انسحاب أميركي جدلي من آسيا وتوغل مقلق في إفريقيا.. هذه الأهداف
.jpg)
جاءت القرارات الأميركية الأخيرة بالانسحاب العسكري من العراق وأفغانستان، بعد تقليل أعداد قواتها في سوريا، لتثير التساؤلات والتكهنات حول تبعات تلك القرارات على البلدان الثلاثة.
بغداد ودمشق وكابول تمثل بؤرا ملتهبة منذ سنوات، وأصبحت مكامن صراع علني بين قوى دولية وإقليمية وتيارات وجماعات طائفية وعرقية مسلحة، ما يجعل الانسحاب العسكري الأميركي المتتابع منها محل شك.
مراقبون تحدثوا عن دور مخيف لسلاح المليشيات التابعة لإيران بالعراق، وللحرس الثوري الإيراني في سوريا إثر الانسحاب الأميركي، وكذلك عن الصراع المحتمل بين حركة "طالبان" والقوات الحكومية في أفغانستان.
العراق وسوريا
الرئيس الأميركي جو بايدن، أعلن يوم 26 يوليو/ تموز 2021، خلال زيارة رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي إلى واشنطن، انتهاء المهمة القتالية في بغداد بنهاية 2021، مع استمرار قوات لتدريب الجيش العراقي.
وتفاقم صراع واشنطن وطهران والمليشيات التابعة لها على أرض العراق منذ مقتل قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، في غارة أميركية مطلع 2020، ما جعل الوجود العسكري الأميركي ببغداد موضع اهتمام إيران.
القوات الأميركية غزت بغداد عام 2003، وأطاحت بحكم الرئيس الراحل صدام حسين، لترحل بالعام 2011 بعد 8 سنوات من احتلال العراق، لتعود بطلب بغداد عام 2014، لمواجهة "تنظيم الدولة" بالبلاد.

صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية اعتبرت إعلان بايدن "خطوة شكلية" تسمح للكاظمي الضعيف بمواجهة المليشيات القوية، وتعزيز موقفه قبل الانتخابات العراقية، معربة عن خشيتها من استمرار وتكثيف هجمات الفصائل الموالية لإيران في العراق.
قرار واشنطن الأخير يثير أيضا مخاوف العرب والسنة من تغول المليشيات المسلحة التابعة لإيران على السلطة والحكم والثروات، بل وعلى الوضع الديمغرافي لبلاد الرافدين.
وأعلنت قوى سياسية وعشائرية سنية عراقية في 24 يوليو/ تموز 2021، في مؤتمر صحفي بمدينة أربيل بكردستان العراق، رفضها انسحاب القوات الأميركية.
وأكدوا أن الانسحاب الآن يدخل العراق بفوضى وخطر كبير ونفق مظلم، لأن منطق اللادولة والمليشيات هو الحاكم الفعلي للعراق.
ملف الانسحاب الأميركي الجزئي من سوريا، تبعه مخاوف أيضا من تغول المليشيا التابعة لإيران والقوات الروسية المحتلة للشام، وسيطرتهما على المناطق الحيوية والنفط والغاز والفوسفات السوري، وفق مراقبين.
وشهد العام 2020، سحب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قوات بلاده من حدود سوريا الشمالية، لكنه وبضغط وزارة الدفاع (البنتاغون)، أبقى على 900 جندي بالشرق السوري لدعم قوات سوريا الديمقراطية "قسد" الكردية ولتظل قرب حقول النفط.
تقارير صحفية أجنبية تحدثت عن انتشار كثيف للمليشيات التابعة لإيران في سوريا أخيرا, في ظل الغياب الأميركي.
موقع "المونيتور" الأميركي أكد أن الحرس الثوري الإيراني عاد مجددا للانتشار وبناء قواعد عسكرية وسجون جديدة بشمال شرق سوريا، وأنه يعيد الانتشار بالصحراء السورية قرب مكامن الطاقة والتعدين.
وحتى اليوم لم يتضح بشكل نهائي موقف الرئيس الأميركي جو بايدن من انسحاب كامل لبقية قوات بلاده من سوريا، إلا أن المبعوث الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، توقع أن يجري الانسحاب الأميركي من دمشق بصورة مفاجئة كما فعلوا في أفغانستان.
تراجع وتورط
الانسحاب الأميركي من أفغانستان تصحبه أيضا مخاوف كبيرة من تفاقم الصراع الداخلي بين القوات الحكومية وحركة "طالبان" وتنظيم "القاعدة" بالبلد الإسلامي الذي عانى ويلات الحرب والصراع منذ سبعينيات القرن الـ20.
وإثر انسحاب الاحتلال الروسي من أفغانستان (1979 –1989) وقع صراع بين فصائل المجاهدين الأفغان المسلحة حينها، رغم قتالها الروس مجتمعة مدة 10 سنوات.
بعد 20 عاما من تدخلها بالبلد الآسيوي المسلم، أعلن بايدن في 8 يوليو/ تموز 2021، نهاية عملية الانسحاب العسكري من أفغانستان 31 أغسطس/آب 2021، والتي بدأتها إدارته في 30 أبريل/ نيسان 2021.

وقال بايدن: "ننهي أطول حرب في تاريخ أميركا" والتي بدأت إثر هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، مؤكدا أن واشنطن "حققت أهدافها" في مكافحة التهديد الإرهابي، واعتبر أن سيطرة حركة طالبان على البلاد ليست حتمية.
القرار عارضه الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، مؤكدا أنه خطأ، وستكون له عواقب وخيمة.
وفي 29 فبراير/ شباط 2020، وقعت حكومة ترامب، وحركة "طالبان" اتفاقية في قطر، يتم بمقتضاها انسحاب أميركا وحلفاء "الأطلسي" في غضون 14 شهرا.
الانسحاب الأميركي من مناطق الصراع في آسيا يقابله انتشار لقوات القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا "أفريكوم"، وتزايد لحضور القوات الأميركية بغرب القارة بعد التراجع الفرنسي هناك.
وهو الأمر الذي يثير التساؤلات عن أسباب ذلك، وهل هو لمواجهة جماعات مسلحة مثل "بوكوحرام" و"القاعدة" و"تنظيم الدولة"، أم أنه بدافع الحصول على الثروات الإفريقية ومواجهة نفوذ الصين المتصاعد بالقارة السمراء؟
الخبير في الشؤون الإفريقية خيري عمر، يقول: إن "القوات الأميركية موجودة بالفعل في إفريقيا منذ زمن، وأظن أنها تسعى من هذا الوجود للحفاظ على وجودها في مقابل الصين".
ويؤكد لـ"الاستقلال"، أن "قوات أفريكوم تؤدي أدوارا منذ سنوات، وهناك أيضا محطات الإنذار السريع التابعة لها".
ويضيف: "يمكن النظر لتوسع أميركا عبر (أفريكوم) على حساب فرنسا المنسحبة من عملية (برخان) بأنه ضمن سياسة ملء النطاقات الخاصة بالقوى الغربية في الغرب الإفريقي".
ويعتقد أن الحضور الأميركي المتزايد يأتي بلا شك في إطار مواجهة الجماعات المسلحة مثل "بوكوحرام" و"القاعدة" و"تنظيم الدولة"، ويشدد على أن "التعامل العسكري الأميركي مستمر معها".
تزايد الحضور الأميركي في الغرب الإفريقي يأتي إثر انسحاب فرنسا من عملية "برخان"، وما اعتبرته واشنطن فشل باريس في قيادة التحالف ضد الجماعات المسلحة، وفق مراقبين.
ويرى مراقبون أن الأميركيين وجدوا في خروج باريس فرصة لاستعادة النفوذ بالقارة السمراء بمواجهة الحضور الصيني والروسي المتصاعد.
وكانت واشنطن حذرت شعوب القارة من أن الاستثمار الصيني في إفريقيا "يغذي الفساد ويقوض سيادة القانون".
وحذر رئيس القيادة الأميركية في إفريقيا "أفريكوم" الجنرال ستيفن جي تاونسند في 19 يونيو/ حزيران 2021، من "تهديدات أمنية إفريقية محتملة تمتد من الساحل القاري وحتى قرن القارة السمراء".
أسباب الانسحاب
الكاتب والمحلل السياسي أحمد حسن بكر، يقول: إن "للانسحاب الأميركي من أفغانستان، والعراق، وجزئيا من سوريا أسبابا متعددة، منها البرنامج النووي الإيراني، وصعود الصين كقطب عالمي ينافس القطب القديم".
ويضيف لـ"الاستقلال": "وكذلك بسبب الجماعات التي تصنفها أميركا إرهابية وتهدد أمنها ومصالحها، وأيضا الهجمات السيبرانية على المرافق الأميركية، والكلفة الاقتصادية لتلك القوات مع أزمة كورونا".
"لنعترف أن السياسية الخارجية الأميركية تقوم على المصالح ولا يعنيها وقوع احتراب أهلي بين جماعات متناحرة، وعرقيات ومذاهب؛ طالما أنه لا يهدد مصالحها وأمنها القومي"، وفق بكر.
ويؤكد أنه "لفهم أسباب الانسحاب الأميركي نستدعي تحذير بايدن في 27 يوليو/ تموز 2021، لمسؤولي الاستخبارات بأن واشنطن ربما تخوض حربا مع قوى عظمى إذا تعرضت لهجوم إلكتروني كبير"، في إشارة إلى الصين وروسيا.
المحلل السياسي يوضح أن "أولوية أميركا في مكافحة الإرهاب لم تعد موجهة فقط لجماعات القاعدة وطالبان وتنظيم الدولة، والجماعات الشيعية التي تصنفها أميركا إرهابية".
ويشير إلى "ظهور أعداء جدد، بوسائل أكثر تطورا من البندقية عبر الحرب السيبرانية الصينية والروسية، والحرب البيولوجية بإطلاق فيروس كورونا والتي أدت (مجتمعة) لخسائر أميركية فاقت 10 تريليون دولار".

"انسحاب أميركا من أفغانستان يأتي كذلك بعدما ضعفت شوكة القاعدة، وتهديدها روسيا أكثر من أميركا، التي ربما توكل مصالحها بأفغانستان لتركيا مقابل تنازلات أميركية، وكذا باكستان مقابل مساعدات عسكرية ومادية"، يوضح بكر.
ويضيف أن "طالبان الأكثر تنظيما من الناحية السياسية تعتبرها أميركا من جماعات الإسلام السياسي أكثر منها إرهابية، بدليل عقد اتفاق معها برعاية قطرية".
وبشأن الانسحاب من العراق يرى المحلل السياسي أنه يأتي بعدما أصبحت "القوات الأميركية نقطة ضعف لواشنطن، تستخدمها المليشيات المدعومة إيرانيا للضغط بمفاوضات البرنامج النووي".
ويعتقد أن "القوات الأميركية محاصرة بتلك المليشيا، وهو ما يمنع واشنطن من عمل عسكري قوي ضد منشآت إيران النووية" .
وردا على مخاوف الأكراد والعرب، يقول بكر: "حضور القوات الأميركية لم يمنع تغول وسيطرة تلك المليشيات، ولم يوقف اغتيالات الناشطين والمعارضين السنة والشيعة، بل إن تلك القوات تنشغل فقط بتأمين نفسها".
عن سوريا يعتقد بكر، أن القوات الأميركية "كانت لتأمين الأكراد، ووقف المد الروسي، ولم تكن أبدا لحماية السوريين، وبعد الانسحاب ستستمر إسرائيل بتقليم أظافر إيران هناك، بتفاهم مع القوات الروسية".
ويرى بكر أن اتجاه أميركا غرب إفريقيا يهدف إلى تقليص النفوذ الصيني المتزايد هناك، وأيضا للوقوف أمام تنامي نفوذ وهجمات جماعة (بوكوحرام)"، والخلايا النشطة للقاعدة، وتنظيم الدولة".
ما البديل؟
الباحث والأكاديمي المصري، محمد الزواوي، يقول: "المفترض أن الوجود العسكري الأميركي بالعالم الإسلامي أمر عارض، والأصل انسحاب قوات غزت أفغانستان والعراق بعد هجمات 11 سبتمبر".
ويضيف لـ"الاستقلال": "رؤساء أميركا منذ باراك أوباما يحاولون إنهاء حروب بوش اللانهائية وسحب القوات من الأراضي الأجنبية، وتبني مبدأ (القيادة من الخلف) وإيكال مهام الأمن للقوات المحلية مع تحمل الدول الكبرى بالمنطقة عبء التنسيق والقيادة الإقليمية".
المحاضر بمعهد الشرق الأوسط بجامعة سكاريا التركية، يؤكد أن "مبدأ الانسحاب يجب الاحتفاء به، شريطة قيام القوى الإقليمية بأدوار تحقيق السلم والأمن الإقليميين، وعمل التحالفات الإقليمية المناسبة للقيام بتلك الأدوار".
ويشير إلى أن الحلول المحتملة لأزمات تلك الدول تكمن في "فكرة (الناتو الإسلامي)، التي لم تكتمل، وتفعيل اتفاقيات مبرمة مسبقا لتحقيق السلم الإقليمي مثل (الدفاع العربي المشترك)، وغيرها".
ورأى أنه يمكن بأفكار كهذه إعادة ترتيب الأوضاع في سوريا والعراق، كما أن "أفغانستان بحاجة إلى تفعيل دور قيادي لمنظمة التعاون الإسلامي بإحلال قوات إسلامية محل القوات الأميركية المنسحبة".

ويعتقد أنه يمكن كذلك "تحجيم الدور الإيراني التوسعي عبر تلك المنظمات"، ويلفت إلى أن "الانسحاب الأميركي بات أمرا واقعا، واحتياطات النفط الصخرية الأميركية المكتشفة تجعل من الانسحاب أمرا طويل الأمد".
وأشار إلى أهمية "تولي الحكومة الأفغانية أمن البلاد بعد الانسحاب الأميركي، وإيجاد حلول سياسية مع طالبان، وبناء الدولة، حيث باتت أفغانستان الآن ملكا لأبنائها وعليهم مسؤولية إحلال الأمن وتقاسم السلطة في إطار التحاكم للشعب الأفغاني".
وفيما يتعلق بالعراق، يقول الزواوي: "لم يكن لواشنطن وجود كثيف على الأرض، وانسحابها لن يؤثر كثيرا على الأوضاع التي تسيطر عليها المليشيات، ومن ثم يأتي دور الدول العربية وتركيا لإيجاد صيغة لإحلال السلام وإرساء الأمن".
المصادر
- جو بايدن يعلن "انتهاء المهمة القتالية" للقوات الأمريكية في العراق مع حلول نهاية العام الحالي
- بايدن يعلن انتهاء انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان في 31 أغسطس
- Irak: le vrai faux départ des soldats américains
- Iranian forces in Syria establish new prison in Raqqa
- في ظل استهداف قواعدها العسكرية... هل تنسحب أمريكا من سوريا كما حدث في أفغانستان؟













