ثورة الفقراء.. لماذا خرج الأرجنتينيون على الرئيس بعد 6 أشهر فقط من انتخابه؟

12

طباعة

مشاركة

قرابة ستة أشهر فقط فصلت بين فوز الليبرالي المتطرف، "خافيير ميلي" برئاسة الأرجنتين 20 نوفمبر/تشرين ثان 2023، وبين ثورة الشعب عليه يوم 13 يونيو/حزيران 2014.

فما أن صوّت مجلس الشيوخ في الأرجنتين، بفارق صوت واحد (37 موافق ضد 36 معارض)، في 13 يونيو 2024 لصالح حزمة تشريعات تطلق يد الرئيس المُلقب بـ"المجنون" لتنفيذ "خطة تقشف قاسية" نالت الفقراء حتى اندلعت ثورة عنيفة.

السبب الأول لثورة الشعب ضده، هو بدء الرئيس "ميلي" خطط بيع أصول الدولة لسداد ديون بلاده، على طريقة النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي، وتركيز ما يسميه "إصلاحات" على الفقراء لا الأغنياء، مثل تقليص المعاشات ورفع أسعار المواصلات.

وبعد 6 أشهر من فوز "ميلي" بالانتخابات الرئاسية في الأرجنتين، تدهور الاقتصاد الأرجنتيني بشكل كبير، وقفزت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر من 40 إلى 57 بالمئة، حسبما تؤكد التقارير الرسمية.

وصعد "ميلي" إلى السلطة بناء على وعود بأنه سيحل أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها الأرجنتين منذ عقدين، لكن حزبه السياسي الذي يتألف من مبتدئين نسبيا لا يشغل سوى أقلية صغيرة من المقاعد في الكونغرس، ويكافح من أجل إبرام صفقات مع المعارضة.

ماذا جرى؟

وبينما كان أعضاء مجلس الشيوخ يدققون في مشاريع القوانين ويوافقون عليها بأغلبية صوت واحد، ألقى متظاهرون في وسط مدينة بوينس آيرس الحجارة وقنابل المولوتوف على الشرطة التي ردت بعنف لتفريق الحشود الضخمة. 

سكب المتظاهرون البنزين على السيارات وأشعلوا النار فيها، مما حول الساحة المركزية أمام البرلمان إلى معركة مليئة بالدخان، وأصيب العشرات من الجانبين وجرت سلسلة اعتقالات، بحسب وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية 13 يونيو 2024.

آلاف الأرجنتينيين خرجوا للشوارع واصطدموا بعنف بقوات الأمن وأشعلوا النار في منشآت عامة. كما أصيب نواب ممن صوتوا لقرارات الرئيس خلال الاشتباكات بين المتظاهرين والشرطة بالقنابل الحارقة والغاز المسيل للدموع، وفق صحيفة "تلغراف" البريطانية، 13 يونيو/حزيران 2024.

المتظاهرون الغاضبون حاولوا في البداية لفت أنظار النواب لضرورة رفض هذه القرارات التي تزيدهم فقرا وتزيد من صلاحيات الرئيس، وجرى رفض طلبهم وقف الجلسات، فبدأوا بالتظاهر.

 انتقدوا سعي الرئيس لبيع أصول الأرجنتين، وتقليص مزايا مثل معاشات التقاعد، وإضعاف حقوق العمال وتفضيل الشركات الكبرى وتوسيع سلطته وزيادة الضرائب.

كما اعترضوا على تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي لبيع الشركات العامة وإجراءات تتعلق بالمعاشات والأمن، وأثاروا احتجاجات ضخمة.

زاد من غضبهم أن الرئيس "ميلي" وصف المشاركين في المظاهرات ضده بأنهم "إرهابيون"، وأشاد بعنف الشرطة ضدهم، بحسب وكالة أسوشيتد برس.

وهنأ مكتب الرئيس المنتمي لليمين المتطرف، خافيير ميلي، قوات الأمن في منشور على موقع إكس على "أفعالها الممتازة في قمع" ما قال إنها "جماعات إرهابية" يزعم أنها كانت تحاول "الانقلاب".

وسبق أن شهدت العاصمة الأرجنتينية احتجاجات شعبية واسعة تقودها القوى السياسية والنقابية اليسارية، التي نفذت إضراباً عاما شل الحركة في معظم أنحاء البلاد، منتصف مارس/آذار 2024.

وبسبب رفع وزير النقل الأرجنتيني سعر تذكرة المترو والقطارات عدة مرات خلال الأشهر الستة الماضية، اقتحم أرجنتينيون هذه المحطات وركبوا مجانا دون دفع ثمن التذاكر تحديا للسلطة.

أوضاع كارثية

ورأى ميلي ومؤيدوه، أن موافقة "مجلس الشيوخ" بأغلبية 37 صوتا ضد 36 تعد نصرا تشريعيا أوليا له وضوءا أخضر لتنفيذ وعوده بإجراء تغيير جذري، إلا أنه لا يزال يتعين موافقة "مجلس النواب" على نفس الحزمة المرفوضة شعبيا.

وتفوض هذه التشريعات لو جرت الموافقة النهائية عليها، الرئيس صلاحيات واسعة في مجالات الطاقة والمعاشات والأمن ومجالات أخرى.

 ويتضمن العديد من الإجراءات التي تعد مثيرة للجدل مثل خطة حوافز سخية للمستثمرين الأجانب والعفو الضريبي لأولئك الذين لديهم أصول غير معلنة، بخلاف خطط خصخصة وبيع بعض أصول وممتلكات الدولة، أي الشركات المملوك لها.

ومن القوانين الأكثر إثارة للجدل في المشروع الرئاسي، قانون خصخصة المؤسسات العامة الذي يواجه معارضة شعبية واسعة.

وذلك رغم أن الحكومة اضطرت إلى خفض عدد المؤسسات التي تقترح تخصيصها وبيعها من 41 إلى 27، واستثناء شركة النفط الرسمية.

وهذه هي المرة الثانية التي يسعى فيها "ميلي" للحصول على هذا التفويض من البرلمان، حيث قدمت حكومته في مارس/آذار 2024 مشروع "تفكيك الدولة" لإقراره في مجلس النواب.

لكنه اضطر إلى سحب نصف القوانين التي يتضمنها، وبلغ عددها 664 قانوناً، حتى يضمن تمريره، وهو ما حدث بالفعل حيث صوت لصالحه 144 عضواً مقابل 109 رفضوه.

وتواجه حكومة "ميلي" معارضة شديدة للموافقة على طلبها الحصول على صلاحيات تسمح لها بالاقتراض الخارجي وتشديد الإجراءات الأمنية بدون الرجوع إلى البرلمان.

ومنذ وصوله إلى الحكم، يسعى ميلي إلى أن يكون مُطلق اليد في طلب قروض خارجية، كما حدث مع الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي حصل على قرض بقيمة 57 مليار دولار من صندوق النقد الدولي عام 2018 وما زالت الأرجنتين إلى اليوم عاجزة عن تسديده.

وفي يناير/كانون الثاني 2024 قالت حكومة ميلي إنها تتفاوض مع صندوق النقد الدولي بشأن قرض تبلغ قيمته 44 مليار دولار، وقدمت تعهدات بتحقيق التوازن في المالية العامة هذا العام وتخفيض الإنفاق، ويتضمن الرقم دفع فوائد الدين العام.

ويواجه الاقتصاد الأرجنتيني وضعاً كارثياً ويبلغ التضخم نحو 300 بالمئة، كما فقدت العملة المحلية "البيزو" أكثر من نصف قيمتها منذ تولى ميلي رئاسة البلاد ويسعى الآن لتنفيذ شروط صندوق النقد الدولي للحصول على قروض جديدة.

لكن، قالت مجلة "إيكونوميست" البريطانية في 13 يونيو 2024 إن صندوق النقد الذي قدم قروضا ضخمة للأرجنتين، يشعر بسعادة غامرة بسبب تمرير هذه القوانين التي تعطي المستثمرين الذين يضخون أكثر من 200 مليون دولار، عددا كبيرا من المزايا الضريبية.

مصير غامض 

برغم أن التشريعات التي وافق عليها مجلس الشيوخ تعطي الرئيس صلاحيات واسعة في مجالات بيع أصول البلاد والطاقة والمعاشات والأمن وإرضاء المستثمرين الأجانب، إلا أن كل شيء لا يزال مرهونا بموافقة مجلس النواب.

تقارير أجنبية ترى أن خروج الشعب للتظاهر العنيف ضد هذه القوانين، والاعتداء على نواب وافقوا عليها، ربما يدفع أعضاء مجلس النواب للتريث وربما رفض هذه "الإصلاحات" التي يرفضها الشعب خشية اشتعال ثورة وعنف في الشوارع.

المحللة الإستراتيجية الأرجنتينية "آنا إيباراغيري"، لخصت لوكالة "أسوشيتد برس" المعضلة وهذا التناقض بقولها: "لدينا أضعف رئيس رأيناه على الإطلاق، ومع هذا يحاول تمرير أكبر سلسلة مشاريع قوانين على الإطلاق".

تقارير صحف أجنبية رأت أن العقبة الرئيسة أمامه والتي قد تطيح به من السلطة هي رفض الشعب بيع أصول بلاده.

إذ تواجه تشريعات ميلي مقاومة شديدة من جانب النقابات العمالية لبيع أصول البلاد، وكان تجمع أطيافا مختلفة من الشعب وهم يهتفون أمام البرلمان: "بلادنا ليست للبيع"، و"سندافع عن الدولة".

ما يجعل التحدي صعبا أمام الرئيس الجديد هو أنه فشل في تمرير أي تشريع خلال الأشهر الستة الأولى من توليه منصبه، وحتى التشريع الأخير الذي فاز به، لا يزال عالقا وينتظر موافقة مجلس النواب، وفق "تلغراف".

يخشون أن تؤدي إجراءاته لزيادة أعداد الفقراء لأنه لا يقدم لهم شيئا في برنامجه، وعلى العكس يضع برنامجا للحوافز للمستثمرين الأجانب يتضمن إعفاءات ضريبية مربحة لمدة 30 عاماً، وعدم فرض رسوم جمركية على الواردات من الآلات وغيرها.

وهو ما يراه خصومه، في النقابات الأرجنتينية، امتيازات للشركات الكبرى العالمية، خاصة الأميركية والأوروبية، ستؤدي إلى ضرر كبير على الصناعة المحلية في الأرجنتين.

كما يخشون أن تؤدي خطط خصخصة بعض الشركات المملوكة للدولة أيضا لتسريح الآلاف من العمال وفقدان أعمالهم بجانب إجبارهم على دفع الضرائب، ما سيرفع من نسبة الفقراء في البلاد.

وألغت حكومة ميلي أخيرا آلاف الوظائف في القطاع العام، وخفضت الدعم، وأوقفت البرامج الاجتماعية، مما أدى إلى اندلاع مظاهرات.

ويقول معارضوه إن برنامج ميلي التقشفي القاسي يغرق الكثير من الأشخاص في براثن الفقر ويعرض مستقبل البلاد للخطر.

وتؤكد مجلة "إيكونوميست" 13 يونيو 2024 أنه ليس من الواضح إلى متى ستظل "وصفة ميلي" غير العادية لكسب الشعبية فعالة.

إذ يشعر الناخبون بقلق متزايد بشأن الركود الذي يزداد سوءا، بعدما انخفض نشاط البناء بنسبة 37 بالمئة على أساس سنوي في أبريل/نيسان 2024، وانخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 17 بالمئة، في وقت يتوقع اقتصاديون عودة ارتفاع التضخم.

ولا يضم حزب الرئيس "تقدم الحرية" سوى عدد قليل من السياسيين في مجلسي الشيوخ والنواب، الأمر الذي منعه من تمرير أي تشريع جدي منذ توليه منصبه.

ويمثل حزب خافيير ميلي الأقلية في البرلمان بسبعة مقاعد فقط من أصل 72 في مجلس الشيوخ، فيما هو ثالث أكبر حزب في مجلس النواب بـ 38 نائبا.

ولذلك، يحتاج مشروع القانون إلى 37 صوتا من إجمالي 72 مشرعا في مجلس الشيوخ للحصول على الأغلبية.