ثقافة وتقاليد روسيا.. لماذا تحرص موسكو على تلقينها لأبناء الساحل السوري؟

مصعب المجبل | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

تشكل محافظتا اللاذقية وطرطوس بيئة إستراتيجية للتغلغل الروسي العسكري والثقافي في سوريا، نظرا لموقعهما المطل على البحر المتوسط، إضافة إلى طبيعة السكان هناك.

إذ يرى كثير من المراقبين أن التدخل الروسي لمساندة النظام السوري ووقف سقوط رئيسه بشار الأسد، جاء على أساس كسب نفوذ أكبر في المحافظتين الساحليتين بالدرجة الأولى.

فلم تكن موسكو تستطيع تأمين وجودها الدائم على ساحل البحر المتوسط، إلا بعد توقيع عقدي استئجار طويلي الأجل عام 2017 لمدة 49 عاما قابلة للتمديد لمدة 25 سنة أخرى، لكل من قاعدة حميميم الجوية بريف اللاذقية وأخرى بحرية على ساحل طرطوس.

وبهذا فإن حلم روسيا بأن تصبح قوة حاضرة في المتوسط الذي كانت تخطط له منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، لإعادة إحياء مكانتها الدولية في النظام الدولي، تحقق على يد بشار الأسد.

جيش ثقافي

سعت روسيا مبكرا لتعويم نفسها في سوريا وخاصة بمدن وبلدات الساحل من خلال خطوات عديدة، كان آخرها افتتاح مركز "الفجر" لتعليم اللغة والثقافة الروسيتين، في مدينة جبلة بريف اللاذقية، 14 أكتوبر/تشرين الأول 2021.

وفي هذا المركز، يمكن أن يتلقى ما يزيد عن 300 طفل سوري بمختلف أعمارهم دورات اللغة الروسية، وستتاح لهم كذلك فرصة لدراسة ثقافة وتقاليد وعادات شعوب روسيا.

وبما أنه معروف تاريخيا أن الاحتلال العسكري يسبقه تغلغل فكري وثقافي عبر مشاريع هائلة، فإن أساليب القوة الناعمة أو التدخل الثقافي مطروقة قديما منذ القرن الثامن عشر.

ولهذا سعت روسيا لتكوين جيل محدد يعطيها التقدير والامتنان، ومن هنا كانت مناطق الساحل السوري معقل ضباط وعناصر النظام السوري، البيئة الخصبة القادرة على تمرير الغزو الثقافي الروسي.

وتبعد قاعدة حميميم الجوية الروسية مسافة 5 كيلو مترات عن مدينة جبلة التي تعد خزانا بشريا هائلا من ضباط النظام السوري ذوي مختلف الرتب العسكرية ومنها العالية، والذين يتقلدون مناصب حساسة في الأجهزة الأمنية من الطائفة العلوية التي ينحدر منها بشار الأسد.

وبين الناطق باسم ممثلية المركز الروسي للعلوم والثقافة سابقا في سوريا نيقولاي سوخوف، أن مركز "الفجر" يخطط لتنظيم زيارات الطلاب لروسيا، للاطلاع على آثارها الحضارية والثقافية والمشاركة في مختلف الفعاليات الإبداعية والتواصل مع أقرانهم الروس.

ونوه في تصريح له 14 أكتوبر/تشرين الأول 2021 إلى أن تلك الفرصة ستتاح بالدرجة الأولى لأطفال قتلى ضباط وعناصر النظام السوري الذين قتلوا في المعارك، ومضى قائلا: "ربما سيرغب طفل ما من طلبة المركز مستقبلا بربط مصيره بروسيا"، حسب تعبيره.

ويؤكد الباحث الاجتماعي السوري حسام عبد الغني أن روسيا تعمل حاليا على "استقطاب ثلاث فئات مجتمعية لتمرير مشروعها الثقافي في الساحل السوري، وهم أطفال قتلى قوات الأسد، وأبناء الضباط الكبار والشباب بهدف تأهيلهم وتكوين جيش ثقافي منهم يجيد اللغة الروسية ويعرف عادات تلك الدولة ومناسباتها الرسمية".

وبين في حديث لـ "الاستقلال" أن الهدف هو أن تصبح تلك الفئات مستقبلا قادرة على إقامة تلك الفعاليات داخل سوريا ونقلها للمحيطين بهم.

وأضاف أن "روسيا تعتمد على جذب أعداد جديدة من مناطق الساحل عبر تقديم الإغراءات والميزات لهم ولذويهم، بما يشجع على إقبال مزيد من الفئات الثلاثة بدون جهود مضاعفة لكون المنطقة من الناحية العقائدية قابلة لتقبل الثقافة الروسية والسير معها".

النمط الروسي

ويرى عبد الغني أن "روسيا والنظام السوري متفقان على تمرير خطة إدخال النمط الثقافي الروسي في أدب الحياة اليومية لفئة محددة من الطائفة العلوية عبر اعتماد مناهج دراسة موحدة كما هي المواد التي تعطى في المراحل الدراسية في موسكو".

يضاف إلى ذلك تنفيذ نشاطات ورحلات تشجع في نفس الوقت على استمرار التعلق بالثقافة الروسية ودوام الرغبة في الانجذاب إليها.

وألمح الباحث الاجتماعي المنحدر من اللاذقية، إلى أن "ما يشجع على تعلم الثقافة الروسية أنها ذات طابع علماني لا تقوم على التغلغل الديني كما هو الحال لدى المشروع الإيراني المطبق بمناطق سورية أخرى".

هذا فضلا عن أن الأهالي يرون أن حجم الاستفادة المستقبلية لأبنائهم من موسكو أكبر من طهران لأن روسيا بلد أكثر انفتاحا وتقدما من إيران من ناحية ممارسة الطقوس والعادات المرتبطة بالمذهب العقدي، وفق قوله.

ومن أبرز الوسائل التي تعتمد عليها المراكز الثقافية الروسية إقامة دورات لتعليم اللغة، وكذلك تعليم العزف على الآلات الموسيقية، والفن التشكيلي وتطوير الموارد البشرية والتصوير الضوئي والرقص الكلاسيكي، وكل هذا بما يضمن تغلغل الأبجدية الروسية داخل أدمغة الأطفال والشباب.

لقد احتفت وسائل الإعلام الروسية، برسالة طفلة سورية أعربت فيها عن "الشكر والامتنان" للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك بختام زيارتها لروسيا برفقة مجموعة من الأطفال السوريين المتميزين في دراسة اللغة الروسية.

ونشرت وكالة سبوتنيك الروسية مقطعا للطفلة المنحدرة من إحدى قرى اللاذقية 25 أغسطس/آب 2021، وهي تقول: "الجيش السوري البطل والجيش الروسي البطل وقفا بوجه الإرهاب وانتصرا والابتسامة عادت لنا كسوريين"، في أمر يشير إلى تعزز الروابط.

ويرى السوريون أن خط التغلغل الروسي ونشر اللغة الروسية في البلاد، استبقت التدخل العسكري نهاية سبتمبر/أيلول 2015، والذي صنف كأهم نقاط التحول في الثورة السورية على الصعيد السياسي والعسكري، بحيث منع سقوط نظام بشار الأسد ومكنه من استعادة السيطرة على مساحات واسعة من المدن الواقعة تحت نفوذ الثوار.

تعليم مبكر

إذ إنه وبقرار مفاجئ من وزارة التربية التابعة للنظام السوري، أقر تدريس اللغة الروسية ضمن المناهج التعليمية لطلاب المدارس ابتداء من عام 2014.

وبذلك أصبحت الروسية لغة اختيارية ثانية إلى جانب الفرنسية ليتعلمها الطالب ابتداء من الصف السابع، كما جرى افتتاح قسم للغة الروسية في جامعة دمشق في نفس العام المذكور.

وبالتوازي مع ذلك كان النظام السوري ينسق مع الروس لفتح مدارس خاصة في اللاذقية محصورة بذوي القتلى من عناصره لتعليم اللغة الروسية ومن ثم تعويم المناهج الروسية.

ومن داخل إحدى صفوف تلك المدارس الخاصة بحي الدعتور بمدينة اللاذقية، اعتبر أحد مدرسي اللغة الروسية في حديث لوكالة سبوتنيك 9 أكتوبر/تشرين الأول 2017 ، أن الإقبال على تعلمها هو نتيجة "للمواقف المشرفة للأصدقاء الروس".

وفي سبتمبر/أيلول 2018 بدأت المجموعة الأولى من الأطفال السوريين السنة الدراسية الجديدة، في معهد قوات السكك الحديدية والاتصالات العسكرية، التابع للأكاديمية العسكرية للإمداد والنقل في سان بطرسبورغ.

وقال حينها دميتري بولغاكوف نائب وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إن الخطوة هي التجربة الأولى من نوعها،  وتأتي تنفيذا لقرار وزير الدفاع البدء بتدريس الطلاب السوريين في كل المؤسسات التعليمية العسكرية اللغة الروسية، بما فيها تلك التي تتخصص في إعداد الضباط.

سلخ الهوية

وفي أغسطس/آب 2019 وقع النائب في مجلس الدوما الروسي دميتري سابلين، مع إدارة محافظة طرطوس اتفاق تعاون ينص على تنفيذ الطرفين مشاريع في مجالات التجارة والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والثقافة، وفي المجالين الإنساني والاجتماعي.

وخلال لقاء لبشار الأسد مع سابلين اقترح الأسد إنشاء مراكز لتعليم اللغة الروسية أو دورات لغوية لحل مشكلة عدم وجود مدرسين لهذه اللغة في سوريا، واقترح دراسة إنشاء مراكز لتعليم الروسية في كل المحافظات السورية.

لكن ما كان غريبا هو أن الأسد اعتبر أن افتتاح هذه المراكز "يساهم في حل واحدة من المشاكل المهمة في الدول العربية، ألا وهي التبعية للغرب أو الأفكار الإرهابية، بحيث يجسد تعليم اللغة الروسية بديلا ويساهم في عملية المصالحة"، وفق ما نقلت وكالة سبوتنيك في 30 أغسطس/آب 2019.

وكانت وزارة التعليم العالي التابعة للنظام السوري، أعلنت في يناير/كانون الثاني 2020، عن تقديم 500 منحة للدراسة في روسيا، للمرحلتين الجامعية الأولى والدراسات العليا ماجستير ودكتوراه للعام الدراسي 2020-2021.

وتتضمن المنح إعفاء من الرسوم الدراسية وراتبا شهريا مقداره 1500 روبل (22 دولارا) حتى 2000 روبل (29 دولارا) حسب الجامعة وذلك للمرحلة الجامعية الأولى وألفي روبل (29 دولارا) "للماجستير" وثلاثة آلاف روبل (43 دولارا) للدكتوراه إضافة إلى سنة دراسية كاملة لتعلم اللغة الروسية في الكليات التحضيرية للجامعات. 

وإقحام ثقافة روسيا يأتي وسط اندماج الروس في الحياة اليومية وارتيادهم المقاهي والتسوق من المحلات التجارية في اللاذقية وطرطوس، ما اضطر كثيرين لتعلم بعض الكلمات الروسية من أجل التواصل مع هؤلاء الجنود.

إبعاد إيران

لكن ما كان ملاحظا أن إيران لم ينصب اهتمامها الثقافي على الساحل السوري، ويرجع ذلك لبعد الهوة بين الثقافة الدينية التي تحملها ونمط عيش السكان هناك.  

ويرى القيادي في المعارضة السورية، العميد فاتح حسون، أن إيران وروسيا تدعمان نظام الأسد عسكريا وسياسيا في سبيل الحصول على امتيازات في المجال الاقتصادي والأمني والثقافي.

ويضيف حسون لـ"الاستقلال" أن "روسيا تدرك خطر التغلغل الإيراني في سوريا ومحاولاتها الحثيثة للسيطرة وتحقيق مكاسب على أي صعيد كان ثقافيا أو سياسيا أو اجتماعيا".

لذا تسعى روسيا إلى تعزيز وجودها ثقافيا واجتماعيا، إلى جانب الوجود العسكري والاقتصادي في سوريا، في محاولة لتخفيف أثر منافستها إيران التي افتتحت مراكز عدة لنشر ثقافتها، وتجنيد الشبان في مليشياتها لا سيما في دير الزور والمنطقة الشرقية.

وألمح العميد إلى أن "روسيا تريد قطع الطريق أمام إيران في الوصول إلى معقل الطائفة العلوية في الساحل السوري، والتي تتحكم بمفاصل صنع القرار في سوريا حاليا الأمر الذي سيساعد موسكو لبقاء طويل المدى ويجعلها صاحبة اليد الطولى في البلاد".

وزاد بالقول: "لذلك تنظر روسيا بأهمية كبيرة إلى الموقع الإستراتيجي للسواحل السورية على الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط الذي يربط القارات الثلاثة (آسيا، أوروبا، إفريقيا)، وهذا يعني وجودها في قلب العالم".

وتوجد عوامل كثيرة تجعل من مناطق الساحل السوري، أكثر تقبلا للتغلغل الثقافي الروسي وطرح المشاريع الثقافية على أبنائها بخلاف المناطق السورية الأخرى.

وحول هذه الجزئية يرى العميد أنه "لا يخفى أنه يوجد في الساحل السوري عدد كبير من ضباط جيش النظام الذين تلقوا تدريباتهم في روسيا".

كما أن الجنود الروس يقابلون بترحيب شعبي من الأهالي على عكس المليشيات الإيرانية ذات التوجه الشيعي التي تعتبر على خلاف مع معتقد الطائفة العلوية، مما يسهل عليها نشر ثقافتها وتحقيق الهيمنة الثقافية، وفق قوله.