ماذا خسر السيسي في حراك 20 سبتمبر؟

12

طباعة

مشاركة

بلا إفراط في التشاؤم، أو تفريط في الأمل الذي لاح مع حراك الشعب المصري يوم 20 سبتمبر/أيلول 2019، نستطيع القول: إن صخرة صماء ألقيت في مياه الحياة السياسية المصرية الراكدة بفعل الاستبداد الذي سعى النظام إلى ترسيخه عبر سنوات.

في 20 سبتمبر/أيلول الماضي، يمكننا قراءة الحالة إجمالا من خلال النظر إلى مجموعة من المشاهد المتفرقة، حتى إذا ما جُمعت بجوار بعضها البعض؛ ستتضح لنا الصورة كاملة للخسائر التي مُني السيسي بها جراء هذا الحراك.

المشهد الأول:

كان المشهد اللافت في يوم 20 سبتمبر/ أيلول، متمثلا في دخول قطاعات جغرافية بعيدة إلى خط الغضب ضد النظام، والتحرك في مواجهته، كما حدث تحديدا في الصعيد والسويس، بالإضافة إلى الإسكندرية، وبعض مدن الدلتا، وهذا يشير إلى تطور نوعي في الحراك المناهض للنظام بوصوله إلى نطاقات جغرافية أوسع.

وفضلا عن ذلك، فهناك بعد آخر يظهر تطورا نوعيا مختلفا للحراك، وهو اتساع مساحة الطيف الشعبي المناهض للسيسي، فقد دخل البسطاء والطبقات الفقيرة التي عانت من الفشل الاقتصادي على خط الحراك، وأدركوا حجم الفساد المستشري حتى رأس الدولة، وهذا أمر لا ندّعيه من خيالاتنا بل هو واقع يدركه النظام جيدا، وقد وصلته الرسالة جيدا حينما قام بالقبض على المئات من الشوارع، وبطبيعة الحال فقد قام بفرزهم وتصنيفهم، واكتشف أن الكثير منهم ليس من الطبقات المتوسطة أو الفئات المسيّسة، بل من الطبقة الفقيرة التي يدرك النظام جيدا خطورة دخولها في الحراك ضده، ولعل ذلك هو ما يبرر سرعة اتخاذ النظام لإجراءات محاولة ترضية هذه الطبقة مثل إطلاق سراح الكثير منهم دون العرض على النيابات، ثم إعادة قطاعات واسعة ممن تم إلغاء بطاقاتهم التموينية، وغير ذلك من الإجراءات الاقتصادية المخالفة لتوجهات النظام الاقتصادية بطبيعة الحال.

المشهد الثاني:

هو مشهد الإجراءات الأمنية المشددة وإغلاق الشوارع والميادين، والاعتقالات العشوائية، وتفتيش "الهواتف الجوالة" للمواطنين، وإذا كان النظام- ككافة النظم الشمولية المستبدة- يسعى لإبعاد الناس عن السياسة ومتابعتها حتى لا تزداد الكتل المسيّسة في المجتمع بالقدر الذي يهدده مع مرور الزمن، فإن النظام نفسه بتلك الإجراءات الأمنية المشددة -التي طالت الجميع- قد تسببت في وصول رسالة هذا الحراك للمواطن العادي أو البسيط غير المتابع للأحداث، ونقله من (حزب الكنبة) كما يشاع إلى كونه متابع ومطلع ثم فاعل تدريجيا، وقد يكون جزءا من هؤلاء صاحب موقف مع مرور الوقت.

أما الملمح الآخر في هذا المشهد هو التطور في ردة الفعل الشعبية إلى مقاومة الإجراءات بشكل سلمي -حتى من غير المشاركين في الحراك-، كما حدث في السويس، عندما تصدى المواطنون للحملات الأمنية، وقامت النساء بقذف زجاجات المياه على عربات الشرطة والجنود من النوافذ. وهو ما يشير إلى أن الناس لم تتفهم هذه الإجراءات ولم ترتضيها، وأيضا يدرك النظام جيدا حجم خسائره التي تصعب عليه استمرار فرض إجراءاته الأمنية الاستثنائية.

المشهد الثالث:

هو مشهد قيام قوات الشرطة بإغلاق الطرق المؤدية إلى ميدان التحرير، وإغلاق محطات عدة لمترو الأنفاق في وسط البلد تحت ذريعة "أعمال الصيانة"، مع اتخاذ تدابير أمنية مكثفة في مختلف أنحاء البلاد، خشية أن تحدث مفاجأة مماثلة للتي حدثت في جمعة الغضب يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011. وكان ذلك الإغلاق الذي شلّ وسط العاصمة بمثابة دلالة على مدى فقدان النظام الثقة في قدرته على استيعاب مظاهرات معارضة كالتي تحدث في الدول الديمقراطية الحديثة.

وكانت صورة خرائط جوجل، والتي تحولت فيها الطرق إلى شرائط حمراء بما يشير إلى إغلاق الطرق والميادين، الصورة التي تناقلتها وعلقت عليها الصحف العالمية كفضيحة لنظام السيسي المذعور من الشعب.

المشهد الرابع:

في خضم تلك الأحداث حاول السيسي أن يظهر أثناء عودته إلى مصر من الجمعية العامة للأمم المتحدة بالولايات المتحدة، بمظهر الزعيم صاحب الشعبية، فجمع حشدا من المواطنين المساكين يتقدمهم مجموعة من الكومبارس يمثلون دور شيخ وقسيس وصحفية، وكأنه مرّ مصادفة بهم! ونزل لإلقاء التحية عليهم وطمأنتهم، مما أضفى مزيدا من السخرية على ذلك المشهد رديء الإخراج،

المشهد الذي اجتهد مخرجه الفاشل في محاكاة تصرفات الأنظمة المستبدة في فترة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وهو المشهد الذي لم يعد ينطلي على أجيال القرن الحادي والعشرين، نظرا لحجم التصنّع الذي يفوح من هذا المشهد البائس، وفوق هذا الفشل هناك فشل آخر يظهر في كم الارتباك في التخطيط، الذي يحدث تحت ضغط الرعب والذعر من التحركات الشعبية الحقيقية.

المشهد الخامس:

في استكمال للمشهد البائس السابق، يقابل النظام دعوات الاحتشاد الشعبي، بدعوة مضادة، وحشد مضاد، جمع له الآلة الإعلامية، والفنانين، وطلبة الكلية الحربية والمجندين. بالإضافة إلى تكليف "عُمد" القرى أو مراكز الشباب بحشد مجموعات من البسطاء والأهالي -رغبا أو رهبا- للنزول تأييدا للسلطة. مع توزيع وجبات مجانية وعصائر، وأموال تتراوح بين فئة (200 إلى 50) جنيها مصريا.

وكل هذه المهازل وأكثر وثقتها كاميرات الموبايل وانتشرت على منصات التواصل كالنار في الهشيم، فكان التفاعل بالتعليق على تلك المهازل أكبر من التفاعل مع حدث الحشد المؤيد نفسه.

ورغم كل تلك الدعاية التي تمت، والإغراءات، والأموال التي أنفقت، خرج المشهد ضعيفا، والحشود قليلة لا تكاد تملأ جزءا صغيرا من شارع النصر، واضطر إعلام النظام لتصوير الجموع في "كادرات" ضيقة ومحدودة حتى لا يظهر حجمها الحقيقي.

وهو ما يؤكد أن السيسي فقد بالفعل غالبية ظهيره الشعبي، وبات غير قادر على إنفاذ حشد حقيقي، وهو ما أضعف صورته بشكل أكثر وأكثر أمام الرأي العام الداخلي و العالمي.

المشهد السادس:

هو مشهد  قيام الأجهزة الأمنية باعتقال الدكتور حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية، والدكتور حازم حسني المتحدث السابق باسم حملة سامي عنان، والصحفي خالد داود الرئيس السابق لحزب الدستور، والعشرات غيرهم من السياسيين والنشطاء، أودعهم جميعا في السجون.

هذه الخطوة التي تعد إعلانا عن فشل سياسة العصا والجزرة التي يلعبها السيسي ونظامه مع المعارضة، وتحديدا أبناء "30 يونيو" فبعد دعوة أطلقها الصحفي المقرب من رأس النظام ياسر رزق، بالانفتاح السياسي، والتعددية الحزبية، وإعطاء مساحات للممارسة السياسية لقوى "30 يونيو" -على حد تعبيره-، وكنتيجة لحرق هذا السيناريو السياسي عن طريق حركة ونبض الشارع الذى تخطى هذا السقف بكثير، فإذا بالسيسي يعتقل رموزا بارزة في قوى "30 يونيو" السياسية التي كان يحاول ترضيتها أو إغرائها ببعض المساحات السياسية منذ أيام. وجُلهم من السياسيين والأكاديميين المعروفين، وهو ما يكشف حالة الإفلاس في الخيارات لدى النظام، وأنه قد وصل لحالة فقدان القدرة على المناورة السياسية، فلجأ إلى الاعتقال المباشر، ليحاول إخماد أي صوت مضاد، ولكن هيهات.. فقد تخطي القطار هذه المحطة.

هذا المشهد يبعث برسالة صريحة واضحة حول طبيعة تلك السلطة التي لم ولن تقبل بمعارضة، حتى ولو من داخل الإطار التي تضعه بنفسها ولنفسها!!

المشهد السابع:

من المشاهد التي كانت غائبة، ودفع "حراك سبتمبر" إلى كشفها وتوضيحها، هو إظهار حقيقة الدور المؤثر الذي يقوم به محمود السيسي نجل رأس النظام، فعلى غرار جمال مبارك -ولربما أكثر فجاجة-، أصبح محمود السيسي فعليا بمثابة الرجل الثاني في الدولة، وامتلك صلاحية إدارة الملفات الحساسة، فالفتى الذي تمت ترقيته بشكل استثنائي، لا شك أن دوره هذا يستفز قطاعات من القيادات العسكرية والشرطية، التي تؤمن بفكرة مركزية في الحياة العسكرية، وهي أولوية التراتبية في الصلاحيات بناء على الرتب العسكرية والسن، فذلك بلا شك يزيد من حالة الاحتقان عند مراكز القوى داخل النظام على المدى المتوسط والبعيد، تماما كما حدث مع نجل مبارك، عندما تبلورت تدريجيا حالة مكتومة من رفضه داخل أروقة السلطة ،حتى ساهم ذلك في الإطاحة به... وبأبيه.

ملمح آخر في هذا المشهد وجب الإشارة إليه، وهو أن اعتماد السيسي على ولده، يبرهن على عدم ثقته في القيادات الطبيعية لمؤسسات الدولة، وبالتالي تخطى الجميع بنقل مركز ثقل القرار من المؤسسات إلى أضيق الدوائر الممكنة وهي أسرته.

المشهد الثامن:

إذا ما توجهنا نحو التفاعل الخارجي مع الحالة، سنجد أن الحراك حقق إحراجا حقيقيا للسيسي على السياق الخارجي، فالحكومة الألمانية على سبيل المثال وعلى لسان وزارة خارجيتها، طلبت من السلطات المصرية الإفراج عن الأشخاص الذين لم توجه لهم أي اتهامات، واعتقلوا حديثا في البلاد، وأن هذه السياسات لا تؤدي للاستقرار.

وفوق ذلك تم إلغاء اجتماع بين السيسي وميركل، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، ورغم الإعلان أن الإلغاء لأسباب لوجستية، لكن لوم الحكومة الألمانية للسيسي، كان صادما للنظام المصري، خاصة وأنه جاء مع انتقادات وتهديدات جمة لأعضاء بارزين في الكونجرس ولجانه الهامة، مثل لجنة العلاقات الخارجية، فضلا على التصريحات التي صدرت عن الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية، على رأسها منظمة العفو الدولية، التي طالبت السلطة المصرية بالتعامل العاقل المتزن مع مطالب المحتجين، وإخراج كافة المعتقلين من السجون.

صحيح أن هذه المواقف ليست حاسمة في المشهد، إلا أن سخونة الملف المصري في الساحة الدولية وطرحه بهذا الشكل هو بلا شك ليس في مصلحة استمرار هذا النظام، وقد بذل النظام وداعميه الإقليميين والدوليين على مدار سنوات جهودا ونفقات لامحدودة في إطار تبريد الملف المصري وإعطاء انطباع أنه وصل لحالة الاستقرار على الساحة الدولية. إلا أن "حراك سبتمبر" المفاجئ وتداعياته بدد هذا الانطباع.

خلاصة القول

المعطيات التي قمنا بسردها من خلال هذه المشاهد، تعطينا نتائج متعددة، على رأسها، أن النظام القائم منذ يوليو/ تموز 2013، وعلى مدار 6 سنوات، لم يستقر، وتذروه الرياح مع كل واردة، فرجل لم يكن معروفا كمحمد علي، وباستخدام كاميرا موبايل من غرفة محدودة، ورغم ما يمتلكه ذلك النظام في الجانب الآخر من آلة إعلامية ضخمة، وأجهزة أمنية شرسة، ودعم دولي وإقليمي لامحدود، ومع ذلك زلزل الرجل أركان النظام، وكشف مدى ذعره وقلقه من الشعب.

ولا يفوتنا أن نوضح أننا إذا انتقلنا من جانب النظام، إلى جانب المعارضين له، فثمة أخطاء وقع فيها البعض أولها وأهمها رفع سقف التوقعات إلى حد أقصى، وهو ما قد ينعكس بصورة سلبية على الجماهير، التي ظنت خطأ أن السيسي سوف يسقط في ذلك اليوم، ولما لم يحدث ذلك أصيب الكثير منهم بالإحباط الذي لم يجعلهم يرون الخسائر التي لحقت بالسيسي بسبب هذا الحراك. فالأمور هنا تقدر بقدرها، والشعب -كغيره من الشعوب التي سعت لامتلاك حريتها وكرامتها- في معركة طويلة الأمد مع نظام غاشم، من الصعب أن تحسم بضربة قاضية، بل سيحتاج إلى حراك شعبي وسياسي متكرر ومستدام، حتى يصل النظام إلى مرحلة النزع الأخير.

وبالنظر لتجارب التغيير والانتقال الديمقراطي التي تمت في حالات متقاربة مع الحالة المصرية، فإن التغيير عادة ما كان يتم نتيجة تفاعل مستمر وبنسب متفاوتة بين مجموعة عوامل وسياقات، وهي فقدان الظهير الشعبي للنظام المستبد، والائتلاف أو الاتفاق بين قطاع كبير من القوى المعارضة، وانقسام أو خلافات داخل النظام، وأخيرا وجود حالة رفض وانزعاج أطراف دولية أو إقليمية فاعلة من استمرار النظام.

وهنا نقول: إن الحراك إجمالا يمثل عاملا محفزا لهذه المحاور الأربعة نحو مجموعة تفاعلات تدريجية في اتجاه الانتقال والتغيير. ولو طبقنا هذه المعطيات على الحالة المصرية، نجد أن الحراك المستمر يمثل محفزا للتفاعلات التي تتم داخل الدولة والنظام، وتفاعلات داخل المعارضة السياسية لتجاوز خلافاتها ولإنتاج مشروع سياسي مستقبلي والتوافق عليه- وهو واجب الوقت-، ومحفز لبعض الأطراف الدولية والإقليمية لمراجعة وتطوير مواقفها من النظام.

خلاصة القول أن الشعب المصري لا يزال حيا، وأن فرص التغيير لا تزال سانحة.. وإن غدا لناظره قريب..

عاشت مصر بالمصريين... وللمصريين.