تيار الصحوة في المملكة.. هل يدفع وحده ثمن أخطاء آل سعود؟

أحمد يحيى | منذ ٦ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"انج سعد فقد هلك سعيد" مثل عربي شائع منذ زمن بعيد، يحكي قصة سعد وسعيد، أخوان خرجا في طلب الأعداء، وسبق سعيد سعد، فإذا بالعدو ينصب له كمينا فيقتله ومن معه إلا واحدا عاد إلى سعد مطلقا نداء الاستغاثة والتحذير من الخطر، وقال له تلك العبارة التي غدت مضربا للأمثال عند العرب في التراجع عن مواجهة الصعاب والأخطار، والفرار بالنفس من التهلكة.

هل هذا المثل الشائع يمكن أن ينطبق بدقة على بعض العلماء والدعاة في المملكة العربية السعودية حاليا واعتذارهم عن أفكار ورؤى سابقة، ما فتح بابا عريضا من الجدليات والتساؤلات، فتيار الصحوة الإسلامية في المملكة مثلا لم ينشأ بمعزل عن الدولة ومحيطها، بل كانت الدولة حاضنة في بعض الأحيان لأبرز منابر ذلك التيار وأبكرها.

الشيخ عائض القرني وفي مقابلة على قناة "روتانا خليجية" في 7 مايو/ آيار الجاري، أعلن أنه "يعتذر باسم الصحوة عن الأخطاء أو التشديدات التي خالفت الكتاب والسنة وسماحة الإسلام وضيقت على الناس"، وفي نفس الوقت أكد أنه يتبنى ما وصفه بالإسلام المعتدل المنفتح على العالم، الذي نادى به ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

صعود الأمير

البيت السعودي الذي غدا في قبضة الأمير الشاب بات ينتقل إلى المستوى الدراماتيكي في حشد الحملات ضد علماء ودعاة ومنهج الصحوة، الذين على ما يبدو أنهم سيدفعون وحدهم ثمن ما رآه النظام الجديد أنه خطيئة، رغم أن العدل يقتضي أيضا محاسبة الدولة الراعية والملوك السابقين، آباء وأجداد محمد بن سلمان، عن خططهم ورؤيتهم في إقرار ذلك المنهج.

منذ صعود الأمير محمد بن سلمان إلى ولاية العهد في السعودية، بدأ التنكيل بكبار الدعاة والعلماء في المملكة، خاصة من يطلق عليهم تيار الصحوة الذين حملوا لواء الدعوة الإسلامية لعقود.

من بين هؤلاء العلماء على سبيل المثال لا الحصر الدكتور سلمان العودة، والشيخ سفر الحوالي، وكلاهما يقبعان في سجون الأمير القاسية، التي أراد لها أن تكون عبرة لبقية الدعاة الذين انضووا ردحا من الزمن تحت راية تيار الصحوة، ضمن أعداد غفيرة من قرنائهم، ومنهم شيوخ كمحمد العريفي، وعائض القرني.

مشروع الصحوة

في 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، على هامش الجلسة النقاشية لـ "مبادرة مستقبل الاستثمار" التي انطلقت فاعليتها في الرياض، قال بن سلمان: "إن مشروع الصحوة انتشر في المنطقة بعد العام 1979 لأسباب كثيرة، فلم نكن بهذا الشكل في السابق، نحن فقط نعود إلى ما كنا عليه، إلى الإسلام المنفتح على جميع الأديان والتقاليد والشعوب".

وأكد بن سلمان: "70% من الشعب السعودي تحت سن الـ30، وصراحة لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة، سوف ندمرهم اليوم؛ لأننا نريد أن نعيش حياة طبيعية تترجم مبادئ ديننا السمح وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة، ونتعايش مع العالم ونساهم في تنمية وطننا والعالم".

وأضاف ولي العهد السعودي: "اتخذنا خطوات واضحة في الفترة الماضية بهذا الشأن، وسوف نقضي على بقايا التطرف في القريب العاجل، ولا أعتقد أن هذا يشكل تحديا، فنحن نمثل القيم السمحة والمعتدلة والصحيحة، والحق معنا في كل ما نواجه".

من نافلة القول، مجيء احتقان بن سلمان، وإعلانه الحرب على تيار الصحوة صراحة، الذي ينتمي إليه مئات العلماء وعشرات الآلاف من المريدين، ليس سوى علامة، على منهج جديد أكثر انفتاحا، وأقل تشددا، وتمسكا بالثوابت القديمة.

لكن معركة ولي العهد، لم تمر مصطلحاتها وأبجدياتها مرور الكرام، ففي يوم 4 نيسان/ أبريل 2018، كتب الصحفي السعودي المغدور جمال خاشقجي، الذي قتل داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، مقالة لصحيفة (واشنطن بوست) انتقد فيها سياسات ولي العهد السعودي، وتداولتها عدد من وسائل الإعلام العربية.

المقالة تضمنت هجوما على ولي العهد بأنه يقدم رواية محرفة للتاريخ السعودي بادعائه أن المملكة كانت دولة عادية قبل عام 1979، وأن قيام الثورة الإيرانية هو ما دفع بلاده إلى التشدد، مشيرا إلى أنه في ذلك التوقيت، وعلى عكس رواية ولي العهد، لم يكن يسمح للمرأة بالقيادة ولم تكون دور السينما في البلاد رسمية.

خاشقجي قال: "إن محمد بن سلمان في طريقه لتحديث المملكة، ويرسي أسسا راديكالية سلطوية جديدة لتحل محل الراديكالية التقليدية لرجال الدين".

ثم عقب خاشقجي: "كنت مراهقا في السبعينات ونشأت في المدينة المنورة بالسعودية، ولكن ذكرياتي عن تلك السنوات قبل وقوع الكارثتين التوأمين، حصار الحرم المكي والثورة الإيرانية، تختلف تماما عن الرواية التي يقولها ولي العهد البالغ من العمر 32 عاما، فالنساء لم يكن يقدن السيارات، وأنا لم أر امرأة تقود سيارة حتى زرت أختي وزوجها في تمبي بأريزونا الأمريكية، وكانت شاشات عرض السينما التي أقمناها مؤقتة، أكثر ابتعادا عن الرسمية بمراحل".

وفي ختام مقالته قال خاشقجي: "في السعودية الحالية، لا يجرؤ الناس ببساطة على الكلام، حيث تضع السلطات أي شخص يجرؤ على رفع صوته على القائمة السوداء، بالإضافة إلى سجنها المفكرين المنتقدين المعتدلين والشخصيات الدينية، مع الحملة المزعومة لمكافحة الفساد على العائلة المالكة ورجال الأعمال الآخرين".

آيات التنكيل

ربما حاول في البداية عائض القرني، ومعه عدد من كبار دعاة المملكة النأي بأنفسهم، عن الحرب الضروس التي يشنها محمد بن سلمان على تيار الصحوة، ولكن السياسة التي أقرها ولي العهد لم تقبل التعاطف أو الحياد، ولم يرض منهم إلا مناوأة خصومه.

في يوليو/ تموز 2018، تم تداول نسخة مسربة من كتاب (المسلمون والحضارة الغربية) لعالم الدين السعودي، وواحد من كبار رموز تيار الصحوة الشيخ سفر الحوالي، محدثا ضجة كبيرة داخل المملكة وخارجها، لما تضمنه الكتاب من انتقادات واسعة لـ "آل سعود" وللعلماء المحسوبين على السلطة.

جاء النص الأكثر انتشارا داخل الكتاب، والذي تداوله رواد موقع التواصل الاجتماعي هو الذي قال فيه: (يا آل سعود إن لم تبادروا بالتوبة فلا بد أن تحل بكم المثلات، ومنها الهرم الذي ذكر ابن خلدون أنه إذا حل بدولة لا يزول، وما أحسب الخلاف الذي بين الأسرة الحاكمة حاليا إلا نوعا من الهرم".

مضيفا: "وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حق على الله أن لا يرفع شيئا في هذه الدنيا إلا وضعه)، فتلك إذا سنة الله ليس لها تبديل ولا تحويل، ولا تحابي أحدا قط، وعامل الزمن إنما هو في صالح المتقين، وليس في صالح من يقول (امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد)، وفي السورة نفسها (ص) بيّن سبحانه لعبده داود وجوب اتباع الحق لا الهوى، وبإنابته لربه أورث سليمان بن داود الملك بعد أبيه، وبيّن أن صبر أيوب أورثه العاقبة الحسنة، فبادروا يا آل سعود بالتوبة إلى الله ما دمتم في المهلة".

الشيخ الحوالي حرص كذلك على تتبع الأحداث السياسية الطارئة والتعليق عليها، فتحدث عن دور الحكومات الخليجية من الانقلاب التركي في 15 يوليو/تموز 2016، ودعم الانقلاب الواضح، وكذلك نوه في مقدمة كتابه تحت عنوان (تنبيه)، بأنه "بعد الانتهاء من الكتاب وقعت الأزمة الخليجية، وليس لدي معلومات كافية بخصوصها، ولكن أرجو أن يكون ما ذكرته دالا على الحق".

مضيفا: "والحل عندي أعمق من أن يكون صلحا سياسيا بين مختلفين، وأنا أدعو طرفي الأزمة إلى تحكيم كتاب الله داخليا وخارجيا في كل أمر، وأنصح الإخوة من علماء ودعاة، بترك الخوض في هذه الفتنة والبدء بالأساسيات، مع دعاء الله أن يهدي جميع المسلمين للصواب"، ووقع الشيخ الحوالي على المقدمة بتاريخ 18 أبريل/نيسان 2018.

ومع انتشار النسخ الإلكترونية للكتاب، شنت السلطات السعودية عملية اعتقال للحوالي البالغ من العمر 68 عاما، حيث أورد مقربون منه تفاصيل عن عملية الاعتقال له ولأفراد من عائلته على يد قوة من الأمن السعودي، وقالوا إن القوة التي قامت بالعملية جاءت بسيارة إسعاف إلى بيته في قرية الحوالة، وتم نقله بها إلى السجن، رغم معرفتهم التامة بوضعه الصحي الحرج، وتم التنكيل بالشيخ المريض على هذا النحو بالغ القسوة.

لحق سفر الحوالي بركب طويل من الموقوفين المعارضين، والمنتقدين لنظام الحكم، وهو ما أدى إلى توجيه انتقادات أممية للمملكة، ففي 20 يونيو/حزيران 2018، وتحت عنوان (السعودية قمع مستمر ضد النشطاء) قالت منظمة هيومن رايتس ووتش: "يبدو أن الحكومة السعودية مصممة على ترك مواطنيها بلا أي مساحة لإظهارهم الدعم للمسجونين في حملة قمع المعارضة، التي لا ترحم".

وفي تقريرها النصف سنوي كشفت هيومن رايتس عن الأوضاع في السعودية بالقول: "إن الدولة استمرت في 2018، باعتقال ومحاكمة وإدانة المعارضين السلميين بشكل تعسفي، ويقضي عشرات النشطاء، والمدافعين عن حقوق الإنسان، والمعارضين أحكاما للسجن لمدد طويلة بسبب انتقادهم السلطات أو الدعوة إلى إصلاحات سياسية وحقوقية".

وفي مايو/أيار 2018، وصفت منظمة العفو الدولية "أمنستي" الاعتقالات التي قامت بها المملكة بأنها "حملة مغرضة"، وفي 15 يوليو/تموز 2018، قالت جماعة القسط الحقوقية ومقرها لندن: "إن السعودية اعتقلت الداعية البارز سفر الحوالي و3 من أبنائه، موسعة بذلك على ما يبدو أنها حملة على رجال الدين والمفكرين ودعاة حقوق الإنسان، ومعروف عن الحوالي دعواته للديموقراطية وانتقاداته للأسرة الحاكمة".

اعتذار لا يكفي

القراءات التعسفية، وتأويلات الاتهام والتأثيم، التي جابهها عائض القرني جراء اعتذاره على الملأ، من قبل سطر من وجهاء المجتمع المحسوبين على النظام من دعاة وفنانيين وغيرهم، تعطي المثل على العقاب الجماعي الذي أراده محمد بن سلمان لتيار الصحوة ومنهجه، أو الإسلاموية الشعبوية، غير الخاضعة للمؤسسات الدينية الرسمية.

ومن أبرز الذين رفضوا اعتذار القرني، الفنان السعودي ناصر القصبي، الذي قال في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي تويتر: "عائض القرني، تقول بكل شجاعة أعتذر، اعتذارك هذا لا يكفي، لأن الثمن كان باهظا، اعتذارك الحقيقي يكمن في تقديمك كتابا ناقدا مفصلا من داخل هذه الحركة تكشف فيه بهدوء وعمق ووضوح أصولها، ومع مَن ارتبطت وكيف نشأت وكل رموزها ونهجها وكواليسها ومخططاتها، هذه هي الشجاعة وغيره استهلاك إعلامي".

أما الداعية الإماراتي المثير للجدل وسيم يوسف، المحسوب على السلطة، والمقرب من ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، قابل اعتذار عائض القرني بحدة شديدة، وقال: "هكذا ديدن التيارات الدينية، يهاجمون ثم عندما تنكسر شوكتهم يعتذرون ويقولون نحن كنا غلطانين".

وأكد يوسف: "أخطئ على نفسك بينك وبين أسرتك، امنع عيالك عن الحياة، أما أن تأتي بفكر ديني وتأسرني به عقودا من الزمان. جعلتنا ننظر إلى الاختلاط كبيرة من الكبائر. جعلتنا ننظر إلى الموسيقى كبيرة من الكبائر".

وعقب الداعية الإماراتي: "جعلتنا نأمل القبر قبل أن ننظر للحياة، وجعلتمونا نشعر أننا في جهنم وننسى الجنة، وصورتم لنا الله أن الله ينتظرنا فقط على زلة ليعاقبنا، وكأن الله ليس بغفور رحيم".

وفي المقابل قال الكاتب السعودي علي الموسى في برنامج "الليوان" على قناة روتانا خليجية: "إن اعتذار الشيخ القرني كان يجب أن يكون باسمه لا باسم تيار عريض يمكن أن يقول له، لم نفوضك حتى تعتذر باسمنا".

ووجه انتقاداته أيضا لتعاطي التيار الليبرالي السعودي مع تصريحات القرني، قائلا: "إنها وجهت بسخرية واستهزاء وشماتة كبيرة من طرفهم".

من الجاني؟

واقعة اعتذار القرني في سرديتها، تقصر التهم على التسليم بأن تيار الصحوة وحده يتحمل كل أخطاء الماضي، فأطروحته تنهض على هذا الجزم القاطع، وهو نفسه منهج ولي العهد محمد بن سلمان، الذي أراد أن ينجز مشروعه في تغيير صلب الحقائق التاريخية، ويعبر ذاكرة الشعب السعودي، وشعوب المنطقة التي تأثر بعضها بشكل أو بآخر بالمنهج الدعوي الذي أنتجه تيار الصحوة، وكأنه من بوتقة مختلفة مغايرة لما أرادته المملكة حينها.

بن سلمان تناسى الدور التاريخي للمملكة، في الحرب السوفيتية الأفغانية في ثمانينيات القرن الماضي، عندما جيشت مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية، لإرسال المتطوعين من سائر أنحاء العالم الإسلامي، وفي مقدمتهم السعوديون إلى باكستان وأفغانستان.

العملية تمت تحت إشراف ورعاية كبار الأسرة الحاكمة، ومنهم الملك الحالي للسعودية سلمان بن عبد العزيز، ونتيجة لذلك فإن أعداد المتطوعين السعوديين في أفغانستان شهدت زيادة بالغة من بضعة عشرات في عام 1984 إلى عدة آلاف عام 1987، وتحديدا ما بين 12 ألفا إلى 20 ألف سعودي.

ورغم الانسحاب السوفيتي من أفغانستان عام 1989، ظلت ساحة الجهاد الأفغاني تستقطب المتطوعين من العرب والسعوديين خلال الحرب الأهلية بين المجاهدين، ونظام الرئيس "نجيب الله" الشيوعي، قبل أن يصل عصر الجهاد الأفغاني إلى خاتمته عام 1992 حين تم الاستيلاء على كابول.

قد تكون دعاوى الانفتاح التي أطلقها ولي العهد تمثل الاختبار الأبرز لخياراته الحالية، لكنها لا تنفي ما تشهده المملكة من قمع مريع، وقبضة حديدية متمكنة، طالت النفوذ الديني الذي ظل مهيمنا في البلاد تحت أعين الحرس الملكي.