بوفاة مرسي.. هل تسقط حقبة الانقلاب من كتاب التاريخ؟
"أنا حريص على أمن واستقرار مصر، هناك حقيبة معينة لن أتحدث عنها إلا في جلسة سرية بحضور عبد الفتاح السيسي (قائد الانقلاب العسكري في مصر)"، بهذه الكلمات اختتم الرئيس الشهيد محمد مرسي حياته الإثنين 17 يونيو/حزيران الماضي.
أهالي معتقلين حضروا الجلسة الأخيرة لمحاكمة مرسي قبل وفاته مؤكدين حديثه عن "حقيبة" بها الأدلة التي تنفي اتهامه بالخيانة، وتوضح للشعب المصري من الذي قام بخيانته، ومن الذي يدافع عن حقوقه".
كان الرئيس الراحل قد طالب بعقد جلسة سرية لأكثر من مرة للكشف عن الأدلة التي تثبت براءته، رغم استمرار حبسه انفراديا طيلة 6 سنوات.
باحثون استوقفهم الحديث عن "الحقيبة السرية" التي حرص الرئيس مرسي على إخفائها حتى آخر نفس، من بينهم الباحث الأكاديمي المصري بدر الشافعي الذي كتب على صفحته بـ"فيسبوك" قائلا: "غياب الحقيبة هذا قد يؤدي إلى غياب الوعي، أو صعوبة التحليل العلمي الدقيق لافتقاد المعلومات من مصادرها".
مضيفا: "ومن هنا فإن إحدى الإشكاليات التي تواجه وستواجه الباحثين العرب والأجانب المهتمين بالشأن المصري ما يتعلق بثورة يناير بصفة عامة، وفترة حكم الرئيس الراحل محمد مرسي التي تعد هامة رغم قصرها".
أهمية التوثيق
لا يختلف اثنان حول أهمية التوثيق ومراعاة الدقة في نقل أحداث التاريخ إلى الأجيال اللاحقة، وتوثيقها على النحو الأمين لتنقل صورة عن واقع الحال دون تفريط أو إفراط.
ومع بروز المشكلة الأضخم الأبرز من أن تاريخنا المصري خاصة والعربي بوجه عام، إنما يتصدى لكتابته أعوان السلاطين، كما يبرز في المناهج المدرسية، ويطبع في الكتب التاريخية التي تصدرها جهات تابعة للدولة.
ما سبق يُبقي الحقائق بمنأى عن الواقع، ويزيف التاريخ لحساب قلة استطاعت الاستيلاء على الحكم، وتثبيت ما تريده من أفكار حولها، دون مراعاة لمصداقية، أو حرص على توثيق.
أحداث عام 1952 تبقى نموذجا من نماذج الاستيلاء على الحكم من جانب الجيش وتوثيقه على ما يحلو للمسؤولين عن السلطة في مصر، لذلك عمد الرئيسان الراحلان جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات إلى تشكيل لجان لإعادة كتابة التاريخ كما يحلو لهما، كما حرص الملك فؤاد على كتابة تاريخ يمجد آباءه منذ عهد محمد علي، وإخفاء الوثائق الدالة على الواقع.
لذلك نظر باحثون بدقة إلى ما بعد ثورة 25 يناير، بخاصة فترة حكم الرئيس مرسي، لكونها أول تجربة ديمقراطية في تاريخ مصر، بعضهم يشير إلى وقائع بالغة الدقة في فترة حكم الرئيس الراحل لا تعرف ملابساتها.
مثلا عزل وزير الدفاع الأسبق محمد حسين طنطاوي ورئيس الأركان الأسبق سامي عنان في 12 من أغسطس/آب 2012 عقب أحداث رفح، وتعيين عبد الفتاح السيسي وزيرا للدفاع، وترقيته إلى فريق وفريق أول دفعة واحدة، وهو الحدث الذي لعله يُمثل أبرز ما في "الحقيبة" التي حرص الرئيس مرسي على إخفائها منذ ذلك الحين.
لكن لماذا حرص الرئيس على إخفاء أمور طوال فترة حكمه احتاج بعد الانقلاب للكشف عنها مع حرصه على أن تكون في جلسة سرية خاصة؟ ولماذا ما لم تستجب له المحكمة حتى فاضت روحه؟
محطات مهمة
من المحطات المهمة في حقبة مرسي قراراته المؤدية إلى الإعلان الدستوري الصادر في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، والذي كان من أبرز بنوده تحصين قرارات الرئيس حتى انتخاب برلمان جديد، وهو الإعلان الذي أدى إلى انشقاقات ومداولات ثورية وتدخلات من الفلول وبقايا نظام المخلوع حسني مبارك، وسقوط قتلى في أحداث الاتحادية، قبل أن يتراجع الرئيس عنه سريعا، دون إعلان لملابسات صدوره بشكل كاف أو حتى ملابسات التراجع.
أما ذروة الأحداث التي لا يلم الباحث التاريخي أو المناضل الثوري بحقائقها كاملة، والتي عمد مرسي والمقربون منه إلى عدم إبرازها فهي موقف الرئيس من الانقلاب: هل كان على علم به منذ البداية؟ خاصة أن الأمر جاء على مراحل، وإن كان يعرف فلماذا لم يحاول عزل السيسي أو الخروج على الشعب عارضا ما لديه من معلومات ومطالبا إياه بالتصدي لحماية الثورة؟
هل كان الرئيس الراحل مصدقا لكلمات المؤسسة العسكرية عن حماية شرعية الشعب، التي وصفها مساعد الرئيس مرسي للشؤون الخارجية خالد القزاز بأنها كانت "حمّالة لكل الأوجه"؟
بمجيء 30 يونيو/حزيران نظمت المعارضة مظاهراتها، فيما تجمع المؤيدون بكثافة في ميدان رابعة العدوية، وفي اليوم التالي وفيما كان السيسي يجتمع بالرئيس مرسي بصحبة رئيس الوزراء آنذاك هشام قنديل أذاع التلفزيون المصري أن المجلس العسكري حدد مهلة الـ 48 ساعة لإنهاء الأزمة.
وفي 2 يوليو/تموز 2013، عرض مرسي على السيسي للمرة الأولى تغيير رئيس الوزراء بشخص يتفق الجميع عليه، بالإضافة لتغيير في الوزارات السيادية أو تغيير شامل، وعقب السيسي: "هذا الاتفاق هو المطلوب وزيادة وإن شاء الله سيكون بداية حل الأزمة".
لكن مكالمة من المجلس العسكري جاءت للفريق الرئاسي بعد ساعات برفض الاتفاق وضرورة مغادرة الرئيس، وبالتالي سجل مرسي كلمة للشعب بعيدا عن التلفزيون المصري الذي سيطر عليه المجلس العسكري وقتها.
وفي 3 يوليو/تموز تطور الموقف لسحب الحراسة من حول الرئيس وقطع الاتصال عنه، وإعلان بيان الانقلاب العسكري، واعتقال الرئيس وإبعاد مرافقيه وإخفائه طيلة 4 أشهر قبل أن تتم محاكمته مع منعه من التحدث أو حتى ملاقاة محاميه وأسرته إلا نادرا.
هذه الأحداث وغيرها تمثل علامات استفهام كبرى أمام الباحثين الذين يقفون عاجزين عن توثيقها تاريخيا في ظل غياب بطلها وهو الرئيس مرسي الذي رحل دون أن يبوح بما في جعبته من أسرار، فما المصادر البديلة، وكيف يمكن استقاء المعلومات عنها والتحقق من دقتها قبل التوثيق؟ وهل يمكن الاستعانة بالأحياء ممن كانوا حول الرئيس حينها والاعتماد عليهم كمصادر؟
أسرارا خاصة
قطب العربي الأمين العام المساعد للمجلس الأعلى للصحافة في عهد الرئيس مرسي قال لـ"الاستقلال": "مرسي ظل يتعامل كرئيس لدولة حتى وفاته، لذلك لم يكن يريد أن يفشي أسرارا خاصة بالدولة حتى آخر لحظة، وطلب لقاء خاصا مع المحكمة لأجل ذلك".
مضيفا: "شخصيا أختلف مع الرئيس الراحل مرسي في هذا الطرح، فالمفروض أن الصورة صارت واضحة أمامه أنه أمام عصابة، ولذلك كان ينبغي أن يتحين الفرص كلما أتيحت له ليعلن بعض الأمور الخافية على الشعب أثناء جلسة المحكمة، مع أنه من المؤكد أن القاضي لم يكن ليسمح له، بمجرد تحكمهم في صوته عبر الحاجز الزجاجي، وهو ما كان يعيق الرئيس عن الحديث، بالإضافة لعقابه أكثر فيما بعد لخروجه عن النص".
أما عن إمكانية تعويض غياب شهادة الرئيس الراحل حول القرارات المهمة وملابساتها فقال العربي: "بالطبع بعض الأمور لا يمكن تعويضها لأن الرئيس مرسي وحده هو الذي يعرف ملابساتها وخلفياتها كاملة، مثل تعيين السيسي وزيرا للدفاع".
وتابع: "لكن ربما كان البعض في مؤسسة الرئاسة ملمّا ببعض التفاصيل، وهؤلاء خارج السجن وعليهم الإدلاء بشهادتهم، أما من منهم داخل السجن فعليهم محاولة تهريب الشهادات لخارج السجن، فلو مات هؤلاء ستموت شهادتهم كما ماتت شهادة الرئيس مرسي، لذلك أطالب جميع من كانوا في مناصب تنفيذية أيام الرئيس مرسي من وزراء أو محافظين أو مستشارين أن يسارعوا بذلك لأن ذلك يعد تاريخا إن لم تكتبه أنت سيكتبه غيرك".
وعن غياب التفاصيل في فترة حكم الرئيس مرسي وإفادته أو إضراره بالمرحلة قال العربي: "هناك مشكلة في تقييم تلك الفترة، فالرئيس مرسي والمسؤولون من حوله تعاملوا كمسئولين عن إدارة دولة لا يمكن لهم البوح بجميع ما يعرفونه للناس مباشرة، لكن لأننا كنا في ظرف غير طبيعي بعد فترة شعبية كبيرة أتصور أن الأمور كانت تتطلب قدرا من المكاشفة أكبر حتى تكون جماهير الثورة معك على الخط".
وحول كيفية قراءة الأجيال المقبلة لأحداث فترة حكم مرسي في ظل شح المعلومات قال العربي: "هناك مسؤولون كثيرون يكتبون الآن شهادتهم لتعين الأجيال المقبلة في معرفة تلك الفترة، وبالطبع فإن ذلك لا يغني عن عمل موسوعي وموثق بأشكال مختلفة، صحفية، دراسات تاريخية، ورش عمل، شهادات فيديو، أفلام، مسلسلات، كل هذا ينبغي أن يكون توثيقا لتلك الفترة من أجل إطلاع الأجيال المقبلة بشكل دقيق".
وطالب الأمين العام المساعد للمجلس الأعلى للصحافة سابقا المعنيين بكتابة شهاداتهم أولا، كل في حدود دائرة اختصاصه، وبعد ذلك ستجد من يجمعها في كتابات موثقة حقيقية، فالمؤرخون يلجأون إلى مثل هذه الشهادات بتجميعها وصياغتها في قالب علمي تاريخي.
المنهج الإصلاحي
الباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية محمد إلهامي قال لـ"الاستقلال": "لم يكن صوابا عدم بوح الرئيس مرسي بملابسات قراراته، والسبب في ذلك أن الرئيس مرسي اعتمد المنهج الإصلاحي محاولا التوفيق ومراضاة كل الأطراف ما جعله مقيدا في التصرف وصاحب حسابات كثيرة جدا ومتشابكة مع أطراف كثيرة، فكان مضطرا لأن يكتم أغلب الظروف التي اتخذ فيها هذه القرارات".
وأضاف إلهامي عن كيفية تعويض غياب الرئيس مرسي وشهادته حول الأحداث: "في ظني أنه لا يمكن تعويض غياب شهادة الرئيس مرسي أبدا، فهو جزء من الأحداث لا يمكن أن يعوّض أحد شهادته، لكن بشكل عام، هناك الكثير من الأمور التي يمكن بكثير من المجهود استخلاصها واستنتاجها، لكن هذا يحتاج لفرق عمل متفرغة تحلل سائر ما نُشِر وما كُتِب في تلك الفترة، ثم ما صدر من الشهادات والمذكرات حتى الآن. ولا شك أن ما سيصدر فيما بعد، وما سيُفرج عنه من وثائق سيساهم في مزيد معرفة بالصورة الغائبة عن الشعب".
وعن غياب التفاصيل التي أدت إلى اتخاذ قرارات مهمة في فترة حكم الراحل مرسي قال إلهامي: "كثير من التفاصيل كان يجب أن يعرفها الشعب ليتمكن الرئيس من خوض معركته مع جهات بعينها مسلحا بدعم الشعب ومعرفته، وكثير من التفاصيل لا شك أيضا لم يكن مفيدا الإفصاح عنها، يعود الأمر في النهاية لنوع السياسة التي يتخذها الرئيس وحساباته العاجلة والآجلة وطبيعة أولوياته وأولويات معاركه، لكن كان يجب على رئيس لا يملك من القوة إلا القوة الشعبية أن يصارح الشعب ليتسلح به في مواجهة خصومه، وأن يستثمر الحالة الثورية ليوجهها ضد مراكز القوى المحيطة به والمعيقة له".
وعن كون مقومات الكتابة التاريخية الصحيحة في حسبان صناع القرار أيام الرئيس مرسي وأسباب غيابها قال الباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية: "لا أظن ذلك، صناع القرار عادة يهتمون بالعاجل والآني والقريب، يهتمون بصناعة التاريخ لا كتابته، ومن طبيعة الأمور أن الذي يصنع الواقع إذا انتصر فإنه سيتمكن من كتابة التاريخ، سواء بقوته وسطوته ونفوذه، أو بما سيثيره انتصاره من إعجاب كثيرين، وأولئك سيتولون عنه كتابة قصة نجاحه والثناء عليها، وهذه معضلة عامة في الحركات الإسلامية، فهي عادة لا تهتم برواية تاريخها للأسف الشديد".
غياب التفاصيل
باحث في تاريخ الإخوان قال مفضّلا عدم ذكر اسمه: "لم يبح مرسي بما لديه من خطير الحقائق لأنه كان يعتقد أنها أمور من خصوصيات الأمن القومي للبلاد، وأن أوانها لم يحن بعد لأنها ستترك تأثيرا سلبيا على المجتمع، ويمكن تعويض غياب مرسي بمن كان يحيط به خاصة أحمد عبد العاطي (مسجون)، محمود مكي (بعيد عن الأضواء) فعندهما مثل ما كان عند مرسي من معلومات وربما أكثر".
وعن غياب التفاصيل قال الباحث: "غياب التفاصيل بعضها أضر وبعضها أفاد لكن الأمر كان يعود لتقدير مرسي للأمور، فإقالة طنطاوي وعنان رغم غياب المعلومات لكن التخمينات كانت قريبة وفرح بها الجميع، أما غياب تفاصيل إقالة النائب العام عبد المجيد محمود فأضر كما حدث أيضا مع الإعلان الدستوري".
وحول إدراك الأجيال القادمة قال الباحث: "إنها مثل الذين عاشوا أيام الرئيس جمال عبد الناصر ولم يدركوا كثيرا ما كان يجري في عهده والذين جاءوا بعده، وكذلك حال كل طاغية، لكن مقومات الكتابة الصحيحة منعدمة منذ انقلاب 1952".