بعد دعمها عدوان إسرائيل.. هل تحاكم ألمانيا على إبادتها في ناميبيا؟
في 12 يناير/كانون الثاني 2024 أعلنت ألمانيا دخولها كطرف ثانٍ للدفاع عن إسرائيل في محكمة العدل الدولية، فكانت المفاجأة هي رد دولة إفريقية هي ناميبيا عليها.
وعقدت محكمة العدل الدولية في لاهاي خلال يناير، جلستي استماع علنيتين في إطار بدء النظر بالدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب "جرائم إبادة جماعية" في قطاع غزة.
وتطالب جنوب إفريقيا المحكمة بفرض تدابير احترازية موقتة لإجبار إسرائيل "على عدم ارتكاب جرائم إبادة جماعية، ومنعها ومعاقبة مرتكبيها".
وفي ظل ذلك، دعمت ألمانيا إسرائيل، في موقف رفضته ناميبيا،التي عدت الدعم الألماني استمرارا لممارسات برلين الاستعمارية.
وكانت ناميبيا مستعمَرة ألمانية سابقة، وتقع في جنوب القارة الإفريقية وشهدت أول إبادة جماعية في القرن العشرين.
وكانت ألمانيا مسؤولة بين 1904 و1908 عن مذابح في ناميبيا راح ضحيتها سبعون ألف شخص على الأقل ينتمون إلى شعبَي هيريرو وناما الأصليين، ويُعدُّها عدد من المؤرخين أول إبادة جماعية في القرن العشرين.
أهمية موقف ناميبيا أنه فضح تنفيذ ألمانيا أول أبادة جماعية فيها، وهو ما يعني أن وقوفها مع إسرائيل في جرائمها يعد استمرارا للجرائم الألمانية القديمة.
محللون وناشطون أفارقة انتقدوا ألمانيا، وقالوا إنها بتاريخها الدموي والمُشبع بالإبادات الجماعية، تتبنى الآن دوراً يمكن وصفه بـ "العهر السياسي والقانوني" لإسرائيل.
عدوا نزول ناميبيا الحلبة ضدها هي وإسرائيل رسالة تستهدف تذكيرها بأن شعورها بالذنب تجاه المحرقة، لا يجب أن يكون سبباً لدعمها الدولة الصهيونية في تنفيذ إبادة جماعية ضد شعوب أخرى، كالشعب الفلسطيني.
تدخل ألمانيا
في ختام جلسات الاستماع لقضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بالإبادة الجماعية للفلسطينيين، أعلنت ألمانيا دعمها تل أبيب، في تحرك يشكل أهمية رمزية بالنظر إلى تاريخها في المحرقة.
إذ يتهم اليهود، النازيين الألمان بقتل 6 ملايين يهودي في أوروبا، وفق ادعاءات إسرائيل، وهو ما تحاول برلين اليوم طمسه عبر دعم تل أبيب للتخلص من عقدة الهولوكست.
قالت خلال بيان في 12 يناير 2024 إنها تريد التدخل في الإجراءات أمام محكمة العدل الدولية، نيابة عن إسرائيل، بزعم أنه "لا يوجد أساس على الإطلاق" لاتهامها بارتكاب إبادة جماعية.
وبموجب قواعد المحكمة، إذا تدخلت دولة ما (ألمانيا) في إجراءات القضية، يصبح بمقدورها تقديم "حجج قانونية" نيابة عن إسرائيل، وفق وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية 12 يناير 2024.
وبتقديمها هذا الطلب، سيُسمح لألمانيا بالتدخل في مرحلة تفسير اتفاقية الإبادة الجماعية، التي جرى وضعها عام 1948 بعد الحرب العالمية الثانية، وهل تنطبق على إسرائيل أم لا، وفقًا لما قالته المحامية الدولية بلقيس جراح، لـ "أسوشيتد برس".
المتحدث باسم الحكومة الألمانية "شتيفن هيبستريت" برر تدخل بلاده بزعم أن "إسرائيل تدافع عن نفسها ضد الهجوم اللاإنساني الذي تشنه (حركة المقاومة الإسلامية) حماس".
قال إن "ألمانيا ترى نفسها ملتزمة بشكل خاص باتفاقية مناهضة الإبادة الجماعية"، لكنها "تعارض بشدة الاستغلال السياسي"، أي اتهام إسرائيل بهذه التهمة.
لهذا انتقدت ناميبيا دعم ألمانيا لموقف إسرائيل في محكمة العدل الدولية، في مواجهة تهمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.
وعدته "قرارا صادما" لأنه يعني رفضها لائحة الاتهام الأخلاقية التي قدمتها جنوب إفريقيا أمام المحكمة ضد إسرائيل.
ويرى محللون أن دخول ألمانيا مع إسرائيل في الدعوى هو استمرار لسياستها العنصرية ضد العرب والمسلمين، وأنه أسقط قناع حقوق الإنسان المزعوم غربيا.
كما أنه استمرار لمواقفها الخاضعة لإسرائيل منذ اتهام اليهود لها بإبادتهم خلال حكم الزعيم النازي أدولف هتلر، مشيرين أن مواقفها المنبطحة أمام المصالح الإسرائيلية أصبحت "أكثر تصهينا" من الصهاينة أنفسهم.
وضمن شعورها بأن "على رأسها بطحة"، كما يقول المثل العامي، لإبادتها كثيرا من اليهود، حظرت ألمانيا العديد من الشعارات والرموز الفلسطينية في البلاد بدعوى معاداة السامية، مثل شعار "من النهر إلى البحر" الذي يجري ترديده في المظاهرات.
كما حظرت على الطلاب ارتداء الوشاح الفلسطيني وحمل ملصقات تحوي علم فلسطين.
واعتدت الشرطة الألمانية على مظاهرات متعاطفة مع غزة وجرى اعتقال ناشطين، كما ربط منح الإقامة في ولايات ألمانية بـ "عدم معاداة السامية".
لم تتعلم
وفي 14 يناير/كانون ثان 2024، طمست إدارة جامعة "ترير" الألمانية رسوما جدارية تحوي عبارة "أوقفوا الإبادة الجماعية في غزة" بذريعة أنها "معادية للسامية" ضمن خطوات حظر العديد من الشعارات والرموز الفلسطينية.
وقالت "مبادرة أبحاث معاداة السامية" التابعة لجامعة ترير، إن "تعريف أعمال الدفاع عن النفس التي تنفذها إسرائيل في قطاع غزة بأنها إبادة جماعية، لا يمكن تفسيره سوى أنه محاولة لشيطنتها".
وبينت المبادرة في بيان، أن هذه الشيطنة تقود إلى "معاداة السامية"، وفق زعمها
وسبق أن عزا المستشار الألماني أولاف شولتز، دعمهم غير المشروط لإسرائيل بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2024 إلى "مسؤولية بلاده التاريخية عن المحرقة بحق اليهود في فترة النازية".
كان أهم ما قالته ناميبيا، في بيان انضمامها لجنوب إفريقيا، إن "ألمانيا لم تتعلم الدروس من تاريخها الغارق في الإبادات الجماعية".
ولهذا دعمت دولة ترتكب الإبادة الجماعية، متجاهلة بذلك قتل الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 24 ألف فلسطيني حتى الآن.
بهذا الموقف بدا أنها تقول لألمانيا إنها لو تدخلت مع إسرائيل، فسيجري فتح ماضيها القذر، خاصة أن جرائم الابادة لا تسقط بالتقادم.
وأبادت ألمانيا الشعوب المعروفة باسم الهيريرو (90 بالمائة منهم)، و"الناما" (50 بالمائة منهم) بين عامي 1904 و1908 في جنوب غرب إفريقيا، الذي كان مستعمرة ألمانية آنذاك، والمعروفة حاليًا بدولة ناميبيا.
وقالت ناميبيا في بيان رئاسي، إن الحكومة الألمانية لم تفكر بجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها في بلادنا، وها هي تدعم الإبادة الإسرائيلية المماثلة، وتتجاهل المذبحة التي ارتكبت ضد الفلسطينيين في غزة.
بينت أن الحكومة الألمانية "تجاهلت مقتل أكثر من 23 ألف فلسطيني في غزة وتنسى التكفير عن الإبادة في ناميبيا وتدعم ما يعادل هولوكوست وإبادة جماعية هناك".
وقال الرئيس الناميبي "هاغي جينجوب" لصحيفة "ذا ناميبيا": "لا يمكن لأي إنسان محب للسلام أن يتجاهل المذبحة التي ترتكب ضد الفلسطينيين في غزة".
ويعتقد محللون أن جانبا من الموقف الناميبي ضد إسرائيل في العدل الدولية ومعها ألمانيا، يرجع إلى جذور تاريخية من العداء لتل أبيب لأنها دعمت النظام العنصري في جنوب إفريقيا.
تفاصيل الإبادة
أعاد دفاع ألمانيا عن ارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية، للأذهان جريمة إبادة وحشية نفذتها القوات الألمانية خلال القرن الماضي، لشعبي الناما وهيريرو، إبان الاحتلال الألماني لناميبيا.
بدأت المجازر باستعمار الإمبراطورية الألمانية التي عرفت باسم (الرايخ الألماني) لناميبيا في الفترة من 1884 حتى عام 1915، وقمعها آنذاك انتفاضتين لشعبي الناما وهيريرو بطريقة وحشية، وهو ما اعترف مسؤولون ألمان لاحقا بانه إبادة جماعية.
وبين عامي 1904 و1908 قتلت القوات الاستعمارية الألمانية عشرات الآلاف من أبناء قبيلتي "هيريرو" و"ناما" في مذابح عدها الكثير من المؤرخين "أول إبادة جماعية في القرن العشرين".
وأسفرت هذه المذابح الجماعية التي قامت بها القوات الألمانية، بين عامي 1904 و1908 عن مقتل ما لا يقل عن 80 ألفا من أبناء شعب "هيريرو" وحوالي 20 ألفا من أبناء "ناما".
وكانت القوات الاستعمارية الألمانية تستهدف إبادة السود في ناميبيا وخلق مجتمع أبيض في جنوب غرب إفريقيا، بعدما انطلقت انتفاضة من جانب السكان ضد الاستعمار الألماني.
في ذلك الحين، نفذ ثيودور ليوتوين، حاكم مستعمرة الجنوب الغربي، وقائد الجيش الاستعماري الألماني حملة قمع دموية للانتفاضة وقتل آلاف السكان، لكن ثورتهم استمرت ضد المحتل الغربي.
لقمع أكبر للسكان، عين قيصر ألمانيا "فيلهيام الثاني" الجنرال "لوثر فون تروثا" قائداً للجيش الاستعماري، فنفذ مجزرة أوسع بين قبائل الهيريرو والناما وكانت أول إبادة جماعية في القرن العشرين ارتكبتها ألمانيا.
لم يكتف هذا الجنرال ورجاله بقتل النساء والأطفال بل عذبهم ووسمهم بالنار كالبهائم وسمم آبار المياه، لإبادة كل أبناء القبائل وطرد من ظل حيا لإقامة منطقة بيضاء خالية من السود فوق أرضهم وجثثهم.
كما اعتقلت القوات الألمانية بعض السكان ونقلتهم لمعامل تجريبية لإجراء اختبارات زعمت أنها "علمية" على الجنس البشري، بغرض إثبات التفوق العرقي للأوروبيين البيض، حيث أخضعتهم لممارسات بشعة قتلوا فيها.
اعتراف بالجرم
وعام 2018، أعادت ألمانيا إلى ناميبيا بعض الجماجم والرفات البشرية التي استخدمتها بعد أن احتفظت بها في متاحفها لأكثر من 100 عام.
وقد رفع أحفاد الهيريرو والناما قضية ضد الألمان أمام القضاء الأميركي بالمسؤولية عن ارتكابهم إبادة جماعية بحق أجدادهم.
إلا أن المحكمة الأميركية تضامنت مع القتلة ورفضت إدانة ألمانيا بارتكاب أول جريمة إبادة في القرن العشرين.
واستندت المحكمة في قرارها إلى مبدأ "الحصانة السيادية"، والذي يعني عدم جواز خضوع دولة بغير إرادتها لقضاء أخرى.
وبعد مطالبات ناميبية عديدة، اعترفت ألمانيا في 28 مايو/أيار 2021، أي بعد 113 سنة، رسمياً بأنها ارتكبت "إبادة جماعية" ضد شعبي "هيريرو" و"ناما" في ناميبيا خلال استعمارها لمناطقهم جنوب غربي إفريقيا.
ويعد هذا الاعتراف الأول من نوعه في تاريخ ألمانيا، بعد سنوات طويلة من تردي العلاقات بين البلدين، على خلفية الجرائم التي ارتكبت خلال فترة الاستعمار الألماني، لكن برلين رفضت الاعتراف بأنها ستدفع تعويضات وإنما مساعدات.
ورفضت ذكر مصطلح "تعويض" في اتفاق الصلح، لأن من شأنه أن يرقى إلى حد الاعتراف بالذنب بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 بشأن الإبادة الجماعية، وفق صحيفة "نيويورك تايمز" 29 مايو 2021.
وزعم الألمان أن الاتفاقية لا يمكن تطبيقها بأثر رجعي على جرائم الإبادة الجماعية الماضية، حيث كانت ألمانيا تخشى أن يكون النص على كلمة "تعويضات" مدخلا لدفعها هي وغيرها من القوى الاستعمارية الأوروبية السابقة تعويضات مستمرة، ربما خشية تكرار الابتزاز اليهودي الحالي لهم بدعوى الهولوكوست.
وقد تعهدت ألمانيا بتقديم مساعدات تنموية قيمتها 1.1 مليار يورو على مدى 30 عاما لصالح المستفيدين من أحفاد القبيلتين لتحسين خدمات المياه والكهرباء وغيرها.
وذلك رغم أن المستعمرين الألمان ذبحوا أكثر من 70 ألف شخص من شعب الهيريرو والناما بين عامي 1904 و1908، وفق "ما قالت بي بي سي البريطانية في 14 يناير 2024.
وقالت جنوب إفريقيا إن أكثر من 50 دولة أعربت عن دعمها لقضيتها في المحكمة العليا بالأمم المتحدة التي تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في العدوان على غزة.
ورفضت دول أخرى غربية بينها ألمانيا، اتهامات جنوب إفريقيا بأن إسرائيل تنتهك اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وقالت إنها "ترفضها صراحة".
ورفضت الولايات المتحدة، حليف إسرائيل الوثيق، اتهامات الإبادة الجماعية وعدتها "لا أساس لها من الصحة"، فيما وصفتها المملكة المتحدة بأنها غير مبررة،
وظلت مواقف دول مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي مبهمة، والتزمت أخرى كثيرة الصمت إزاء هذه القضية أمام محكمة العدل الدولية.