محكمة مغربية ترفض إثبات طفل خارج الزواج.. إعلاء للشرع أم خلل قانوني؟
قررت محكمة النقض بالمغرب، أن الطفل "غير الشرعي" أي المولود خارج إطار مؤسسة الزواج لا يرتبط بالأب البيولوجي لا بالنسب ولا بالبنوة.
فصلت المحكمة في قرارها بين المحكمة الابتدائية بمدينة طنجة (شمال)، التي قضت قبل 3 سنوات بثبوت بنوة طفلة ولدت خارج إطار الزواج، فيما ألغت محكمة الاستئناف الحكم.
قرار المحكمة الذي نشرته صحف محلية في 19 أبريل/نيسان 2021، أثار جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي، بين مؤيد ومعارض، فيما عبرت هيئات حقوقية عن قلقها من القرار.
"ردة حقوقية"
قضت المحكمة الابتدائية بثبوت بنوة الطفلة دون النسب، وحكمت على الأب البيولوجي بأداء تعويض قدره 10 آلاف دولار، مستندة إلى نتيجة اختبار الحمض النووي، فيما ألغت محكمة الاستئناف الحكم بالاستناد إلى أحاديث نبوية وعدد من التفسيرات، ما دفع الأم إلى اللجوء إلى محكمة النقض التي أيدت حكم الاستئناف.
رأت محكمة النقض، أن "ثبوت البنوة البيولوجية غير الشرعية دون النسب، ليس له مبرر لا شرعا ولا قانونا"، وأفادت بأن القواعد القانونية وقواعد الفقه المعمول بها، وهي بمثابة قانون، تقر بأن المولود خارج مؤسسة الزواج "يلحق بالمرأة بغض النظر عن سبب الحمل".
وأشارت المحكمة في قرارها إلى الفصل 32 من الدستور، الذي ينص على أن "الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع"، كما أشارت إلى المادة 148 من مدونة الأسرة التي صدرت عام 2004، وتنص على أنه "لا يترتب عن البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر".
في بيان أصدرته في 20 أبريل/نيسان 2021، عبرت "فيدرالية رابطة حقوق النساء" (أهلية)، عن قلقها من الحكم الصادر عن محكمة النقض، موضحة أن حكم المحكمة الابتدائية استند إلى الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادق عليها المغرب، وكذلك الخبرة الجينية التي أثبتت أن الطفلة من صلب المدعى عليه.
وصفت الهيئة الحقوقية حكم المحكمة الابتدائية بـ"الجريء والمنسجم مع الدستور وفصله الـ32"، ولفتت إلى أن الجمعيات الحقوقية والنسائية أشادت به، وذهب البيان إلى حد القول، إن إلغاء الاستئنافية للحكم ثم إبطاله في النقض: "ضرب سافر لحقوق الطفلة والمصلحة الفضلى للطفل في المغرب، بدعوى أن الابن غير الشرعي لا يرتبط بالأب البيولوجي لا بالنسب ولا بالبنوة".
فوزية العسولي، رئيسة "المؤسسة الأورو متوسطية للنساء"، اعتبرت في حديثها مع "الاستقلال" قرار محكمة النقض "خيبة أمل لكل من كان يعتقد أن الحفاظ على المصلحة الفضلى للطفل هي غاية المشرع".
وطالبت الحقوقية، رئيس الحكومة وكل الفرق البرلمانية بتسريع وتيرة المصادقة على قانون الدفع بعدم دستورية القوانين، لضمان حق المتقاضيات والمتقاضين في الولوج إلى المحكمة الدستورية.
وشددت العسولي، على ضرورة إصلاح شامل لمدونة الأسرة وملائمتها مع الدستور ومع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ومع روح العصر، ورفع كل أشكال الحيف والتمييز التي تكرسها ضد النساء والأطفال.
ولفتت المتحدثة إلى ضرورة "تفعيل مبدأ سمو الاتفاقات الدولية المصادق عليها على التشريعات الداخلية المنصوص عليها في ديباجة الدستور والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تستوجبه عملية المصادقة عليها".
خرق للمساواة
اعتبرت المذكرة التي قدمتها المدعية إلى محكمة النقض، أن استناد الاستئنافية على أن "البنوة تستوي آثارها للأم سواء كانت ناتجة عن علاقة شرعية أو غير شرعية، بينما لا ترتب أي أثر في حق الأب إن كانت غير شرعية، يعد خرقا لمبدأ المساواة المنصوص عليه في الدستور وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، كما يخالف الحكم مقتضيات المادة 7 من اتفاقية حقوق الطفل التي تعطيه الحق في معرفة أبويه".
منظمة "المفكرة القانونية للأبحاث والمناصرة" - غير ربحية - اعتبرت موقف محكمة النقض من الاجتهاد القضائي المتعلق ببنوة الطفل الطبيعي لأبيه البيولوجي وحق الأم في التعويض، استمرارا لموقف هذه المحكمة من قضايا إثبات النسب، مشددة على أنه "موقف محكوم بالتشبث بحرفية النص القانوني استنادا على مرجعية فقهية تقليدية".
أشارت المنظمة في تقريرها 20 أبريل/نيسان 2021، إلى أن محكمة النقض قبل صدور مدونة الأسرة كانت ترفض تماما اعتماد الخبرة الجينية (تحليل دي إن إيه) في قضايا النسب، رغم مصداقيتها العلمية، متشبثة في ذلك بحرفية الفصل 91 من مدونة الأحوال الشخصية الذي ينص على أنه: "يعتمد القاضي في حكمه على جميع الوسائل المقررة شرعا في نفي النسب".
وكانت تعتبر تبعا لذلك الخبرة الجينية وسيلة غير مشمولة بعبارة "الوسائل المقررة شرعا، طالما أن الفقه الإسلامي لم يكن يعرف الخبرة الجينية"، ورأت المنظمة أن ذلك أدى إلى صدور "قرارات تتصف بالغرابة".
لفت التقرير إلى أن عددا من المحاكم سبق وقضت بثبوت نسب الأطفال المولودين خلال فترة الخطوبة لأبيهم اعتمادا على فتوى من الفقه الحديث، لكن محكمة النقض حينئذ سرعان ما نقضت هذه الأحكام متمسكة بقاعدة الولد للفراش، قبل أن يتحول هذا الاجتهاد إلى نص قانوني في مدونة الأسرة.
واعتبرت المفكرة أنه من المنتظر أن يفتح قرار محكمة النقض نقاشا عموميا حول وضعية الأطفال المولودين خارج إطار مؤسسة الزواج، تزامنا مع المطالب المتعددة من فعاليات المجتمع المدني بتعديل مدونة الأسرة بعد مرور 17 سنة من صدورها، وإطلاق حملات للترافع لدعم الأمهات العازبات من طرف عدة جمعيات نسائية من تيارات فكرية مختلفة.
وأشارت إلى أن التقرير السنوي الأخير - الصادر في 2019- للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، أوصى بضرورة حماية حق الأطفال في النسب بغض النظر عن الوضعية العائلية للوالدين.
الشرع والقانون
الباحث الإسلامي محمد عبد الوهاب رفيقي، اعتبر قرار محكمة النقض بعدم إثبات النسب باستعمال الحمض النووي بالنسبة للأطفال المولودين خارج مؤسسة الزواج وعدم إثبات النسب والبنوة بذلك، نوعا من التراجع باعتبار المغرب قطع أشواطا جيدة في تحديث القوانين وملاءمتها مع المواثيق الدولية واتفاقيات حقوق الأطفال.
رفيقي، قال لـ"الاستقلال": "المحاكم في المغرب، أصبحت تتجه أكثر نحو تحمل المسؤولية للآباء البيولوجيين وعدم التساهل معهم في تحمل مسؤولية الأفعال التي لهم نصيب فيها، وكانت عدة قرارات قد صدرت من بعض المحاكم تدعم هذا التوجه".
واستنادا إلى ما سبق اعتبر المتحدث، قرار محكمة النقض "صادما وغير متوقع"، معتبرا أن مدونة الأسرة غير واضحة في هذا الباب، رغم أنها تتحدث عن استعمال الوسائل العلمية إلا أنها لا تثبت النسب إلا بالطرق التقليدية، وتحديدا ما جاء في الفقه الإسلامي من أنه ليس من وسيلة لإثبات النسب إلا الفراش، طبقا لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش وللعاهر الحجر".
ومضى رفيقي إلى التوضيح أن الفقه الإسلامي بنى رأيه، على أنه ليس هناك من وسيلة لإثبات نسبة الطفل إلى الأب إلا ولادته في فراشه، رغم ما في هذا الأمر من مخاطرة في نسبة بعض الأبناء إلى غير آبائهم في حال الخيانة الزوجية، لكنه اعتبرها الوسيلة الوحيدة.
يرى المتخصص في الدراسات أن ذلك يكون مقبولا في حال عدم وجود وسيلة أخرى، قائلا: أما والحال أن العلم الحديث قد أفاد بالوسائل التي تقطع بنسبة الطفل إلى أبيه من عدمه، فإنني لا أرى أي مبرر لعدم توظيف هذه الوسائل العلمية، حفظا لحقوق هؤلاء الأطفال وحماية لهم من التعرض للضياع الاجتماعي والنبذ.
دكتور الدراسات الإسلامية والتصوف، عبد الله الجباري، قال إن الحديث الذي يستدل به على نفي نسب أبناء الزنى هو استدلال شارد، موضحا أن سياق هذا الحديث هو أن "سعد بن أبي وقاص" و"عبد بن زمعة" تنازعا في ابن وليدة زمعة، فالأول يدعي أنه ابن أخيه، والثاني يدعي أنه أخوه، وعضد حجته بكونه ولد في فراش أبيه، فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم للفراش".
وتابع في مقال نشر 21 أبريل/نيسان 2021، على موقع "بناصا" تعليقا على قرار المحكمة، أنه بناء على هذا، "فالحديث حجة في سياق النزاع أولا، ووجود فراش ثانيا، أما إذا لم يوجد النزاع والفراش، فالاستدلال بهذا الحديث شرود فقهي حسبما قرره ابن القيم، قال رحمه الله: "حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الولد للفراش عند تعارض الفراش ودعوى الزاني، فأبطل دعوى الزاني للولد، وحكم به لصاحب الفراش".
وتابع: "أما إذا لم يكن هناك نزاع بين دعوى الولد والفراش، فالحديث لا يؤطر النازلة، ولا علاقة له بها.
بدوره ذهب المتخصص في الدراسات الإسلامية، إلى أن جمهور الفقهاء المتقدمين الذين منعوا نسبة الابن إلى أبيه الزاني كانوا على صواب، لأنهم نسبوا الابن إلى أمه الزانية (للقطع) بأنه ابنها، ولم ينسبوه إلى الأب لأنه لم يكن عندهم التحليل الطبي الذي يمنحهم قطعا مماثلا للقطع السابق، أما وقد وجد في عصرنا، فوجب إعماله، ولا وجه لإهماله.
واعتبر الجباري، أن الاستناد إلى مادة مدونة الأسرة التي تنص على أنه لا يترتب عن البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية، لا يصلح لعصرنا وزماننا، فإما أن تكون البنوة غير الشرعية حائلا دون أي أثر من آثار البنوة للأب والأم معا، أو تكون العلاقة مع الأب مثل العلاقة مع الأم سواء بسواء".