تاباري فازكيز.. يساري فعّل ثقافة الحكم وأحيا الأمل في أوروغواي
تحدثت صحيفة "إندبندنت" البريطانية - النسخة التركية، عن اليسار السياسي أوروغواي، الذي كان في أفضل حالاته أواخر عام 2008، كباقي أنحاء أميركا اللاتينية.
وقالت الصحيفة في مقال للكاتب أوزغور أويانيك: "كانت جبهة أمبليو، الجبهة اليسارية لخوسيه موخيكا، والتي نالت احترام الجميع، قد فازت بالأغلبية في الجمعية ومجلس الشيوخ".
ولأول مرة في تاريخ البلاد، كان رئيس الجبهة اليسارية "تاباري فازكيز" قد أصبح رئيسا للبلاد.
وأضاف الكاتب: "كان اليسار في ذلك الوقت يتمتع بديناميكية إصلاحية وتقدمية في كل مكان، وكانت جبهة أمبليو قد قدمت القانون الذي يعترف بالإجهاض كحق لموافقة الرئيس فازكيز".
وكانت هذه خطوة ثورية، فلأول مرة في القارة، كانت هناك دولة -باستثناء كوبا- ستسمح بالإجهاض على المستوى الوطني.
لكن حدث ما لم يكن متوقعا، فقد عارض زعيم "جبهة أمبليو" ورئيس الدولة "تاباري فازكيز" القانون قائلا: إنه لا يرى الإجهاض كعمل طبي، وأنه "يتعارض مع الضمير الاجتماعي"، مع أن مسألة الاعتراف بالإجهاض كحق يعتبر من أهم نقاط المفارقة بين اليمين واليسار في أميركا اللاتينية، وفقا للكاتب.
على عتبة السياسة
وبحسب "أويانيك" فقد ولد "تاباري فازكيز" في 17 يناير/كانون الثاني 1940. في "مونتيفيديو". كان يحب كرة القدم والملاكمة وصيد الأسماك، والدردشة مع الأصدقاء المقربين طوال اليوم.
ولم يكن مهتما بالسياسة في الستينيات، حين كانت تجري أهم التطورات السياسية في تاريخ أوروغواي وأميركا اللاتينية. وبينما كان الجميع مشغولين بالسياسة، كان "فازكيز" مشغولا بالرياضة والتعليم.
وفي سن الـ16، تولى مسؤولية الشؤون الرياضية لطائفة كاثوليكية. وبعد فترة وجيزة، أسس ناديه الخاص المسمى "El Arbolito" مع أصدقائه. وفي عام 1978، تم انتخابه رئيسا لـ "Atletico Progreso”، أحد أقدم أندية كرة القدم في "مونتيفيديو".
وفي عام 1989، فاز النادي بلقب "الدوري الوطني" تحت رئاسته للمرة الأولى والأخيرة، في تاريخه الممتد لقرن. وكان ذلك في نفس العام الذي فاز فيه "فازكيز" بمنصب عمدة "مونتيفيديو".
ربما أدرك "فازكيز" قوة كرة القدم على السياسة، فقد تقدم كمرشح لرئاسة الاتحاد عدة مرات، إلا أنه لم يفُز بها قط، كما يقول الكاتب التركي.
وتابع قائلا: "وخلال سنوات الانقلاب، كان "فازكيز" يعمل رئيسا لقسم المستشفى البريطاني، كمتخصص في علاج الأورام والعلاج الإشعاعي".
وأردف: "لقد وصل إلى نقطة ناجحة للغاية في مهنته، ثم بقي في فرنسا لفترة، ثم أصبح مدير القسم في "La Republica”، أقدم جامعة في أوروغواي، وقام بنشر مئات من المقالات العلمية، كما أسس عيادة خاصة للعلاج الإشعاعي عام 1986".
التحق أيضا باللجنة المركزية للحزب الاشتراكي عام 1987. وعمل في "اللجنة الوطنية للاستفتاء" في العام نفسه. وفي انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 1989، كان اسم "فازكيز" قد تم إدراجه في المركز الثالث على قائمة سيناتور الحزب الاشتراكي.
ووفقا للكاتب التركي، فقد كانت هناك بعض الخلافات حول من سيكون مرشح الائتلاف اليساري، المسمى بـ "جبهة أمبليو" والذي يعني "الجبهة الواسعة"، لمنصب رئيس بلدية العاصمة "مونتيفيديو". لكن انسحاب المرشحين الأربعة الكبار من مؤسسي "جبهة أمبليو" في عام 1971، مهد الطريق أمام "فازكيز".
واستدرك قائلا: "في الواقع، لم تكن له صورة مشرقة كسياسي أثناء حملته الانتخابية، فقد سخر اليمين من قلة خبرته، بينما كان اليساريون غير مرتاحين لخطابه الشعبوي".
فلم يتمكن "فازكيز" من إلقاء خطابات مثيرة، بل كان على اتصال مع الجمهور بخطاب بسيط ونبرة منخفضة. ويصف الصحفي سيرجيو إسرائيل، "فازكيز" في انتخابات عام 1989 بأنه "لم يكن معروفا أو ماسونيا أو اشتراكيا".
تشكيل منصة واسعة
ويذكر "أويانيك" أنه لم يكن لدى "تاباري" ماض اشتراكي، وإن كان سيذكر أنه كان ماسونيا في مقابلة أجريت معه بعد ذلك بسنوات.
وفازت "الجبهة الواسعة" بمونتيفيديو مع "فازكيز" في انتخابات 1989. وقد كان هذا هو الانتصار العظيم الوحيد بعد المجلس العسكري.
وأردف قائلا: "فهم لم يتمكنوا من الحصول على رئاسة الدولة، لكنهم فازوا برئاسة المدينة التي تضم 40 بالمائة من سكان البلاد. لقد كان فوز الحركة اليسارية بالعاصمة نصرا عظيما، في الوقت الذي حوصرت فيه الاشتراكية الحقيقية في أنقاض جدار برلين، كما يقول الكاتب.
وقد حكم "فازكيز" مونتيفيديو دون الالتزام بالمعتقدات الأيديولوجية لليسار التقليدي، حتى استقالته في فبراير/شباط 1990، للترشح لرئاسة الدولة.
وخلال فترة عمله كرئيس لبلدية مونتيفيديو، رفع "فازكيز" الضرائب وخفض عدد الموظفين. كما خصص بعض الخدمات، واتبع أسلوب الإدارة اللامركزية من خلال المراكز البلدية الإقليمية.
إلى جانب ذلك، كانت هناك زيادة في الأجور الحقيقية والبرامج الاجتماعية. وهكذا أثبتت إدارة "فازكيز" في مونتيفيديو، أن الجبهة الواسعة هي بديل وخيار لحكم البلاد، برأي الكاتب.
لكنه نوه إلى أن "فازكيز" وقف في نقطة مختلفة تماما عن الخط الممتد من السبعينيات في الجبهة. ولأنه علم أنه لن يتمكن من إحداث تغيير من الداخل، اختار إنشاء منصة أوسع والضغط على الجبهة.
لذلك، قوبل التشكيل الإصلاحي الذي أسسه في أغسطس/آب 1994، باسم "Encuentro Progresista”، بمقاومة من الأحزاب اليسارية والشيوعية في جبهة أمبليو، وفق الكاتب.
وكنتيجة لذلك، لم تستطع الجبهة تحمل حصار "فازكيز". لهذا، تخلت عن المبادئ القديمة مثل تأميم البنوك والإصلاح الزراعي.
كانت تحركات "فازكيز" قد وسعت القاعدة وزادت من إمكانية التصويت في الجبهة. وهكذا، دخل "فازكيز" الانتخابات الرئاسية لعام 1994. كمرشح لجبهة أمبليو وإن كان قد خسر بفارق ضئيل جدا. لكن الجبهة فازت في مونتيفيديو مرة أخرى.
وتابع الكاتب: "بعد عام 2000، كانت الجبهة قد انقسمت ما بين الماركسية والاشتراكية الديمقراطية. لذلك أعاد "فازكيز" لليسار المنقسم وحدته من خلال تفعيل ثقافة الحكم". وحصل على 82 بالمئة من الأصوات ضد الزعيم الاشتراكي "دانيلو أستوري" في انتخابات الترشيح الداخلية للحزب.
ويعتبر الكاتب أن دخول "فازكيز" انتخابات 2004. بطيف ليبرالي، وديمقراطي اجتماعي، وشيوعي، قلل من التحيز والقلق المتراكمين في أجزاء كبيرة من أوروغواي.
وهكذا، ولأول مرة، شغل مرشح ائتلافي يساري مقعد رئيس الدولة في 2005. كما تمكن من الحصول على أغلبية في المجلس اليساري ومجلس الشيوخ بعد 33 عاما.
أمل عقبه ألم
ويرى "أويانيك" أن "فازكيز" سجل اسمه في كتب التاريخ، كزعيم حمل اليسار إلى رئاسة العاصمة، ثم إلى رئاسة الدولة، حيث تأهل للحكم، بعد أن حصل على أكثر من 50 في المائة من الأصوات، في الجولة الأولى.
وبعد ستة أشهر، فازت جبهة أمبليو ببلدية مونتيفيديو للمرة الثالثة. ولأول مرة في تاريخها، تلقت الحكومات المحلية في جميع مناطق أوروغواي السبع دعما أكثر من 70 في المائة.
وفي إشارة إلى سياسات "فازكيز"، ذكر الكاتب: أن الحكومة الأولى لجبهة أمبليو برئاسته، قد أدخلت رقابة ضريبية صارمة إلى جانب سلسلة من الإصلاحات.
فقد تم تطبيق نظام في الميزانية لم يسمح بالإنفاق الشعبوي بلا مقابل. وزادت صادرات اللحوم والحليب والسليلوز وفول الصويا والحبوب بشكل كبير، كما تم إحراز تقدم كبير في صناعة الأخشاب.
ولفت إلى أن "أوروغواي" أصبحت تستضيف سيّاحا أكثر من عدد سكانها خلال فترة "فازكيز"، كما تم إنشاء وزارة التقدم الاجتماعي.
كما تم تحويل الدخل إلى الشريحة الأفقر مع الخطة ذات المرحلتين، والمسماة بـ “الطوارئ والمساواة". وجرى إنشاء مجلس لتحديد الرواتب. والأهم من ذلك كله، تمت إعادة بناء النظام الصحي الذي كان منهارا.
وجرى تحديث نظام التعليم أيضا، وتطوير برنامج كمبيوتر محمول لكل طالب. كما اتخذ "فازكيز" خطوات لم تكن متخذة من قبل في مجال حقوق الإنسان. ووقع اتفاقية الاستثمار المتبادل مع الولايات المتحدة الأميركية في وقت كان الجميع يغلق فيه أبوابه أمامها.
وعندما سلم الرئاسة إلى "موخيكا" في عام 2010، كان يملك أصوات الشعب بنسبة 70 في المائة. ولكن عندما أعيد انتخابه رئيسا في مارس/آذار 2015، لم يسلمه "موخيكا" صورة جيدة.
فقد كان النمو الاقتصادي قد انخفض من 5 بالمئة إلى واحد، واقترب معدل البطالة من 10 بالمئة، كما انخفضت معدلات ربح الشركات المصدرة بشكل كبير. وكانت العديد من مؤسسات الدولة على وشك الانهيار ماليا، بحسب الكاتب التركي.
وأضاف: في ظل هذه الظروف، اضطر "فازكيز" إلى خفض الإنفاق وزيادة الخدمات، أي بدأ بسياسة التقشف. وعلى الرغم من ذلك، استمر العجز في الضمان الاجتماعي واستمرت الديون في التزايد.
وكان في عدم تمكن "فازكيز" إيقاف إضراب المعلمين في عام 2015. إشارة على أنه لم يعد بإمكانه قيادة جبهته الخاصة أو الحركة الاجتماعية.
واختتم "أويانيك" مقاله: بأن "فازكيز" لم يتمكن من تحسين الوضع بشكل عام، فقد تخلى عن أهدافه التعليمية لعام 2020. في الفترة التالية، مع أن قانون التعليم الذي سُن في عام 2008. كان أحد أكثر سياسات جبهة أمبليو نجاحا.
من ناحية أخرى لم يساعد السماح بالماريجوانا خلال فترة "موخيكا" في إنهاء تجارة المخدرات، واستمرت معدلات القتل والجريمة في الارتفاع.
كما أنه لم يكن هناك جديد يمكن أن تقدمه إدارة "جبهة أمبليو" والتي كانت في الساحة لمدة 15 عاما.
وختم الكاتب: "وفي 31 يوليو/تموز 2019. توفيت زوجته". وفي حديثه للصحافة بعد شهر، كان "فازكيز" يعلن إصابته بسرطان الرئة. وبرحيله في 6 ديسمبر/كانون الأول 2020، أنهى "تاباري فازكيز" فترة انتصار دامت ثلاثين عاما لصالح اليسار في "أوروغواي".