بعد انقلاب سعيد.. لماذا أقال الغنوشي المكتب التنفيذي لـ"النهضة" التونسية؟
على وقع الأحداث المتسارعة للأزمة التي تشهدها الساحة التونسية منذ أشهر، تواجه حركة "النهضة" خلافات داخلية حادة بين قياداتها، بلغت حد اتخاذ رئيسها راشد الغنوشي قرار إقالة مكتبها التنفيذي.
خلافات بعضها يعود إلى أسباب تنظيمية هيكلية تتمحور حول تغييرات على رأس قيادة الحركة يطالب بها طيف هام من قيادات الحركة وقواعدها وتجد صدا من القيادة الحالية.
ودفعت تلك الخلافات إلى تأجيل عقد مؤتمر الحركة الحادي عشر مرارا إلى أن استقر الاتفاق على تنظيمه نهاية العام 2021 دون تحديد تاريخ معين له.
تصدعات داخلية عمقتها قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد المتخذة يوم 25 يوليو/تموز 2021، المتعلقة بإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي وتجميد البرلمان.
فبعد أن وصفت النهضة إجراءات سعيد بـ"الانقلابية"، انقسمت المواقف داخلها بين من لا يزال يعتبرها انقلابا وبين من يدعو إلى اعتبارها "تصحيحا للمسار الديمقراطي" وجب مساندتها ودعمها.
ومساء 23 أغسطس/آب 2021، أعلنت النهضة، في بيان أنه "تفاعلا مع ما استقر من توجه عام لإعادة هيكلة المكتب التنفيذي، فقد قرر رئيس الحركة إعفاء كل أعضاء المكتب التنفيذي وإعادة تشكيله بما يستجيب لمقتضيات المرحلة ويحقق النجاعة المطلوبة".
وأكد الغنوشي "ضرورة مواصلة تكليف لجنة إدارة الأزمة السياسية برئاسة محمد القوماني للمساهمة في إخراج البلاد من الوضع الاستثنائي الذي تعيشه".
امتصاص الغضب
وحول أبعاد قرار الغنوشي إعفاء أعضاء المكتب التنفيذي للحركة، يرى الكاتب الصحفي والمحلل السياسي صلاح الدين الجورشي أن "النهضة تحاول التخفيف من التداعيات السلبية والخطيرة لقرارات 25 يوليو، والقرار الذي اتخذه رئيس الحركة هو محاولة لامتصاص الغضب داخل النهضة".
وقال الجورشي لـ"الاستقلال": "هناك مطالب عديدة داخل النهضة دعا أصحابها إلى حل المكتب التنفيذي، وكأن الغنوشي يريد أن يستجيب لهذه المطالب بالتغيير داخل حركته".
واستدرك قائلا:" لكن في تقديري ما أقدم عليه الغنوشي هو عمل جزئي ولن يكون له تأثير كبير على مستقبل التوازنات داخل حركة النهضة".
وأضاف الجورشي أن "الانقسام الموجود داخل حركة النهضة ما زال لم يصل إلى مستوى عميق جدا من شأنه تقسيم الحركة أو تهديدها بالانقسام والتشرذم".
وأكد أن "حركة النهضة لن تخرج من أزمتها بمجرد قرارات ذات طابع تنظيمي"، موضحا أن "الوضع الذي تعيشه الحركة هو وضع نهاية مرحلة".
وبالتالي عليها أن تعيد النظر في أدوات التحليل؛ لأن الأزمة التي تمر بها البلاد وتمر بها النهضة أيضا هي أزمة وجود وهي أزمة عميقة تحتاج إلى شجاعة وجرأة، كما قال.
وشدد الجورشي على أن "أهم طرف مدعو إلى أن يكون في مستوى هذه الجرأة وهذا المنعرج الخطير الذي تمر به النهضة هو رئيسها راشد الغنوشي وهو المطالب الآن باتخاذ قرارات من شأنها أن تغير هيكلة الحركة وسياساتها ورؤيتها".
واستطرد قائلا:" الجدل داخل النهضة حول تنظيم مؤتمرها الحادي عشر وتغيير قيادة الحركة، موجود منذ وقت طويل".
وبين أن الحركة لم تحسم تغييرات على مستوى رئاستها "ودائما الغنوشي هو الرئيس والفاعل والماسك بكل الخيوط الداخلية والخارجية للنهضة".
وتابع: "الآن، النهضة تقترب من لحظة حاسمة، هل سيكون المؤتمر القادم قادرا على إعلان تغيير على مستوى رئاسة الحركة وقيادتها؟ إذا توجه المؤتمر في هذا الخيار فلا بد أن ننتظر إجابة عن تساؤلات عديدة في مقدمتها من سيخلف الغنوشي؟ وما هي السياسات الجديدة التي من الممكن أن تتبناها القيادة القادمة للنهضة؟".
وتشهد النهضة انقسامات قديمة بشأن استمرار الغنوشي من عدمه في قيادة الحركة، حيث يعارض جناح كبير داخلها بقاء الرجل ويطالب بإزاحته من القيادة.
وتجلى ذلك بوضوح في عريضة (لائحة) مجموعة المئة قيادي بالنهضة التي طالبت الغنوشي، في شهر سبتمبر/أيلول 2020، بتقديم استقالته.
اضطراب شديد
ويقود حملة معارضة بقاء الغنوشي رئيسا للحركة، عدد هام من القياديين أبرزهم عبد اللطيف المكي وسمير ديلو.
وأكد المكي، في تصريحات سابقة، أن "الغنوشي كان يتصور أن المسألة بسيطة، لكن اللائحة أبرزت حجمها السياسي داخليا ووطنيا، وأنه ينبغي التفكير في المسألة كمشكل سياسي حقيقي يمس داخل النهضة، وأيضا الحياة الوطنية".
وأضاف الجورشي: "أكثر سؤال يحير الجميع، ما هو الدور الذي من الممكن أن يؤديه الغنوشي خارج إطار رئاسة الحركة؟ هل سيبقى مؤثرا إن لم يبق رئيسا للنهضة أم أن هناك تغييرات جوهرية ستقطع مع مرحلة حكم الشيخ وسلطته المعروفة تاريخيا؟".
ومن الممكن أن تنتقل النهضة إلى نوع من الفضاء الديمقراطي التعددي ونوع من القيادة الجماعية حتى يقع إنقاذ الحركة، كما قال.
فيما يرى المؤرخ والمحلل السياسي التونسي عدنان منصر أن "قرار إعفاء أعضاء المكتب التنفيذي للحركة يأتي في إطار الاضطراب الشديد الذي تعيشه النهضة".
وقال لـ"الاستقلال": "لا ننسى أن قرارات 25 يوليو/تموز، نقلت النهضة من حزب مسيطر على مؤسسات الدولة ولو بطريقة غير مباشرة ومتحكم في كل المشهد السياسي، إلى عنصر ثانوي وهامشي في المشهد".
وبين أن "هناك محاسبات يجب أن تتم للخط الذي أوصل الوضع لهذه المرحلة داخل الحركة"، مضيفا: "يبدو أن النهضة بدأت في أخذ الدروس والعبرة مما حصل".
واستدرك منصر قائلا:" كل هذه القرارات التي اتخذتها رئاسة الحركة (إقالة المكتب التنفيذي) متأخرة وأقل بكثير مما يفترضه الوضع".
وتوقع أن "تتجه حركة النهضة الآن إلى اتباع سياسة تحفظ الحد الأدنى من البقاء في المشهد السياسي، وهذا ظهر في تغيير مواقفها التي قالت فيها: إنها تساند قرارات رئيس الجمهورية ليوم 25 يوليو/تموز".
وشدد منصر على "وجود ارتباك واضح داخل النهضة وهو أمر مفهوم وسيتواصل، لأن الخطر على وجود الحركة نفسه هو خطر يتعاظم".
ولفت إلى أن "قطاعا هاما من التونسيين يحملون النهضة مسؤولية ما وصلت إليه أوضاع البلاد، ويعتبرون أن ما حصل يوم 25 يوليو/تموز حركة إنقاذ للبلاد مما كانت عليه قبل هذا التاريخ".
أي بوجود حكومة مستهترة (كان يرأسها هشام المشيشي) وغير مسؤولة تساندها النهضة وأزمة صحية خانقة خلفت 20 ألف ضحية لوباء كورونا، وانسداد سياسي وفساد، كما قال.
وخلص منصر إلى أن "هذا الوضع تتحمل فيه النهضة جزءا من المسؤولية، ومن الطبيعي أن يتم الحديث عن محاسبة داخل الحركة ووجوب إبعاد كل من كان مسؤولا عن هذا الوضع في تونس" حسب رأيه.
انسحابات وتوترات
وفي الثاني من أغسطس/آب 2021، أصدر المجلس الوطني لشباب النهضة، بيانا، طالب فيه رئيس الحركة بضرورة "تشكيل قيادة وطنية للإنقاذ تتضمن كفاءات شبابية تكون بداية لمسار التجديد في القيادة التنفيذية داخل الحزب لإنقاذ المسار السياسي في البلاد".
كما دعا "شباب النهضة" إلى "ضرورة الإسراع في تقييم موضوعي لتجربة الحركة في الحكم وتحرير الشباب من الخلافات الداخلية، مع أهمية المبادرة إلى حوار مع رئيس الجمهورية والقيام بالتوافقات اللازمة من أجل مصلحة الوطن".
وفي أعقاب قرارات "25 يوليو/تموز"، شهدت جل اجتماعات المكتب التنفيذي للنهضة ومجلس الشورى خلافات حادة وجدالات حول كيفية تعاطي الحركة مع الأزمة السياسية بالبلاد، تنتهي إما بانسحابات بعض الأعضاء أو تأجيلها دون الحسم في مقترحات الحلول للخروج من الأزمة.
وبعد تأجيل اجتماع مجلس شورى النهضة لأكثر من أسبوع، من قبل رئيسها “راشد الغنوشي”، بعد الأحداث المذكورة، جرى عقد الاجتماع يوم 4 أغسطس/آب 2021، إلا أنه شهد خلافات حادة تسببت في انسحاب العديد من أعضاء المجلس اعتراضا على مضمون الحوار الذي تضمنه.
وشهد الاجتماع تعنت تيار مطالب بالتصعيد، في مقابل آخر يدعو للتهدئة، وقد عبر بعض الأعضاء عن رفضهم لأي قرارات تصدر عن مجلس شورى الحركة، ومن أبرز هؤلاء الأعضاء القيادية “جميلة كسيكسي”.
ورغم أنه لم يصدر بيان في أعقاب ذلك الاجتماع يعبر عن موقف موحد للحركة، فإن الصفحة الرسمية لحركة النهضة على موقع "فيسبوك"، أعلنت أن الرئيس الغنوشي قد أقر بقرارات رئيس الجمهورية الأخيرة، معتبرا إياها فرصة أمام الإصلاح، وهو ما أكده القيادي بالنهضة سامي الطريقي.
في المقابل، سارع عضو مجلس الشورى بالحركة رفيق عبد السلام إلى تكذيب أي تغير في موقف الغنوشي، معتبرا أن تصريحات سامي الطريقي تعبر فقط عن رأيه الشخصي.
وفي بيان وقعه 130 عضوا من النهضة تحت عنوان "تصحيح المسار"، يوم 31 يوليو/تموز 2021، طالب هؤلاء الأعضاء الغنوشي بتغليب المصلحة الوطنية، واتخاذ ما يلزم من قرارات وإجراءات من أجل عودة البرلمان إلى مسيرته الطبيعية.
وقد دعا الموقعون على هذا البيان (من ضمنهم أعضاء من المكتب التنفيذي ومجلس الشورى للحركة، و5 نواب من البرلمان) قيادة الحزب إلى "تحمل المسؤولية كاملة بشأن التقصير في تحقيق مطالب الشعب وتفهم حالة الغليان والاحتقان".
وطالبوا "بضرورة حل المكتب التنفيذي للحزب"، معتبرين أن "سياسات الحركة فشلت في الاستجابة لمطالبات الشعب".