هيثم أحمد زكي.. عن الذين يموتون وحدهم

12

طباعة

مشاركة

بعيدا عن الأنظار، في مكان ما لا تطاله الكاميرات ولا أعين المصورين، في ركن ليس له علاقة بالمكان المكشوف، في زاوية لا يراها الواقفون هناك ولا المارون من هنا، في ساعة من الليل البغيض، لا تتسع إلا لشخص واحد فقط، تماما كالنعش، في زمان مجهول وموقع مطرود من الساعة وملدوغ من عقاربها، كأنها الخامسة والعشرون من كل يوم، يجلس المرء مجبرا على المكوث وحده، ليس حبا في الانعزال، وإنما اضطرارا إليه.

يحاول الإنسان -رغم عزة نفسه- أن يلفت الأنظار إلى حاله، يقول: يا عالم ياهو، أنا وحدي هنا، أليس منكم رجل رشيد؟ يا ناس يا بشر، أنا أشكو وحدتي، أناشدكم، يا عمي الذي هناك، هل تسمعني؟ يا سيدي الذي أمامي، هل تراني؟ يا سيدتي التي بالخلف، هل تلاحظين ظهري المحني؟ يا سيدة الحسناوات، ألست وسيما بالقدر الكافي لتقتربي؟ يا حضرة الآنسة، أعلم أنني كئيب جدا، مظلم جدا، موحش جدا، لكن ليس حبا في الظلام، وإنما لأنني قنديل، والزيت بين يديك، أشعليه أُضِيء، أوقديه أُنِر، قولي: تعال، وسيختفي الظلام!

يحاول الإنسان، وتنتهي طاقته في المحاولة، ييأس منها ويبغضها، يكره الناس ويبغض العالم، يتأمل في أي وجه عدا وجوههم، يتأمل الوجوه التي في الصور، يتأمل الوجه الذي في المرآة، يتأمل وجه ميكي ماوس بواجهة أحد المحلات، يتأمل وجه سبونج بوب على «إم بي سي» ثري، يتأمل وجوه الممثلين بإعلانات السينما، يتأمل أي شيء، وكل شيء، عدا الوجوه التي تولي له قفاها، كي لا يتذكر أنه رغم عدد البشر المهول في الدنيا، لا يوجد خمسة أشخاص منهم ينظرون إليه.

مع الشهرةِ، وعدد من الجمهور، تزداد الغربة أكثر، وتصل الوحدة إلى مستوى قياسي، تتخيل أن هؤلاء جميعا يعرفون قدرك، يحتفون بالصورة معك، يتبركون بمصافحتك، يرتبكون بها، يستشعرون الهيبة في محياك، لكنك هناك، في الحجرة المظلمة بالساعة الخامسة والعشرين من كل يوم، لا تجد بالقرب منك ولو شخصا واحدا فقط، ليقول لك إنك جميل رغم كل شيء، وإنني بعيد عن الأضواء، في الظلام، معك. 

في لقاء تلفزيوني، بين الجميل «فؤاد المهندس» رحمه الله، و«مفيد فوزي»، بكى فؤاد، وأي فؤاد ذاك الذي يملكه فؤاد! بكى حين سأله مفيد عن كونه «بيدلع نفسه، مفيش حد في حياة فؤاد المهندس؟»، فأجابه: «مفيش، ملقيتش حد يدلعني يا أستاذ مفيد، أنا مفيش حد استناني على غدا...» وبكى فؤاد، وصمت مفيد!

تخيل الهرم يبكي؟ تخيل القمر يشكو وحدته؟ تخيل الشمس التي تشرق على العالم بأسره، تقول إنه لا شيء يمنحني الضياء! تخيل عالَما ممتلئا عن آخره بالبشر، لا يجد فيه الإنسان إنسانا يؤنسه، لا يجد المرء حنانا يملأ عليه حياته، لا يجد الفرد فردا يجعل منهما جماعة، لا يجد الواحد مَن يشعره بأنه موجود، بأنه ما زال حيا، بأنه ليس شفافا إلى هذا الحد الذي لا يُرى! أنه حتى لو بهت لونه لكن ما زال به أثر من الفرشة والألوان، أنه ولو وهن عظمه فما زال به أثر من الطينة والصلصال!

في ساعة من ليل موحش، قالت لي صديقتي: تعال نمشي بلا حساب، بلا عد للخطوات، بلا تفكير في وجهتنا، ووجدتها تأخذنا في طريقنا إلى المقابر، مررنا بهم، وقالت: تأمل، كل هؤلاء الآن معا، وأنت قبل أن تأتي، وبعد أن تعود، وحدك، وأنا بعد ذلك، وحدي، بالله مَن الموتى؟ ومَن الأحياء؟ وهل الحياة تُقاس بالأنفاس أم بالنفوس؟ بالبيت والقبر أم بالمكان الذي ستجد فيه الدفء منهما؟ بعدد الأكتاف التي تستطيع الارتكان إليها في حياتك، أم بعدد الأكتاف التي قد تحملك حين مماتك، أيها أصدق؟ لا أحد يُدفن وحيدا، لكن الكثيرين الكثيرين، يموتون وحدهم! 

وأتخيلني أنادي من جنازتي، أنظر من خلف الكفن بعينين قاسيتين لا تبكيان، أقول يا ليت يا ليت! لو كانت كل هذه الأكتاف التي تحمل النعش بعد موتي، موجودة قبل موتي، لكان النعش الآن فارغا، ولكنت الآن ممتلئا، وأحيا! وهذا ليس اعتراضا على القدر –لا سمح الله-، وليس احتجاجا على الموت –لا قدر الله-، وإنما عتاب أخير، وانتهى! 

بالأمس، الذي قبل سنوات قليلة، مات «أحمد زكي» بمرض الوحدة قبل أن يموت بالسرطان، وسرطان القلب أشد من سرطان الرئة، واليوم، يفاجئنا –يا لبجاحتنا ما زلنا نتفاجأ- موت جديد، ووداع آخر، بالمرض نفسه، للرجل نفسه، لكن في نسخة منه، اسم الأصل أحمد، واسم النسخة «هيثم»، وها هو الولد، راقدا بالمشرحة، نائما في ثلاجة الموتى، تأخر في الخروج من برودة الموتى المساكين إلى دفء الحي الكريم، وسبب التأخير: «لم يأت لتسلمه أحد».

إلى هذا الحد يا عالم يقسو العالم، وإلى هذه الدرجة تقتل الوحدة، ولن تشعروا بالموت البطيء ما دمتم في حياتكم السريعة، لا تلتفتون إلى الذين يتساقطون على اليمين وعلى الشمال، يمدون أياديهم، يضربون المياه بكفوفهم، يقولون: الحقونا، لكنكم بالأعلى لا تسمعون أحدا، وصوت القبطان أعلى في آذانكم من صوت عزرائيل، يأتي ويدع الفرصة ساعة للناس كي ينتبهوا! يا ناس هل يعرف أحد هذا؟ يا ناس أحمله أم تحملونه؟ يا ناس أنا الموت فهل يهتم أحد أن يبقى ذلك الشيء على قيد الحياة؟ ولا يجيب الناس؛ يقول: اقبضني فورا وبسرعة.

وأنا هنا لا أرثي أحدا، لا أرثي الذين رحلوا أولا، ولا الذين رحلوا مبكرا، ولا الذين سيرحلون بعد شهور، وإنما أرثي الذين لم يرحلوا بعد، وكان بوسعهم أن يكونوا ذكرى مضيئة في اللحظات الأخيرة للذين رحلوا فجأة، وهم في الأصل لم يرحلوا فجأة، أعطونا التنبيهات، دقوا كل الأجراس والنواقيس، لكن كان السادة الذين لا يلتفتون حتى يصلوا، «وِدن من طين وودن من عجين»، ونقول لهم: مبارك، لم تلتفتوا، وبالفعل وصلتم، صلاة الجنازة، على آخرين، ماتوا حين لم تسمعوهم يوم كنتم في طريقكم إلى جنازاتهم!