بعد مرحلة من الفتور.. لماذا عادت السعودية إلى لبنان عبر بوابة الاقتصاد؟
"اختارت الرياض دعم مشاريع تستفيد منها كل الأطراف السياسية في لبنان"
تعود السعودية التي لها تأثير كبير في المشهد السياسي اللبناني إلى تمويل مشاريع تنموية في هذا البلد، الغارق في أزمة اقتصادية وسياسية عمّقها الشغور الرئاسي المستمر.
ورغم فتور علاقة الرياض ببيروت منذ اعتزال رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري الحياة السياسية في 24 يناير/كانون الثاني 2022، إلا أنها لا تزال تحظى "بقبول وازن" من قوى لبنانية.
مؤشرات جديدة
وظهرت مؤشرات جديدة لبداية "العودة الفاعلة" للسعودية في الملف اللبناني.
وتمثل ذلك، في توقيع الرياض وبيروت، في 2 يوليو/ تموز 2024 مذكرة تعاون مشترك، تقدم من خلالها السعودية 10 ملايين دولار لدعم مشاريع تنموية في لبنان.
وقالت وكالة أنباء لبنان الرسمية، إن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي رعى حفلا وسط بيروت، بدعوة من سفير السعودية وليد بخاري، بمناسبة توقيع مذكرة تعاون مشترك بين "مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية"، و"الهيئة العليا للإغاثة" (حكوميان).
ونقلت الوكالة عن بخاري، قوله إن "مركز الملك سلمان للإغاثة، والهيئة العليا للإغاثة اللبنانية، سيعملان على تنفيذ نحو 28 مشروعا في المناطق اللبنانية المختلفة".
وأضاف أن "السعودية ستقدم مساهمة مالية بقيمة عشرة ملايين دولار من خلال مركز الملك سلمان".
وأكد البخاري أن هذا الدعم "يأتي امتدادا لحرص القيادة على دعم العمل الإنساني والإغاثي وتحقيق الاستقرار والتنمية في لبنان".
وفي كلمته، أعاد سفير السعودية تذكير الحضور بتنفيذ المملكة 129 مشروعا للبنان في أكثر من قطاع بقيمة بلغت مليارين و717 مليون دولار.
ووقع الأمين العام لـ"الهيئة العليا للإغاثة"، محمد خير، ومدير "مركز الملك سلمان للأعمال الإنسانية في لبنان"، عبد الرحمن القريشي، مذكرة التعاون المشترك.
وأكد الأمين العام للهيئة محمد خير، أنه منذ أشهر جرى دراسة المشاريع مع السفير البخاري.
بدورها، أكدت "قناة الجديد" المحلية أن المشاريع السعودية انطلقت في عدد من المناطق اللبنانية.
ويعاني لبنان من انهيار اقتصادي كبير منذ عام 2019، بات معه معظم السكان دون خط الفقر، وفق البنك الدولي، وقد انعكست تبعات الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة على قطاعات البلاد المختلفة، بما في ذلك قطاع البناء والبنى التحتية المتهالكة.
وقد فشل لبنان على مدار خمس سنوات خلت من إعادة وضع الاقتصاد الوطني على مسار النمو الإيجابي.
لا سيما عقب حالة "عدم اليقين" السياسية الداخلية التي بدأت منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وفشل البرلمان 12 مرة في انتخاب رئيس على وقع انقسام سياسي يزداد حدة بين “حزب الله” القوة السياسية والعسكرية الأبرز في البلاد، وخصومه.
وتتمثل عقدة الملف الرئاسي بعدم حظوة أي فريق سياسي في هذا البلد بأكثرية تمكنه منفردا من إيصال مرشحه إلى قصر بعبدا الرئاسي في بيروت.
وتحركت الرياض تجاه بيروت من خارج مجموعة دول اللجنة الخماسية الخاصة بلبنان والتي تضم إلى جانب السعودية ممثلين عن الولايات المتحدة وفرنسا ومصر وقطر.
وبحسب وسائل إعلام لبنانية، فإن طبيعة مشاريع السعودية هي إنمائية وتربوية وطبية إضافة إلى صيانة عدد من المؤسسات والجمعيات والبلديات وتأهيل مدارس وتأمين ضخ الكهرباء لمحطات المياه وتركيب طاقة شمسية للإنارة في مختلف المناطق اللبنانية.
وأكد مراقبون لبنانيون أن السعودية اختارت "تمويلا مدروسا" لبعض المشاريع في لبنان في هذا التوقيت، خاصة أن هناك عشرات الاتفاقيات والمشاريع بين الرياض وبيروت "مجمدة" لعدم إقرار المملكة ببدء تمويلها والمرتبطة بتحقيق انفراجة في المسار السياسي توافق الرؤية السعودية.
ولهذا أعطى وفق هؤلاء اختيار المملكة تدشين حفل مذكرة التعاون في السرايا وبرعاية الحكومة اللبنانية، "تبدلا في مركز القرار السعودي تجاه لبنان الرسمي".
مسافة واحدة
وما كان ملاحظا أن "مركز الملك سلمان" اختار دعم مشاريع تستفيد منها كل الأطراف السياسية في لبنان، بما يعطي دلالة على وقوف الرياض على مسافة واحدة من الجميع.
وبدا لافتا إيلاء اهتمام خاص للمشاريع التي تقدم بها نواب الطائفة السنية في الشمال والبقاع وبيروت.
وقد أتت الحصة الكبرى من الدعم لأقضية عكار وطرابلس والمنية والضنية، وأبرزها، صيانة بركة تجمع المياه في خراج بلدة بقاعصفرين لتأمين المياه إلى مزارعي المنطقة حقنا للدماء بين أعالي بشري والضنية حيث وقع قتلى سابقا نتيجة خلاف على المياه.
وكذلك إنشاء مبنى لبلدية المنية، وتأهيل وصيانة مستودع وأدراج كلية الآداب في طرابلس وترميم مركز الأرشيف المتضرر فيها منذ الحرب الأهلية (1975 - 1990).
وأكثر ما كان لافتا الدعم الذي خصصه السعوديون لأحد المراكز الطبية في بلدة عين الزيت في قضاء عكار وهي بلدة يسكنها أبناء الطائفة العلوية فقط.
ويرى لبنانيون أن بلدهم لبنان لم يخرج من العباءة السعودية منذ اتفاق الطائف الذي أنهى تلك الحرب الأهلية، وأدخل نظاما سياسيا جديدا على البلاد، اصطلح على تسميته "الجمهورية الثانية"، تحت وصاية نظام الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد (حتى عام 2005) بموافقة أميركية وسعودية.
إذ إن تدهور العلاقات بين بيروت والرياض بدأ في عام 2016 بانتخاب ميشال عون رئيسا للبنان وهو ما فسح المجال لصعود سياسي قوي لحزب الله.
وقد أخذت الرياض زمام المبادرة في مارس 2016 من خلال تصنيف كل من مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية لحزب الله على أنه "منظمة إرهابية".
وحينها تحدث بعض الأوساط بأن تلك الخطوة جاءت لغضب الرياض من تقديم حزب الله المدعوم من إيران، المساعدة للحوثيين في اليمن منذ عام 2015.
رسالة سياسية
في لبنان لشخصية الرئيس ومدى انخراطه في سياسة المحاور والولاء أثر عميق على جلب الدعم المالي للدولة المنهكة اقتصاديا.
لا سيما أن السعودية تعد أهم داعم مالي واقتصادي لبيروت وهو ما يجعل تحفظاتها محل تأثير داخلي.
ومع تواصل الشغور الرئاسي في لبنان؛ بسبب تمسك حزب الله بمرشحه للرئاسة رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، وهو الاسم الذي ترفضه غالبية القوى اللبنانية الأخرى وتدعو إلى الاتفاق على مرشح ثالث، كما تؤكد دوائر نيابية لبنانية أن السعودية لن تدعم بأي حال من الأحوال مرشح الحزب.
لذلك وفي ظل عدم تراجع حزب الله عن مرشحه فرنجية دعت الدول الخمس التي تتابع الملف اللبناني، في بيان مشترك موقع من سفرائها في لبنان في 16 مايو 2024 إلى "مشاورات، محدودة النطاق والمدة، بين الكتل السياسية" قالت إنها "ضرورية لإنهاء الجمود السياسي الحالي".
وأوضحت "هذه المشاورات يجب أن تهدف فقط إلى تحديد مرشح متفق عليه على نطاق واسع، أو قائمة قصيرة من المرشحين للرئاسة" على أن يذهب النواب فور اختتام المشاورات إلى "جلسة انتخابية مفتوحة في البرلمان مع جولات متعددة حتى انتخاب رئيس جديد".
وضمن هذا السياق، نقلت صحيفة "النهار" اللبنانية عن مرجع سياسي لم تسمه في 6 يوليو 2024 قوله: "إن الخطوة السعودية ترمي إلى تأكيد استمرار حضور المملكة في لبنان، وأن لا نية للتخلي عنه في ظل الأوضاع الاستثنائية التي يمر بها، ولكنها لن تتجاوز هذا الحضور إلى انخراط في الموقف السياسي، لا سيما من حزب الله وقد تجلى ذلك أخيرا في إعادتها تصويب موقف الجامعة العربية منه".
وأضاف المرجع، "أن السعودية لن تكون صاحبة مبادرة في المرحلة الراهنة، والملف متروك حاليا في عهدة الخماسية".
وكان السفير حسام زكي الأمين العام المساعد لجامعة الدول، قال إن تصريحاته حول عدول الجامعة عن وصف حزب الله بأنه منظمة إرهابية، "فُسرت في غير سياقها الصحيح".
وأوضح في تصريح صحفي نقله موقع صحيفة الأهرام المصرية، في 1 يوليو 2024 أن "هذا لا يعني بأي حال زوال التحفظات والاعتراضات العديدة علي سلوك وسياسات وأفعال ومواقف حزب الله، ليس فقط داخليا وإنما إقليميا أيضا".
وذهب المرجع السياسي للقول: “لم يكن اختيار سرايا بيروت للإعلان عن المساعدة المالية إلا لتجديد التأكيد السعودي أن أي مساعدات أو دعم للبنان لن يكون إلا عبر مؤسساته الرسمية ضمن قرار مأسسة العلاقات”.
وختم بالقول: "أما احتضان فئة سياسية على حساب أخرى أو طائفة دون أخرى بلبنان، فهذا رهان سقط من أجندة المملكة، أقله في الوقت الراهن".