛ التحفظ في الإعلان عن تفاصيل تلك القضايا حتى تتضح الرؤية".
وأكد أن التعتيم على فضيحة رشوة بوزارة عملها مرتبط بصحة المواطن أمر مرفوض، متسائلا: "ومنذ متى كانت صحة المواطن محل اهتمام نظام يتعامل مع احتياجاته الأساسية من مأكل وملبس وعلاج وتعليم، بأسلوب التاجر اليهودي، يبيع أردأ المنتجات بأعلى الأسعار بالغش والخداع".
ويوافقه الرأي الباحث والكاتب الصحفي محمد فخري،بالقول إن "التعتيم على قضايا الفساد والفشل ومحاولة إخراجها مخابراتيا على خلاف الواقع، يكشف حجم الهوة بين النظام والشارع، ويكشف مدى نضج النظام الذي يقاس بمدى احترامه لعقل المواطن".
وأوضح خيري لـ"الاستقلال"، أننا "أمام قضية فساد مسؤولين كبار بالوزارة وعلى رأسهم الوزيرة؛ لأن النظام وخجلا من اختياراته ودعمه غير المحدود للوزيرة رغم انعدام كفاءتها أعلن نقلها للعناية المركزة ثم خروجها من المستشفى، ثم مواراتها، وذلك مع تحقيقات قضية فساد أزكمت رائحتها الأنوف".
ويرى أن "التعتيم مرجعه مصلحة نظام احتفظ بالوزيرة رغم اتهامات الفشل وانعدام الكفاءة التي أدت لانهيار المنظومة الصحية المتردية، وما لحق ذلك من انهيار العنايات المركزة وقت تفشي كورونا، وعلاج الكوارث المتلاحقة بتجريم التصوير بالمنشآت الطبية".
فساد بلا حدود
لم ينس المصريون أن السيسي أقال وسجن رئيس الجهاز المركزي للإحصاء المستشار هشام جنينة، عندما قال في حوار صحفي لموقع "اليوم السابع" في مارس/آذار 2016، إن الفساد في مصر عام 2015 –العام الثاني من حكمه- بلغ 600 مليار جنيه (نحو 380 مليون دولار).
ورغم أن السيسي، أطلق الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد (2019-2022) خلال فعاليات منتدى إفريقيا 2018، إلا أن مصر حلت بالمركز 117 بين 180 دولة في مؤشر "مدركات الفساد العالمي" لعام 2020، والذي يركز على المستويات المدركة لفساد القطاع العام.
بيان المنظمة الصادر في يناير/كانون الثاني 2021، أعرب عن القلق من فساد القطاع الصحي خاصة في ظل مواجهة جائحة كورونا، داعيا الحكومات لمساءلة مؤسسات الدولة، وجعل المشتريات الحكومية أكثر شفافية.
وكشف تقرير وحدة التحليل الإحصائي بالنيابة الإدارية، في أكتوبر/تشرين الأول 2017، تزايد المخالفات بقطاع الصحة عام 2016، إذ بلغ إجمالي عدد قضايا الفساد 15 ألفا و81 قضية.
وفي السياق، أكد رئيس "تكامل مصر"، خضري أنه "برغم أن الصحة أخطر الملفات المصيرية، إلا أن النظام لا يتورع عن المتاجرة بآلام المواطنين بشعارات كاذبة، ووعود وهمية، بل يضطهد الأطباء أحد الثروات الإستراتيجية، لتصبح مصر أكبر دول المنطقة الطاردة للكفاءات الطبية".
ويجزم، بأن قضية وزارة الصحة مؤشر على ما تشهده مصر من عمليات فساد لا حدود لها، مبينا أنه "منذ وصول السيسي للحكم؛ أصبح الفساد مقننا، وإذا كان عهد ما قبل ثورة يناير 2011 مليئا بالفساد، فإن عهد السيسي عنوانه الإفساد المتعمد".
"وبرغم وجود أكثر من 10 أجهزة رقابية في مصر تمتلك آلاف الأدلة على الفساد بكل قطاعات الدولة؛ إلا أن من يتم فضحهم ومحاسبتهم على الفساد هم فقط من لم يعد النظام بحاجة إليهم"، بحسب خضري.
وأضاف: "أو من ظنوا أنهم يلعبون لصالح أنفسهم فيغريهم شيطانهم بالأكل من وراء النظام، أو من يوقعهم حظهم العاثر ليكونوا كبش فداء لمن هم أعلى منهم، أو من يدهس أثناء صراع الأجهزة مع بعضها".
وعن حجم الفساد المحتمل بالوزارة وبالحكومة، قال خضري: "منذ ما يقارب خمس سنوات؛ صرح القاضي هشام جنينة بأن القيمة الحقيقية والموثقة للفساد في مصر تبلغ 600 مليار جنيه، ولأن الفساد في مصر ينمو تبعا لدالة أسية؛ فأعتقد بأن قيمة الفساد حاليا عدة أضعاف هذا المبلغ".
وجزم الباحث بأن "ما حدث بقضية فساد وزارة الصحة مجرد مؤشر على أن النظام يعالج شروخ وانهيار أساساته عبر مزيد من التجميل دون حلول فعلية، حتى وإن حاول إنكار ذلك".
أوامر القيادة
وقال القيادي الإداري السابق بوزارة الصحة، هاني سليمان، إن "الفساد الحكومي مستشر بلا حدود، وهو أساس النظام الحالي، والسيسي يعرف هذا ويعرف أن الناس تعرفه أيضا".
وأضاف سليمان لـ"الاستقلال": "لكن لا توجد نية ولا إرادة لمكافحة هذا الفساد الذي أصبح في النظام كالإسمنت في المبنى، لو أزلناه منه يسقط فورا".
وأكد أن "هناك وزارات انتشار الفساد فيها معروف، ومنها الصحة برغم أن الميزانية المخصصة لها محدودة ولا تكفي الإنفاق على خدمات الوزارة المفتوحة للمنح والهبات والمساعدات والمبادرات الإقليمية والعالمية، والتي تمنحها مبالغ ضخمة كمساعدات لا ترد".
وتابع: "مثلا مشروع التأمين الصحي الذي يقام حاليا، تصب فيه أموال طائلة من الخارج، وبدون رقابة حقيقية من الوزارة، لأن هيئة التأمين الصحي شبه مستقلة عن الوزارة، ولكن تتصل بها عبر موظفيها الكبار والذين لهم دور استشاري وقيادي أحيانا".
سليمان، الطبيب الذي عمل سابقا مع الوزيرة زايد، يعتقد أن "ما جرى بوزارة الصحة مؤخرا من فساد لم يكن غريبا، فالوزيرة أعطت صلاحيات كبيرة جدا لبعض كبار موظفيها لتتفرغ هي لتنفيذ أوامر القيادة السياسية، وتركت تنظيم العمل داخل الوزارة لهم".
ولمح إلى أن "المال السايب أفسد بعض هؤلاء الموظفين الكبار الفاسدين بالفعل أو من كان على استعداد للفساد".
وقال سليمان: "أعرف وزيرة الصحة شخصيا منذ فترة طويلة، وزاملتها في العمل بوزارة الصحة، وأستطيع القول أن الفساد لم يطلها شخصيا، فهي ليست فاسدة بطبعها، وأعتقد أن ما قيل عن رشوتها لا يستقيم مع شخصيتها ولا مع العقل والمنطق".
"لكن هذا طبعا لا ينفي كونها مسؤولة عن فساد مساعديها وموظفيها الكبار، والذين أطلقت أيديهم لتعيث في الوزارة فسادا"، يؤكد مدير التخطيط الإستراتيجي السابق لدى شركة "Pfizer".
ولفت سليمان إلى أنه "من المعتاد طبعا أن النظام يداري على قضايا الفساد التي تطال أحد أذرعه، ولكن يبدو ولأن الفساد كان كبيرا جدا هذه المرة، وبأنه كان يتعلق بوزارة خدمية مهمة مثل الصحة، فكان لا بد أن يجري الإفصاح عن بعض جوانبه".
وشدد على أن التحقيق في القضية "سيجري في الخفاء، ولن نعرف الكثير من التفاصيل بل ربما لا نعرف أسماء المتهمين، وهذا ما يحدث كالمعتاد بقضايا الفساد الكبيرة التي تضرب وزارة أو هيئة أو مؤسسة كبيرة من مؤسسات الدولة".
مدير عام "المعهد الوطني للتدريب"، جزم أيضا بأن "هذا يحدث حتى لا يكتشف الشعب أن هؤلاء المتهمين يوجد غيرهم كثيرون وأن الفساد ليس قاصرا على فئة محدودة".
ويرى سليمان أنه سيجري "الاستغناء عن وزيرة الصحة، ربما ليس فورا ولكن مع أول تغيير وزاري قادم، خاصة مع ما نشر أن الوزيرة حاليا في إجازة مرضية، وتكليف وزير التعليم العالي ليقوم بعملها، ولكن الوزيرة في إجازة سياسية إجبارية، حتى يتم العثور على بديل لها".