بالمندي والفحسة والكرك.. كيف أسر المطبخ اليمني عواصم العالم؟
المندي، المضبي، المضغوط، الفحسة، المعصوب، الفتة وخبز الملوح، وغيرها من عشرات الأطباق التي تميزت بها المطاعم اليمنية، تلقى ترحيبا واسعا من مرتادي تلك المطاعم في أغلب أنحاء العالم.
من "غوانزو" في الصين وحتى "ميتشغن" في الولايات المتحدة الأمريكية، تنتشر المطاعم اليمنية، حاملة معها إرثا طويلا من ثقافة كانت نتاج عشرات السنوات من التراكمات الحضارية والخبرات اليمنية الخالصة.
تنتشر هذه المطاعم في العواصم العالمية، التجارية منها والسياحية، ابتداء من الدول المحيطة باليمن، كدول الخليج العربي، ودول القرن الإفريقي، وحتى أقصى الشرق في قارة آسيا، وأقصى الغرب في الولايات المتحدة.
أينما يممت وجهك في أي بلد من بلدان القارات الخمس، حتما ستجد مطعما يمنيا هنا أو هناك يقدم أطباقا شعبية، ولدى زيارتك لها ستجد جنسيات متعددة ترتاد هذه المطاعم.
ورغم اختلاف ثقافات وتقاليد الشعوب وتعدد رغباتهم في الأكل، إلا أن المطاعم اليمنية استطاعت أن توحد زائريها وتجمعهم على ثقافة واحدة، وتكاد تلقى شبه إجماع على تفرد وتميز المطبخ اليمني، المتعدد بأطباقه، الغني بمكوناته.
سر المهنة
يقول الشيف اليمني وجدي العريفي، الذي عمل "معلما" لدى عدد من المطاعم اليمنية في مدينة إسطنبول التركية: "زوار المطاعم اليمنية من كل الجنسيات العربية والإفريقية، من دول الخليج وبلاد الشام والعراق والأردن وفلسطين ومصر والمغرب العربي والصومال وإثيوبيا وكينيا وتنزانيا، والكثير من الجنسيات، سواء كانوا تجارا أو طلابا أو مقيمين، أو حتى من أهل البلد الأتراك".
مضيفا في حديثه لـ "الاستقلال": "غالبا ما يبدي الزبائن ارتياحهم للوجبات اليمنية، وحسب إفادات بعضهم، فإنهم كلما سافروا أي بلد، فإنهم كثيرا ما يبحثون عن أماكن وجود المطاعم اليمنية، وتكون ضمن أولوياتهم".
يضيف العريفي: "الأطباق اليمنية مطلوبة لكل الجنسيات، لكن الأكثر طلبا وشهرة اللحم المندي، والرز المندي، والفَحْسَة (مهروس اللحم) مضافا إليه مرق اللحم الثقيل، والملوّح (الخبز الساخن)، بالإضافة إلى المعصوب وفتة التمر، والشاي العدني الثقيل (كرَك).
أما عن سر تميز الأكل اليمني فيقول الشيف وجدي: "يعود سر تميز الأكل اليمني لعدة أسباب، بعضها يتعلق بكون الثقافة اليمنية لا تطبخ إلا الطازج، فاللحم، على سبيل المثال، مذبوح بشكل يومي، الأمر الذي ينعكس على مذاق الأكل، وبعضها يتعلق بطريقة الطباخة، وبعضها يتعلق بكونه صحيا".
وتابع: "نحن على سبيل المثال، لانستخدم الزيوت بكثرة في تحضيرنا للوجبات، وذلك قد انعكس على مذاق الأكل بشكل جيد، كما أن استخدام الزيت بكثرة مضر صحيا، (ومكلف ماديا، يضيف العريفي ضاحكا): أيضا لا نضيف الخميرة إلى الملوح (الخبز الساخن) الذي يطلبه كل الزبائن تقريبا، فالخميرة مضرة صحيا، لكننا لا نضيفها لأسباب تتعلق بجودة المذاق".
طريقة التحضير
يقول العريفي: "جودة المندي تبدأ من جودة اللحم وطزاجته، ثم طريقة تحضيره، حيث يحضّر اللحم طازجا، مذبوحا بنفس يوم التحضير، وبعد أن تضاف إليها البهارات والتوابل اليمنية، يوضع في حفرة محكَمة الإغلاق تحت الأرض، لمدة ساعتين ونصف، ما يجعل اللحم مستويا بشكل جيد من القشرة الخارجية وحتى العظم، لتعرضه لدرجة حرارة عالية وموزعة، ويوضع الرز المندي تحت وعاء اللحم في نفس الحفرة، حتى يتم التقطير على الأرز، ولا يضاف الزيت إلى اللحم المندي بحيث يظل طعمه مستساغا".
يضيف الشيف العريفي: "أحد أسباب التميز هي البهارات اليمنية، وهي من أهم ما يميز المطبخ اليمني، فالوجبات تحتوي على خلطات فريدة ومتوازنة من البهارات التي تضاف للأكل، وتجعله فريدا بمذاقه، وتضاف لجميع الأطباق، بمكونات معينة، ومقادير محكمة ومتوازنة، وعدم ضبط المقادير ينعكس على مذاق الأكل بشكل سلبي، في معظم الأحيان".
العريفي يؤكد أيضا في حديثه: "من المهم معرفة ماذا يضاف للوجبات ومتى يضاف، فمثلا لتحضير طبق من الطبيخ المميز، يجب وضع الخضار بحسب الأولوية، وتقديم صنف من الخضار على صنف آخر أثناء التحضير، قد يفسد مذاق الوجبة، ولا يجعلها مميزة".
ديكور وبهارات
وفي حديث للاستقلال، قال مدير مطعم الركن اليماني في إسطنبول، هيثم الورافي: "يبدأ تميز المطاعم اليمنية من الديكور، حيث تعتمد معظم المطاعم اليمنية ديكورا تقليديا وجلسات على الأرض، تحمل طابعا يمنيا فريدا، وتجذب معظم الزبائن وتبعث على الارتياح لديهم".
يضيف الورافي: "بالنسبة لتميز الأصناف فإن السر يكمن في شرائها طازجة، وفي طريقة تحضيرها، فاللحم على سبيل المثال، نشتريه مذبوحا بشكل يومي، وبالطبع لا نشتري أي لحم، بل نجرب عدة أنواع من الخراف حتى نستقر على نوع معين، حيث يختلف مذاق اللحم من مدينة لمدينة، ومن ريف لريف بحسب المراعي، ولا نستخدم اللحوم المخزنة والمثلجة، وكذلك بقية الخضروات، نشتريها طازجة بشكل يومي، من الموردين أو المزارعين".
الورافي يشرح أحد أسرار تميز الوجبات اليمنية بقوله: "استخدامنا لأنواع معينة من البهارات، وبمقادير معينة، ولضمان جودة الأكل، فإننا نستورد أصنافا معينة من البهارات من اليمن، رغم صعوبة الاستيراد هذه الأيام، بسبب الحصار والحرب، كما لا نستخدم بعض البهارات في السوق المحلية كبدائل للبهارات اليمنية".
يتابع الورافي: "من أحد أسرار إتقان الوجبات اليمنية، أنها تحضر على أيدي طباخين يمنيين ماهرين، وعادة ما نستقدمهم من اليمن، وكل المطاعم اليمنية المنتشرة في عدد من عواصم العالم تقريبا تستقدم الطباخين من اليمن، وذلك لصعوبة إتقان الوجبات اليمنية على أيدي طباخين من جنسيات عربية أخرى".
يضيف الورافي: "نحن يمكن أن نوظف عمالا من أي جنسيات أخرى، لكن الطباخين يجب أن يكونوا يمنيين، أو عاشوا في اليمن لسنوات طويلة، وهناك مطاعم عربية تقدم وجبات يمنية بأيدي طباخين من جنسيات عربية، لكنها غالبا ما تلاقي ركودا، لعدم قدرتها على الإتقان، فالوجبات اليمنية لا يمكن تعلمها من الإنترنت أو عن طريق اليوتيوب، ولا يمكن إتقانها بمجرد استراق النظر".
خيارات متنوعة
يقول الورافي: "أحد أسباب التميز أيضا، أننا نقدم خيارات كثيرة، فنحن نحضر أكثر من 100 صنف يوميا، فنحضر اللحم المندي والمضبي والحنيذ والمدفون والفحم والمسلوق والبرام، ومثله الدجاج في طريقة التحضير، ونحضر السمك المشوي والموفى والصانونة، والأرز المندي والكبسة والمضغوط والزربيان والبرياني، بالإضافة إلى عشرات الأصناف من الإدام والطبيخ، وعادة لا يكفي المنيو (قائمة الطعام) لعرض كل الأصناف التي نقوم بتحضيرها، لكننا نكتفي بعرض الأطباق المهمة، وشرح الأطباق الأخرى لمن أراد".
هذه الأصناف المتعددة بمكوناتها وبطريقة تحضيرها تعطي زوارنا خيارات أوسع، تمكنهم من انتقاء ما يرغبون في تناوله، وهذا ينعكس بالطبع على تميز المطاعم اليمنية، حسب الورافي.
وعند سؤاله عن الوجبات الأكثر شهرة وطلبا لدى الجنسيات العربية، قال الورافي: "أكثرها طلبا اللحم المندي مع الأرز المندي، وأيضا الفحسة وهي اللحم المهروس مضافا إليها المرق بالطريقة اليمنية، التي تعد ضمن أواني خاصة تسمى( الحرض) أو أواني فخارية، وتقدم في درجة حرارة عالية".