50 عاما على حريق الأقصى.. منظمة التعاون الإسلامي في الميزان

12

طباعة

مشاركة

لم يكن صباح الخميس الحادي والعشرين من أغسطس/ آب عام 1969 صباحاً عادياً في القدس، بل كان مليئاً بالرماد والدخان والخراب والدمار الذي جرَّه الاحتلال الصهيوني ومهاويس نبوءات الخراب والدمار على المدينة المقدسة، حين دخل الأسترالي المسيحي الصهيوني المتطرف دينيس مايكل روهان إلى المسجد الأقصى المبارك وأشعل النار في منبر نور الدين محمود في داخل الجامع القبلي في المسجد الأقصى، لتمتد النار فوراً إلى بقية أركان الجامع القبلي وتأتي على حوالي دونم ونصف من مساحته بكل ما فيها من روحانية وتاريخ وعظمة وذكريات لهذه الأمة.

أما الفاعل، دينيس مايكل روهان، فقد تحول فجأة إلى مجنون في نظر الحكومة الإسرائيلية وقضائها المسيس، وهي نفس الحكومة التي قطعت الماء يومها عن البلدة القديمة بالقدس ولم تصل سيارات إطفائها إلى المسجد حتى وصلت السيارات من طولكرم ونابلس التي تبعد أكثر من ساعة بالسيارة. مما أكد مشاركتها في الحدث، أو على الأقل معرفتها بما كان على وشك الحدوث وغض طرفها عنه.

ربما يكون من نافلة القول هنا الإشارة إلى القصة المشهورة التي تنتشر كل عام عن أن غولدا مائير –رئيسة الحكومة الإسرائيلية حينها– قالت في حديث صحفي إن هذا اليوم كان أسوأ يوم في حياتها عندما ظنت أن العرب والمسلمين سيهاجمون دولتها من كل ناحية انتقاماً لما حصل للمسجد الأقصى ثم كان أسعد يوم في حياتها عندما علمت أنهم نيام ولن يقوموا بشيء.

وهي للحق قصة مصطنعة لم نقف لها على أصل في أي مصدر صحفي أو تاريخي أو غيره، وربما أراد من اخترعها أن يحفز المسلمين على التحرك دون أن يعي أن الكذب لا يأتي بخير، علماً بأني عن نفسي كنت قديماً أصدق هذه القصة وأعتبرها من المعلوم من التاريخ المقدسي الحديث بالضرورة، حتى تبين لي عدم صحتها.

لكن لنعد للقصة الحقيقية لنرى خطورة الحدث، ففي ذلك اليوم وصل وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان إلى مكان الحدث، وبعده بقليل دخلت غولدا مائير المسجد الأقصى المبارك ووقفت أمام منبر نور الدين محمود المحترق تتأمل الخراب الذي حصل في أخشابه التي صارت فحماً. ولم يحفظ عنها تعليق للصحافة يومها سوى قولها: (إن هذا الحادث لن يؤثر على علاقات اليهود والعرب). هكذا ببساطة اختصرت مائير أكثر ما كان يهمها من نتائج لهذه الجريمة، علاقات اليهود والعرب.

ويدل ما يتكشف يومياً من وثائق وشهادات أن مائير كانت بالفعل على علاقة واسعة مع عدد لا بأس به من الرسميين العرب، لا أقصد الفلسطينيين، وإنما بعض الدول العربية والإسلامية التي كانت تفاوض تحت الطاولة وتناقش وتجادل في مصير الشعب الفلسطيني دون استشارته ودون استشارة شعوبها التي تملك من القدس بمقدار ما يملك سكان المدينة المقدسة.

ولا أرى أن حدس غولدا مائير أخطأها في ذلك اليوم، فالعرب والمسلمون تداعوا يومها لعقد مؤتمر قمة لبحث سبل الرد على جريمة إحراق المسجد الأقصى المبارك، فإذا بالمؤتمر العتيد يتمخض عن قرار تاريخي بإنشاء منظمة.. نعم منظمة فقط! سميت يومها منظمة المؤتمر الإسلامي، وتم تغييرها قبل عدة سنوات إلى "منظمة التعاون الإسلامي"، إضافة إلى إنشاء بيت مال القدس لدعم المدينة بالمشاريع، وتشارك إلى الآن ست وخمسون دولةً إسلامية في هذه المنظمة، وتدفع هذه الدول الأموال لرعاية القدس في بيت مال القدس.

ولنبدأ من الثاني، بيت مال القدس، حيث إن نظرةً سريعةً إلى كمية المشروعات والمبالغ التي تخصص لدعم مدينة القدس يكشف لك حجماً هائلاً من عدم التوازن بين ما تخصصه دولة الاحتلال وحدها لتهويد المدينة المقدسة من جهة، وما تخصصه ست وخمسون دولةً إسلامية للحفاظ على هوية المدينة المقدسة. فما تنفقه إسرائيل على تهويد مدينة القدس سنوياً يصل إلى حولي ملياري دولار منها حوالي 1.2 مليار دولار هي ميزانية بلدية القدس الإسرائيلية وحدها، والبقية تأتي من ميزانيات الحكومة الإسرائيلية المختلفة في القدس.

وهذا يقابله في أحسن الأحوال مبلغ لا يزيد على 50 مليون دولار من الدول العربية والإسلامية مجتمعةً، منها 20 مليون دولار تعتبر ميزانيةً للمدينة مخصصة من السلطة الفلسطينية، والبقية التي تصل في أحسن الأحوال إلى 30 مليون دولار هي ما تدفعه بقية الست وخمسين دولةً إسلامية! مقارنة بسيطة بين 2 مليار و 50 مليون دولار تبين لك حجم الفرق الشاسع –الذي يصل إلى أربعين ضعفاً– في الاهتمام الإسرائيلي والاهتمام العربي والإسلامي الرسمي بالقدس.

أما منظمة التعاون الإسلامي فحدّث عنها ولا حرج، فهذه المنظمة أنشئت لأجل المسجد الأقصى المبارك، ومع ذلك فإن قراراتها لا يتم تحقيق جزء –ولو بسيط– منها لأنها لا تملك فعلياً سلطةً على الدول المنضوية تحت لوائها، وأضرب لذلك مثالاً صغيراً، فقد كانت القمة الإسلامية التي عقدت في السعودية عام 2004 قد أجازت إنشاء "صندوق القدس" بدعم شعبي (دولار واحد) من كل مسلم في العالم (أي بما مجموعه حوالي 1.6 مليار دولار).

وكان مقرراً أن ينبثق عن هذا الصندوق وقفية لصالح القدس وتعزيز صمود أهلها، لكن هذا القرار بقي حبراً على ورق! ولم تفلح هذه المنظمة في تطبيق هذه القرارات الطويلة، بل إنها انجرت لاحقاً لتلحق بركب التسوية مع الاحتلال الإسرائيلي، ليخرج علينا السيد إياد مدني، أمين عام منظمة التعاون الإسلامي، بزيارة جدلية للمدينة المقدسة في 5/1/2015م، أعقبتها تصريحات مثيرة للجدل دعا فيها المسلمين إلى "زيارة" القدس باعتبارها عاصمةً لـ"السياحة" الإسلامية!

هكذا وبكل بساطة تحولت منظمة التعاون الإسلامي من منظمة يفترض بها أن تعمل على تحرير المسجد الأقصى المبارك إلى شركة سياحية تدعو المسلمين إلى "السياحة" في المدينة المقدسة بدلاً من تحريرها من الاحتلال.

هذا الأمر يدل دلالةً واضحةً على أن كلمة غولدا مائير يوم إحراق المسجد الأقصى المبارك (هذا الحادث لن يؤثر على علاقات اليهود والعرب) كان نابعاً من ثقة تامة أن الجانب العربي لن يتحرك بأكثر من تحويل القدس إلى مدينة سياحية كأي مدينة سياحية أخرى، لكن ربما تكون سياحةً طلليةً بكائيةً يبكي فيها المسلمون على أطلال منبر نور الدين المحترق وعلى أيام صلاح الدين التي ولّت.

وحتى الوقت الذي تفهم فيه هذه المنظمة دورها الحقيقي المنشود، فإن عليها أن تصمت ولا تتكلم في شؤون القدس والمسجد الأقصى، فأول المتضررين منها كان في الحقيقة المسجد الذي أسست لأجله.