أيهما أفضل للمصريين.. إبقاء الحدائق أم تحويلها لمشاريع تجارية تابعة للجيش؟
يواصل رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي حملة قطع الأشجار المعمرة، وتدمير الحدائق والمنتزهات التاريخية، التي بدأها منذ سنوات لاستغلال مواقعها الحيوية، بزعم تحويلها إلى مناطق جذب سياحية وتجارية.
جهة سيادية مصرية قررت تحويل مساحات خضراء واسعة من مستشفى "العباسية" الشهيرة للأمراض النفسية لمحال تجارية وكافيهات وأماكن ترفيهية، يديرها الجيش؛ كونها تحتل موقعا متميزا بالعاصمة القاهرة.
في السياق نفسه، أكدت تقارير صحفية محلية أن السيسي وجه محافظة الجيزة بتحويل مساحات كبيرة بحديقتي "الحيوان"، و"الأورمان" الأكبر والأقدم بالبلاد؛ لأماكن سياحية وتجارية تديرها أيضا شركات القوات المسلحة.
كافيهات وحدائق
الملف الأول أعلنت عنه "جبهة الدفاع عن مستشفى العباسية"، مؤكدة في بيان لها 30 أغسطس/آب 2021، أنه يجري الاستغناء عن مساحة 7500 متر، بعمق 25 مترا، وطول 300 متر، من واجهة المستشفى بشارع "رمسيس" الشهير.
وقالت: إنه في مطلع أغسطس/آب 2021، استأجر جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للجيش تلك المساحة من المستشفى لمدة 20 سنة، لإقامة محال تجارية.
ولفت البيان إلى أن تلك الأرض كانت مخصصة لإنشاء مشروع قومي لعلاج الاضطرابات النفسية لدى الأطفال، والأمراض النفسية والإدمان لدى المراهقين، في مشروع يعد الأوحد بالشرق الأوسط.
وفي 15 سبتمبر/ أيلول 2020، تقدمت وزارة "الإنتاج الحربي"، و"الهيئة العربية للتصنيع"، ووزارة الداخلية، لإنشاء محال تجارية بسور المستشفى بامتداد شارع رمسيس، مقابل 60 بالمئة من الأرباح، و40 بالمئة للمستشفى.
المستشفى التي تأسست عام 1883، على 68 فدانا، وتخدم 100 ألف مريض سنويا؛ هناك محاولات لهدمها ونقلها لمدينة "بدر" شرق القاهرة منذ 2010، للاستفادة من موقعها بشارعي "صلاح سالم" وامتداد "رمسيس" الأهم بالقاهرة.
عضو مجلس إدارة مستشفى العباسية أحمد حسين كتب مقالا بموقع "درب" المحلي، 29 أغسطس/آب 2021، منتقدا التفريط بمشروع إنقاذ الأطفال من الإدمان لأجل جهة سيادية، وإهدار 1.8 مليون جنيه صرفت بالفعل.
ولفت إلى أنه طبقا للإحصائيات الرسمية فإن 30 بالمئة من طلاب المرحلة الثانوية و25 بالمئة من سكان مصر يعانون أمراضا نفسية، بجانب 3.5 مليون مريض إدمان، ما يؤكد حاجة مصر للمستشفى.
وقال: إن "الاستثمار في الصحة ومنها النفسية أهم وأربح استثمار لإعمار الدول"، مضيفا أنه "رغم اعتراضي على المشروع فوجئت بأقوى جهة سيادية تحت رئاسة الجمهورية، تتقدم لاستئجار الأرض وإقامة محلات تجارية لـ20 عاما".
الملف الثاني بدا للعلن، 29 أغسطس/ آب 2021، إذ وجه السيسي وزارة الزراعة بتطوير الأصول المملوكة لها من الحدائق والمتنزهات بالقاهرة الكبرى، (حديقتا الحيوان والأورمان)، بشراكة وخبرات أجنبية.
حديقة حيوان الجيزة أو "جوهرة التاج"، الأكبر بمصر والشرق الأوسط، وأول وأقدم حدائق الحيوان بإفريقيا، أسست بالجيزة عام 1871، ومساحتها 80 فدانا، وبها أنواع نادرة من الحيوانات، ما جعلها قبلة فقراء المصريين طوال العام.
أما "الأورمان" المجاورة لـ"الحيوان" فهي أكبر الحدائق النباتية في العالم، وأنشئت عام 1873 بمساحة 80 فدانا، وتضم مجموعة نادرة من الأشجار والنخيل.
مصدر حكومي قال لموقع "العربي الجديد": إن حصيلة تأجير الأنشطة التجارية المقررة في الحديقتين ستذهب لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للجيش، للاستفادة من عوائدها.
وأكد أن ذلك سيجري "بعيدا عن الموازنة العامة للدولة، في تكرار لما حدث مع بعض الحدائق والمتنزهات الشهيرة في مناطق القاهرة".
وأضاف المصدر أن هناك توجيهات رئاسية مشددة لوزارة الزراعة، لتقليص المساحات الخضراء بالمحافظات، وتحويل المتنزهات والحدائق العامة لتجمعات للمطاعم، وإقامة مشروعات سكنية على أنقاضها، للحد من استهلاك مياه الري.
خطوات وتأثيرات
ما يجري في "العباسية" و"الحيوان" و"الأورمان"، ليست الخطوة الأولى من نوعها في عهد السيسي، ففي أبريل/ نيسان 2021، جرى إحاطة حديقة "قصر عابدين" الشهير بالقاهرة بسور حديدي وبوابات إسمنتية، وأكشاك لبيع المأكولات.
مصريون انتقدوا تشويه القصر الأثري والشاهد على تاريخ مصر الحديث، ومقر الحكم منذ 1863 للخديوي إسماعيل، والخديوي توفيق، وعباس حلمي الثاني، والملكين فؤاد وفاروق، والرئيس الأسبق أنور السادات.
وخلال مارس/ آذار 2021، جرى تحويل أكبر 3 حدائق مفتوحة وعدد من المباني الأثرية في مدينة "المنصورة" (وسط الدلتا) إلى عمارات سكنية.
إذ هدمت السلطات المحلية "قصر ثقافة المنصورة" الأثري، وجرفت أشجار حدائق "هابي لاند"، و"عروس النيل"، و"صباح الخير يا مصر"، لإنشاء فندق وأبراج سكنية وتجارية مكانها باسم "تحيا مصر".
وفي فبراير/ شباط 2021، أثار قرار إنشاء كوبري بمصر الجديدة يمر قرب كنيسة "البازيليك" الأثرية التي ترجع لنحو (111 عاما) الكثير من المخاوف على المباني الأثرية والتراثية وعلى الأشجار النادرة المحيطة بها.
وفي يناير/ كانون الثاني 2021، نفذت محافظة الجيزة مجزرة بقطع أشجار "الكافور" الضخمة والمعمرة بكورنيش العجوزة، التي ترجع لعهد الخديوي إسماعيل.
وخلال العامين 2020 و2021، جرت أفظع مجزرة للأشجار بشوارع "مصر الجديدة" و"مدينة نصر" شرق القاهرة، لإنشاء كباري علوية محلها، وإنشاء محال وكافيهات وجراجات أسفل الكباري يديرها الجيش بمقابل مادي كبير.
منتصف العام 2019، نفذت السلطات حملة إزالة أشجار نادرة وعتيقة بمنطقة المنتزه بالإسكندرية التاريخية أنشأها الخديوي عباس الثاني عام 1850، بدعوى التطوير.
وبقرار من السيسي، تضمن التجريف هدم كبائن "نفرتيتي" و"نفرتاري" و"سيتي" و"كليوباترا" التاريخية بشاطئ المنتزه.
وطوال سنوات حكمه، منح السيسي "الشركة الوطنية" المملوكة للجيش حق انتفاع بمعظم المناطق الخالية ومواقف السيارات وأسفل كباري القاهرة والجيزة والمحافظات ليطورها ويبني حولها محالا تجارية وترفيهية يحصل على عوائدها.
وفي ظل تلك المجازر بحق الأشجار تأتي القاهرة كأكثر مدن العالم تلوثا، وفقا لتصنيف أجرته إيكو إكسبرتس"Eco Experts" في أغسطس/آب 2018، لتحليل بيانات تلوث الهواء بـ48 مدينة عالمية.
وحصلت القاهرة على 95.8361، من أصل 100 نقطة، بفارق 9 نقاط عن مدينة دلهي التي احتلت المركز الثاني.
وهنا يجزم رئيس حزب "الخضر" المصري، المهندس محمد عوض، بأن إصرار النظام على إزالة المساحات الخضراء "قضية شديدة التصادم، رغم أنه ليس لدي علم يقيني بدور للقوات المسلحة في هذه القضية".
ويضيف لـ"الاستقلال": "لكن مثل هذه التوجهات تتعارض وتتناقض مع الالتزام الدولي لكل دولة في مكافحة ظاهرة (التغير المناخي)، وتناقض المنهج العلمي من ضرورة دراسة تقييم الأثر البيئي للمشروعات".
كما أن الإعلانات العلمية تؤكد ارتفاع ملوثات الهواء في القاهرة الكبرى، ما يؤثر سلبا على نمو حركة السياحة ومستوى الصحة العامة، وفق عضو "مجلس الشورى" المصري الأسبق.
ويشير إلى تأثير مجازر الأشجار واجتثاث المساحات الخضراء الاقتصادي، وفي المقابل، "إهدار الاقتصاد الوطني بمشروعات استهلاكية دون إنتاجية، وتحجم معدلات التنمية لصالح أرقام مضللة بارتفاع معدلات النمو".
"فضلا عن تعارض ذلك مع الرؤية الإستراتيجية التي تؤكد الخروج للمدن الجديدة"، وفق ما يروج النظام عن أسباب بنائه العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة.
إحكام السيطرة
من جانبه يقول الخبير المصري في الإدارة هاني سليمان: إن "مذبحة الأشجار، أو مجزرة الخضرة الرهيبة التي تجري في مصر على قدم وساق بواسطة النظام الحاكم جريمة متكاملة تستحق المساءلة".
ويضيف لـ"الاستقلال": تلك المذبحة تحول القاهرة لغابات من الإسفلت والإسمنت، وتقضي على رئات طبيعية للتنفس بالمدن ولسكانها، ما يؤدي أيضا لأخطار بيئية وصحية كثيرة بمدن مصر المزدحمة".
رئيس مجلس إدارة مجموعة تنمية القيادة (LDG) تحدث بشكل خاص عن "القاهرة الكبرى، إحدى أكبر مدن العالم ازدحاما وتلوثا، والتي يهددها تصاعد الاحتباس الحراري بالمدن الكبرى، في خطر كبير يهدد العالم".
ويقول: إن ما نراه حاليا من حرائق عالمية هائلة طالت الكثير من البلدان مجرد تذكرة لما ربما يحدث قريبا في القاهرة وباقي مدن مصر.
وأردف: "تبرير هذه المذابح بإنشاء بنية أساسية أو إقامة طرق جديدة وسريعة؛ لا يمكن الاقتناع به، بل في رأيي الشخصي أن هذه المذبحة الكبرى لها أهداف أخرى كثيرة".
الهدف الرئيس في رأي الخبير المصري هو "إحكام سيطرة النظام على مصر".
ويواصل، أن "إلغاء أي مساحة خضراء أو خالية، وزرع طرق وكباري ومنشآت وعمارات سكنية ومحلات وجراجات يديرها الجيش، وسيلة للسيطرة على مصر جغرافيا واقتصاديا وحتى فكريا".
ويبين أنه "جغرافيا توفر هذه الخطة انتشارا مريحا للجيش بمدن مصر، بالتمركز في ميادينها الكبيرة وشوارعها المهمة، وبدون الحاجة لتمركز قوات كبير، "ما يدعم قوة الجيش أمام الشعب".
وبالتالي يقلل هذا من محاولات التجمع أو التمرد أو التظاهر التي ربما يفكر فيها بعض أفراد الشعب، بحسب الخبير المصري.
ويلفت إلى أن "الطرق والكباري التي تقيمها دولة العسكر وبالذات في القاهرة، المقصود منها سرعة الوصول لعاصمة (الجمهورية الجديدة)، والتي سيقيم فيها ويتحصن بها قادة النظام وحاشيته ومحاسيبه وأفراده".
وأردف: "تلك المدينة تؤمن لهم حياة رغدة وملاذا آمنا بعيدا عن الجمهورية القديمة المتهالكة وشعبها البائس، بل وستوفر لهم أيضا طريقا للهروب من مصر كلها لو قامت ثورة أو انتفاضة شعبية ضد النظام يوما ما".
من الناحية الاقتصادية، يشير الخبير المصري إلى أن "الجيش يسيطر على جزء كبير من الاقتصاد، ولتنمية هذه السيطرة، ينشئ النظام مشروعات اقتصادية وتجارية لإدارتها".
تنتشر المشروعات ولو كانت صغيرة (محلات وجراجات وعمارات سكنية وأماكن ترفيه) بكل مدن مصر، ما يعظم الفائدة الاقتصادية لمشروعات الجيش وتمكنه بأكبر جزء من الاقتصاد، يتابع سليمان.
ومن الناحية الفكرية، يعتقد أنه "عندما يرى الشعب المصري المغلوب على أمره أن الجيش منتشر بكل المدن وأحيائها وشوارعها وطرقها، ويقدم الخدمات الأساسية له دون منافسة من أي طرف، فلا يجد بديلا سواه".
وعليه أن يتقبل تلك الخدمات الإجبارية، ويشكر الجيش عليها، ويحمد الله الذي هيأ لهذا الشعب جيشه الذي يحميه من الإرهاب، ويقدم له الضروريات من مأكل وملبس وترفيه، وفق تعبيره.
ويخلص سليمان إلى أنه "وبالتالي يصبح الاستغناء عن الجيش وعن خدماته مستحيلا، بل سيخرج من ينادي من الشعب نفسه باستمرار هذه السيطرة والخدمات إلى الأبد".