لهذه الأسباب يرى أهل فاس أنفسهم مميزين عن باقي المغاربة
مقطع مصور لمدونة مغربية نشرته على قناتها بيوتيوب، جر عليها وابلا من الانتقادات من قبل ناشطين اتهموها بالعنصرية، ودعوا إلى مقاطعة قناتها عبر حملة واسعة وقوية على مواقع التواصل الاجتماعي.
المدونة وثقت مقلبا حاولت من خلاله إيهام زوج أختها في المستشفى أن مولودته داكنة البشرة (سمراء اللون)، ليرد عليها إنه من المستحيل أن تكون هذه ابنته. المدونة استعانت بإحدى المواليد الجدد في المستشفى لإتقان ما اسمته بـ"المقلب (الخدعة)"، وهو ما زاد من حدة الانتقاد لها.
المنتقدون تحدثوا عن عنصرية المغاربة تجاه ذوي البشرة السمراء، وأن هذه العنصرية ليست تجاه الآخر فقط، بل بينهم وبين بعض أيضا. وهو ما حاول المغاربة محاربته عبر حملات توعوية.
في المغرب يوصف الأمازيغي بـ"البخيل"، والقروي بـ "العروبي" والكلمة الأخيرة تستعمل في بعض الأحيان كسبة للدلالة على عدم تمدن شخص ما أو تحضره، فيما يوصف أهل مدينة فاس بـ"الجبناء". وبدورهم يمارس بعض أهل فاس عنصرية على المنحدرين من باقي مناطق المغرب.
المؤرخ المغربي عبدالوهاب الدبيش حدد المظهر الأول للعنصرية بالمغرب في العلاقة بين المدن والبوادي، إذ أنها حصرت فئتين اجتماعيتين هما "أهل فاس" و"المغاربة".
وأوضح أن الموقف موحد من أهل فاس في جميع مناطق المغرب، فهم يتهمون سكان المناطق الأخرى بـ "العروبية" والقرويون يتهمونهم بـ"الجبن وقلة الباءة والأصل اليهودي". فما هي الأسباب الاجتماعية التاريخية لهذه العنصرية؟.
تاريخ فاس
ظلت فاس أهم عواصم المغرب، حتى النصف الأول من القرن العشرين وكانت مقسمة لمدينتين إحداها جعلها المرينيون (سلالة أمازيغية حكمت بلاد المغرب الأقصى من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر ميلادي) "فاس الجديدة" العاصمة، والأخرى فاس القديمة مركزا للنشاط الاقتصادي والتجاري، إلى أن قام يوسف بن تاشفين بتوحيدهما، وصارت القاعدة الحربية الأولى في شمال المغرب للدول المتتالية التي حكمت المنطقة.
تحولت المدينة إلى مركز ديني وعلمي في شمال إفريقيا، أسست فيها جامعة القرويين عام (245هـ/859 م) التي كانت مقصدا للطلاب من جميع أنحاء العالم الإسلامي وأوروبا، فهي أقدم جامعة في العالم.
عرفت فاس في العهد الإدريسي انتعاشا اقتصاديا وعمرانيا لوجودها في منطقة سهل سايس الخصبة، ولتوفُّرها على موارد متعددة ومتنوعة ضرورية للبناء كمادتي الخشب والأحجار المتوفرة بغابات ومقالع الأطلس المتوسط القريب، بالإضافة إلى وفرة الملح والطين المستعمل في صناعة الخزف.
وينظر أهل فاس، حسب حديث الدبيش لصحيفة "الاستقلال": "للقروي على أنه غير متمدن وغير متحضر وغير متمكن من أساليب الحياة المدنية، أي أنه فوضوي وخشن وليس ذكيا".
ذلك بحكم تجذر الحياة المدنية لديهم، وهم مجتمع يدعي الرفاهية والتنميق في الحياة ولهذا كانت الأسر الغنية في جميع مناطق المغرب تتباهى بمصاهرة أسرة فاسية، حتى وإن كانت من أراذل القوم، حسب دكتور التاريخ.
مجتمع القبيلة
يرجع عدد من المؤرخين سبب العنصرية بين المغاربة إلى الحضور القوي للقبيلة في المجتمع المغربي، فقد شكلت القبيلة قاعدة التنظيم الاجتماعي في البوادي المغربية مع ما اتسم به النظام القبلي من انغلاق، ذلك بسبب قلة الموارد المادية وندرتها والتنافس الحياتي وصراع البقاء.
هذه النزاعات المستمرة بين القبائل جعلت من القبيلة كيانا منغلقا على ذاته والعلاقات التي تنشأ بينه وبين غيره تتسم في الغالب بالمحدودية.
ويشكل النسب الذي يعبر عنه بانتماء معظم أفراد وجماعات المجموعة القبلية إلى جد واحد حقيقي أو متخيل، الرابطة التي تجمعها وتوحدها ضد الآخر المنتمي إلى نسب مغاير، ففضلا عن كون الانتساب إلى جد مشترك يمثل محددا مهما لهوية الجماعة ورمزا لاستقلاليتها فإنه يحدد طبيعة العلاقات التي يجب أن تقام بين الأفراد أو بين الفروع المنسوبة إلى ذلك الجد.
ترتب على هذا الوضع اعتزاز المغاربة بنسبهم وحرصهم على ضبط أنسابهم والتفاخر بها حيث عد النسب المشهور معيارا للتصنيف الاجتماعي.
ومما يدل على دور النسب في تحديد الذهنية المصنفة للإثبات بالمغرب حضور قضية الكفاءة في النسب حين الزواج، حيث رفض البعض تزويج بناتهم لمن يعتبرونهم أقل نسبا منهم.
أضف لهذا الاعتزاز بالنسب مسألة ميل بعض القبائل في المغرب إلى ربط نسبها بالمغرب إلى ربط نسبها بالعرب ثم بأهل البيت وهو ما كانت له خصوصية عن باقي الأنساب.
مخلفات استعمارية
عرفت فاس خلال أحقابها التاريخية أشكالا متعددة من التبادل الثقافي بين مكوناتها البشرية، ولم تخل هذه الظاهرة من صراعات كانت في بعض الحالات تتخذ صيغا عنيفة بين سكان فاس وباقي المناطق، جعلت أهل فاس يتخذون موقفا حضاريا خاصا بهم وهو "الانغلاق" عبر عنه المؤرخ ابن الخطيب عبر القول إن من خاصية سكان فاس أنه "ذئب" وأنه يعطيك من بقله ولا يعطيك من زيته".
يفهم ذلك عند سكان المناطق الأخرى على أنها "عنصرية، أو أنها شكل من أشكال "التدليس". في حين أنها مظهر طبيعي وموقف عادي أساسه أن المجتمع "الفاسي" المتمدن، والذي ألف مظاهر المدينة وتأقلم فيها وضبط قوالب معاملاتها يعرف كيف يوظف مواقفه البراغماتية، في مجتمع قبلي لم يتجاوز بعد في معاملاته حدود المبادلة العينية إلى مستوى أرقى، رغم غلبة العمران المديني على أغلب مجالاته الجغرافية.
ويفسر المزاح بين أفراد المجتمع على أساس الانتماء القبلي أو الجغرافي أمر قديم في الأنثروبولوجيا التاريخية والسياسية، لكن الجديد هو تحول ذلك المزاح إلى "سخرية واحتقار".
ويرجع تداول نعوت قدحية على أساس الانتماء القبلي أو الجغرافي إلى الفترة الاستعمارية، عندما انهزم المغاربة أمام الفرنسيين والإسبان شعروا بالمهانة والاحتقار، فبدأوا في احتقار بعضهم.
السلطات الاستعمارية "عززت" ذلك الأمر من خلال القوانين "التمييزية" التي كانت تسنها والتي كانت في صالح البعض على حساب آخرين.
عنصرية طبقية
وبينما تربط بعض كتب التاريخ هذه العنصرية بـ "اختلاف السلالم القيمية من منطقة إلى أخرى"، إذ أن أهل فاس الذين يعرف عنهم أنهم لا يصلون في الشجار إلى درجة العراك بالأيدي ويعتبرون العنف البدني نوعا من الهمجية، فإن آخرين يعتبرون ذلك نوعا من الخوف والجبن".
الدبيش قال: إن "عنصرية المجتمع الفاسي مختلفة عن عنصرية المغاربة تجاه الآخر، فالمرأة الفاسية منذ زمن لم تكن تجد أي حرج في الزواج من ذوي البشرة السمراء وذلك مع بداية القرن العشرين وبدء الهجرات السنغالية إلى المغرب في إطار الزاوية التجانية بفاس. عندما خلقت علاقات مصاهرة بين المجتمع الفاسي والسنغاليين أو الأفارقة المنضوين تحت الزاوية ولم تكن أي أزمة في ذلك".
وشدد الدبيش على أن "عنصرية أهل فاس هي عنصرية طبقية وليست عنصرية مرتبطة باللون. بينما لدى الأمازيغ عنصرية اللون، إذ لا تقبل الأمازيغية الزواج من ذي اللون الداكن وتسميه بـ"القبلي".
واستشهد أستاذ التاريخ بنص يعود إلى القرن السادس الهجري يؤكد أن أحد المتصوفة كان على وشك الزواج من أمة ذات بشرة داكنة فقال له شيخه "تتزوجها وأنت تعرف أن نكاح الحبشية عند المصامدة عار".
فالزواج من داكني البشرة كان يعتبره الأمازيغ وصمة عار على جبين الأسرة ويمكن أن يقاطع على إثره الأهل ابنتهم ويحرمونها من الإرث إذا قبلت به.