ضاري الزوبعي.. مقاتل بثورة العشرين كسر شوكة بريطانيا في العراق
.jpg)
مع مرور مائة عام على ذكرى "ثورة العشرين" ضد الاحتلال البريطاني بالعراق في 30 يونيو/ حزيران 1920، استذكر العراقيون الشيخ ضاري المحمود الزوبعي أحد أبرز قادتها الذين صالوا وجالوا ضد البريطانيين، وكان علامة فارقة في مقاومة الوجود الأجنبي.
وسطّر الشيخ ضاري في تاريخ حياته أروع المواقف البطولية بقيادته لأبناء قبيلته وقتاله إلى جانب الجيش العثماني ضد البريطانيين، ولا سيما في معركتي "الشعيبة" و"كوت العمارة" والتي تحقق النصر فيها للعراقيين والعثمانيين، وكانت من أكبر المعارك في الحرب العالمية الأولى.
زعيم قبيلة
ولد ضاري بن ظاهر بن محمود بن ظاهر بن حمام الزوبعي، في عام 1868، وهو الأخ قبل الأخير وإخوته من أبيه مجباس ومشعان وشلال وحرج وفرحان ومشعل ودرع.
كان والد ضاري يحبه حبا جما، إذ أجمع إخوته جميعا على مشيخة ضاري عليهم وعلى زوبع جميعها -إحدى بطون قبيلة شمر في الوطن العربي- بعد رحيل والده، وهو في مقتبل عمره حيث تزعم القبيلة وهو صغير في السن.
تعلم الضاري القراءة والكتابة من خلال قراءة القرآن الكريم، وله ستة من الأولاد هم: سليمان، خميس، حميد، حميدي، عبد الكريم، فرحان. وكان يسكن في قضاء أبو غريب بالعاصمة العراقية بغداد، والتي تسكنه عشيرة زوبع حاليا والممتدة من أبو غريب إلى الفلوجة في محافظة الأنبار.
وبحسب مذكرة لوزارة الدفاع البريطانية، فإن الضاري كان "رجلا جريئا ونشيطا، وكان يضرب بقسط وافر في سياسة بريطانيا على الصعيد العربي أكثر من أي شخص آخر".
ووصفته وزارة الدفاع البريطانية بعد وفاته بأنه "رجل أقوى من الصعاب، وأنه يستطيع السفر والعيش دونما شوق إلى وسائل الراحة التي وفرتها للإنسان حضارة الغرب، وأنه كان معتدا بثقافته".
"بطل الصحراء"
عرف الشيخ ضاري الزوبعي في العهد العثماني، بنزعته العدائية للبريطانيين الذي كانوا يعرفون سابقا بـ"الإنجليز"، وفي زمن الاحتلال لم يتقرب إلى الحكام ولم يتزلف إليهم، وكان الإنجليز أنفسهم يعرفون أنه خصمهم العنيد.
ذات يوم اجتمع الشيخ ضاري في إحدى مناطق بغداد جنوب بغداد، بالقائد في الجيش العثماني نور الدين في خيمته الخاصة ليعدا خطة الهجوم على الإنجليز، كونه كان رافضا لتقدم الجيش البريطاني.
واشترك ضاري -الذي لقب ببطل الصحراء- في معارك عديده ضد البريطانيين وأشرف على الأسرى من جنودهم بعد حصار مدينة الكوت جنوب العراق، وأسهم في معركة (اصطبلات) الطاحنة بين العثمانيين والمعسكر البريطاني.
الشيخ ضاري الذي شارك في ثورة العشرين، كان همزة الوصل بين الثورة في الفرات الأوسط وجنوب العراق، وبين المنطقة الوسطى والشمال، كان يمد الثورة بالرجال والسلاح والمؤونة من أجل استمرارها وتحقيق النصر على الغزاة.
ولم ينس البريطانيون مواقف الشخصيات التي كانت يحرض ضدها، كونهم عانوا الكثير ودفعوا ثمنا غاليا لأن العراق ثار من شماله إلى جنوبه، وكانوا يتحينون الفرص لكي ينتقموا منهم، وكان الشيخ ضاري ضمن هؤلاء، خاصة أنه مثل التحالف العضوي الوثيق بين السنّة في علاقتهم مع الشيعة في مواجهة الغزاة.
وبحسب ما ذكر ابنه سليمان، فإن الشيخ ضاري كان "يدا حمراء" في الثورة العراقية الكبرى، وكانت له مراسلات مع كربلاء والنجف وبغداد.
وفي أحد الأيام جمع الكولونيل البريطاني جيرارد ليتشمن رؤساء القبائل، في الرمادي غرب العراق وكان بينهم الشيخ ضاري وأقام لهم وليمة طعام، وبعد الانتهاء فاتحهم في الموقف الراهن، وقال: إنه يود الوقوف على رأيهم باعتبارهم عشائر من أهل السنة، ضد الثوار الشيعة الذين يطالبون السلطات الإنجليزية بقيام حكومة مستقلة.
وبادر الشيخ ضاري بالرد ولم يفسح المجال لأحد من المجتمعين بالكلام، وقال: لا تذكر يا ليتشمن كلمة "شيعة" بل هو دين واحد وعرق واحد وكلمة واحدة وإجماع على تشكيل حكومة وطنية، فإذا لبيتم مطاليب الثورة، فإن الاستقرار والأمن يسودان العراق.
هز لندن ضاري وبكاها
— نايف الصنيدح (@naiif140) August 7, 2018
صورة مخفر خان النقطة ويسمى حاليا خان ضاري
قرب قضاء أبو غريب بالعراق وهو المكان الذي قتل فيه الجنرال البريطاني( لجمن ) في عام 1920 م على يد الشيخ ضاري المحمود الزوبعي الشمري
والذي لقن الاحتلال اقوى صفعة بعصره اهتز لها عرش الملك pic.twitter.com/jsdFu9NRcq
مقتل ليتشمن
ترك ليتشمن شهرا يمر بعد هذا الاجتماع وبعث يطلب من ضاري أن يوافيه إلى "خان النقطة" (مخفر بريطاني) وهو مقر عمله، ويقع بين الفلوجة وأبو غريب غرب بغداد.
وضاري الذي اعتذر أكثر من مرة عن تلبية الطلب بحجة المرض ما لبث أن اضطر إلى لقائه، وقد حصل هذا اللقاء يوم 12 أغسطس/ آب 1920، فقد وصل ضاري إلى الخان قبل وصول ليتشمن إليه.
وعمد ليتشمن خلال اللقاء إلى شتم الشيخ الضاري وتوجيه اتهامات عدة بهدف الاستفزاز والتحدي، وكان ضاري يحاول ما استطاع أن يتحمل ويصبر ويوضح، لكن الطرف الآخر يزداد حدة ورفضا.
وصل الأمر في ليتشمن إلى حدود التهديد بالتصفية إذا لم يغير ضاري في سلوكه ومواقفه، وأشار إلى ما لحق عددا من الزعماء الوطنيين نتيجة عدم الامتثال لأوامر بريطانيا من نفي وسجن وتشريد.
وضاري الذي كان يستمع وينفي أية مسؤولية عما وقع من حوادث غرب بغداد ضد الجيش البريطاني، وأن قبيلة زوبع لم تشارك فيها، حاول أن يتجنب الصدام، لكن حين بلغت الإهانات حدا جارحا خرج ضاري من الغرفة للحظة وأبلغ من بقي من جماعته، وبكلمات قليلة، أن ليتشمن تجاوز كل الحدود في التعامل معه.
وهنا أطلق ثلاثة من رجال ضاري، ابنه سليمان ومعه اثنان، النار على ليتشمن وأصابوه إصابات بالغة، وحين كان يتخبط بدمائه لم يمت إلا بعد أن أجهز عليه ضاري نفسه بالسيف، وهكذا انتهى واحد من أشرس ضباط بريطانيا وأكثرهم دموية وقسوة، وكانت خسارته بنظر قادته ورؤسائه كبيرة لا تعوض.
كان لمقتل ليتشمن تأثير معنوي كبير على العشائر في جميع المناطق العراقية المناهضة للبريطانيين. وانتشر خبر مقتل القائد البريطاني بين العشائر انتشار النار في الهشيم. لهذا عمدت إلى إشهار سلاحها عقب مقتله وأعلنت الثورة.
وتناولت السينما العراقية في فيلم "المسألة الكبرى" قصة ثورة العشرين ودور الشيخ ضاري الزوبعي، مجسدا المشهد البطولي لقتل القائد البريطاني.
رحيل مشرّف
وبعدها بقي الشيخ ضاري مطاردا بين العراق وسوريا وتركيا، ورصدت الحكومة الإنجليزية مبلغ 10 آلاف روبية لمن يأتي به حيا أو ميتا، فوشى به سائق أرمني، عرف الشيخ ولذلك أكثر من التردد على البادية للكيد تمهيدا لإلقاء القبض عليه.
وفي سنة 1928 عندما كان مريضا، حاول أصدقاؤه نقله للعلاج من مدينة نصيبين التركية إلى سوريا لكن خانهم السائق وقادهم بالخداع إلى القوات البريطانية.
في بغداد لم تتح السلطات البريطانية لضاري إمكانية العلاج فأخذت صحته تسوء وتتدهور يوما بعد آخر، ورغم ذلك قدم للمحاكمة، وزعم الطبيب الإنجليزي الذي فحصه أنه في وضع صحي يحتمل المحاكمة.
وقد جرت المحاكمة فعلا، وقدمت السلطات عددا من الشهود الذين شهدوا ضده، في الوقت الذي امتنعت أو أخرت سماع شهود آخرين، وبعد محاكمة سريعة وشكلية، صدر الحكم عليه بالإعدام ثم ما لبث أن خفف إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.
كان ضاري في الثمانين من العمر لما صدر عليه حكم الإعدام. وفي لحظة وعي قال للقضاة إنه على وشك الموت ولا يبالي بأي حكم يصدر عليه، وأنه إذا لم يمت الآن، وفي هذا المكان، فسوف يموت غدا وفي السجن.
وما كاد يصل إلى السجن حتى اشتد مرضه ودخل في غيبوبة، وبدل أن ينقل إلى المستشفى فقد جرى تمريضه وأشرف عليه بعض السجناء خاصة من قبيلة زوبع، لكن عند الفجر فاضت روحه، وهكذا انقضت حياة واحد من أبرز ثوار العراق في الأول من فبراير/شباط عام 1928.
وعندما أعلن عن وفاة ضاري في اليوم التالي، بلغ غضب الجماهير حدا لا يوصف، فتجمع الآلاف وأرادوا انتزاع الجثمان من السلطات البريطانية، وبعد أخذ ورد، ومفاوضات شاقة، أمكن الوصول إلى اتفاق يحفظ الأمن والنظام أثناء التشييع.
كانت جنازة الشيخ ضاري يوما مشهودا في تاريخ العراق الحديث، نظرا لضخامة عدد المشيعين، والحزن الذي خيم على الجميع، والأهازيج المليئة بالتحدي في مواجهة سلطات الاحتلال والدمى التي نصبوها.
مرت الجنازة في أحياء عديدة، وعبرت النهر إلى صوب الكرخ في بغداد، بعد ثلاث ساعات، وهي المدة التي استغرقتها الجنازة إلى أن وصلت إلى المقبرة، حيث ظلت الجماهير محتشدة ما يزيد على ساعتين لكي تنتهي المراسم.
وصدرت عدد صحيفة "الاستقلال البغدادي" في صباح يوم الخميس الموافق الثاني من شهر فبراير/ شباط 1928 مجللة بالسواد وهي تعلن بعض العناوين: "مات ضاري المحمود.. بغداد في مأتم. يا ضربة حر لن ننساها.. هز لندن ضاري وبكاها".