اتفاق جدة لـ"دعم الثقة".. لماذا زاد القتال في السودان بدلا من إيقافه؟
رغم توقيع الجيش السوداني وقوات الدعم السريع "اتفاق دعم الثقة" بمدينة جدة في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بوساطة سعودية وأميركية وأخرى من منظمة "إيغاد" لتهدئة الحرب، فقد حدث العكس وتصاعد القتال بين الطرفين بدلا من تراجعه كما كان مأمولا.
الاتفاق تضمن 6 خطوات لتسهيل المساعدات الإنسانية وإجراءات بناء الثقة، وآلية تواصل بين الجانبين، وبنودا أخرى بدا أنها لصالح قوات الدعم السريع، مثل "القبض على الهاربين من السجون"، ما أغضب التيار الإسلامي الداعم للجيش في السودان.
عقب الاتفاق، هيمنت قوات الدعم السريع على منطقة دارفور، التي انطلقت منها نقطة قوتها، وصعدت القتال كي تستولي على مدينة الفاشر التي تجمعت فيها قوات الجيش بعدما انسحبت من حامية "نيالا".
بعد أسبوع آخر من توقيع الاتفاق صعدت الدعم السريع من المعارك وحققت مكاسب عسكرية في غرب وجنوب السودان وكسرت جمودا على الأرض استمر لأشهر في حربها مع الجيش، بحسب ما قالت وكالة "رويترز" البريطانية 15 نوفمبر 2023.
"رويترز" فسرت تصعيد الدعم السريع، برغبتها في "زيادة قدرتها على الوصول لموارد، بما فيها الذهب، الذي استخدمته من قبل لمساعدتها في بناء إمبراطورية مالية، ولتأمين دورها في أي تسوية سياسية بعد قتال دائر منذ سبعة أشهر الآن".
لكن الجيش السوداني حقق في المقابل اختراقا في أم درمان والخرطوم اللتان كانتا تتمركزان فيهما قوات الدعم بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) منذ بداية الحرب، وعمل على قطع الإمدادات عنها، فبات كل طرف يسيطر على مناطق كاملة لأول مرة.
تطورات عسكرية
عقب نشر الخارجية السودانية تفاصيل اتفاق بناء الثقة بأربعة أيام، دُمّر جسر "شمبات" الذي يربط بين ضاحيتي العاصمة السودانية بحري وأم درمان، يوم 11 نوفمبر 2023.
وتبادل كل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع الاتهامات بتدميره، بحسب وكالة الأنباء الفرنسية بعدما رفضا سويا الاتفاق على وقف إطلاق النار في اتفاق "الثقة" لتستمر المعارك بينهما للشهر السابع على التوالي.
وقالت مصادر سودانية إن تدمير جسر شمبات سيوقف تقدم الدعم السريع لأنه قطع عنه الإمدادات التي كانت تصل قوات حميدتي عن طريقه.
ويؤكد الصحفي والمحلل السياسي السوداني "وليد الطيب" لـ "الاستقلال" أن الجيش، وبعد تدمير جزء من كوبري شمبات، الذي كانت تصل عبره الإمدادات لقوات الدعم السريع، استطاع أن يحرر بشكل واضح أجزاء كبيرة من الخرطوم وأم درمان بنسبة 90 بالمئة تقريبا.
أضاف أن الجيش يحقق تقدما كبيرا في الخرطوم، وأنه يُتوقع في نهاية الشهر الحالي (نوفمبر) أو أوائل الشهر المقبل (ديسمبر/كانون الأول) أن يكون هناك تغيير كبير في المشهد السوداني داخل العاصمة.
أرجع ذلك إلى أن تدمير الكوبري قطع الإمدادات عن قوات حميدتي كما أن الدعم السريع بات في ورطة أخرى بعدما أعلنت اثنتان من أكبر الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام، انحيازهما للجيش السوداني في قتاله ضد الدعم السريع.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2020، وقعت الحكومة السودانية اتفاقا لإحلال السلام مع حركات مسلحة ضمن تحالف "الجبهة الثورية"، فيما تخلف عن الاتفاق "الحركة الشعبية ـ شمال" بزعامة عبدالعزيز الحلو، وحركة "تحرير السودان" بقيادة عبدالواحد نور، والتي تقاتل القوات الحكومية في دارفور.
وأعلنت حركتا تحرير السودان بزعامة مني أركو مناوي، والعدل والمساواة، بقيادة جبريل إبراهيم 16 نوفمبر 2023، الخروج من حالة الحياد حيال الحرب الدائرة بين الجيش والدعم السريع، وأعلنتا المشاركة في العمليات العسكرية بجانب الجيش.
ويوضح "الطيب" أن الدعم السريع أصبحت الآن في مأزق، فلو تحركت من دارفور لدعم قواتها في الخرطوم فسوف تقوم الحركتان المعاديتان لها، وانضمتا للجيش بالتحرك والاستيلاء على مناطق سيطرتها في دارفور.
ولو بقيت في دارفور فستخسر قواتها في الخرطوم لأنها ستزداد ضعفا وسيقضي عليها الجيش بسبب قطع الإمدادات عنها.
وتحدثت وكالة الأنباء الفرنسية في 10 نوفمبر 2023 عن "جثث منتشرة في شوارع أم درمان لأشخاص يرتدون زيا عسكريا ملقاة في الشوارع" بالتزامن مع معارك دامية بدارفور.
في المقابل، وبعد حصار استمر قرابة 7 أشهر لمقرات الجيش في دارفور، سيطرت قوات الدعم السريع أواخر أكتوبر 2023، على مقرات الجيش في مدن الإقليم (نيالا وزالنجي والجنينة) أي ثلاث من أصل خمس عواصم لولايات الإقليم.
وتحدثت وكالة رويترز عن تمكن "الدعم السريع" من السيطرة سريعا على مساحات في دارفور وطرق إمداد إلى الغرب، وأجبرت الجيش تدريجيا على التقهقر عن أجزاء من منطقتي دارفور وكردفان الشاسعتين وجنوبي العاصمة.
وقالت مصادر قريبة من الجيش السوداني إن أسلحة حديثة حصلت عليها الدعم السريع بدل الأسلحة الخفيفة، شملت طائرات مسيرة ومدفعية أطول مدى، تقف وراء هذا التفوق، مرجعين ذلك إلى دعم إماراتي أقوى، بخلاف جلب مرتزقة من تشاد للحرب مع حميدتي.
وفسرت "خلود خير" من مؤسسة "كونفلوينس أدفايزري" للأبحاث هدف قوات الدعم السريع من هذه التحركات السريعة بـ "السيطرة على ما يكفي من الأراضي في دارفور وربما الخرطوم لإعلان النصر من جانب واحد"، وفق "رويترز".
ويقول الصحفي "الطيب" إن قوات حميدتي كانت قد سيطرت منذ بداية الحرب في 16 أبريل/نيسان 2023 على ثلاث مدن بدارفور (نيالا بالجنوب والجنينة بغرب وزالنجي بوسط الإقليم)، ولا تزال تسيطر عليها.
أوضح أنه لم يكن فيها سوى "حامية" تابعة للجيش في حالة حصار طوال 7 أشهر بينما دارفور كلها في يد الدعم السريع، لهذا انسحب منها الجيش وتجمع في مدينة الفاشر وتمركز فيها.
البرهان والإسلاميون
عقب قبول قائد الجيش عبدالفتاح البرهان العودة لمفاوضات جدة، وموافقته على بنود في اتفاق دعم الثقة، أغضبت حلفاءه الإسلاميين، فسر محللون ذلك بما لاقاه الجيش من هزائم دفعته للعودة إلى محادثات وقف إطلاق النار التي تقودها الولايات المتحدة والسعودية.
لكن اتفاق إجراءات بناء الثقة تضمن "احتجاز الهاربين من السجون"، ما يعني إعادة اعتقال منتسبي الحركة الإسلامية الذين خرجوا من السجون، عقب اندلاع الحرب الأهلية بين الجيش والدعم السريع، لذا أغضب الاتفاق، التيار الإسلامي.
وقد أصدرت الحركة الإسلامية في السودان، بيانا يوم 8 نوفمبر 2023 أبدت فيه اعتراضها على اتفاق بناء الثقة بين الجيش والدعم السريع.
وانتقدت "الحركة" تدخل السعودية وأميركا "وممارسة ضغوط وإقحام قضايا ليست ذات صلة بالنزاع، في المفاوضات".
ووافق الجيش والدعم السريع، في الاتفاق على "احتجاز الهاربين من السجون واتخاذ إجراءات حيال الأطراف المؤججة" للنزاع، ضمن إجراءات بناء الثقة، لكنه لم يُحدد هوية من يُتخذ ضده الإجراءات، ومن هم الهاربون المستهدفين.
لكن موقع "سودان تربيون" فسر في 8 نوفمبر موقف الحركة الإسلامية الرافض لاتفاق بناء الثقة بين الجيش والدعم السريع بأنه يقصد الهاربين من الحركة الإسلامية، لذا اعترضت عليه رغم استمرارها في دعم العسكر.
وينفى الصحفي "وليد الطيب" لـ "الاستقلال" ما يتردد عن وجود ضغوط على البرهان كي يتخلص من الضباط الإسلاميين، كما تروج قوى يسارية سودانية، مؤكدا أنه "أمر غير صحيح وغير وارد في السودان الآن".
أوضح أن الإسلاميين في الجيش عددهم كبير، وهم موجودون منذ 30 سنة وأغلب القوات المسلحة السودانية ضباط إسلاميون، وبالتالي فالحديث عن أن الجيش سيتخلص منهم كمن يقول إنه "سيتخلص من نفسه"!.
وشدد على أن التخلص من إسلاميي الجيش، أمر "غير وارد نظريا، وغير ممكن عمليا"، و"البرهان ما عنده قدرة على أن يتخلص من الإسلاميين، ولا أعتقد أنه يريد أصلا أن يتخلص منهم، ولا أعتقد أن هناك صراع بينه وبينه".
ويقول الصحفي "وليد الطيب" إنه "ليس من مصلحة البرهان التخلص من الإسلاميين قبل أن يصل على الأقل لمرحلة تحرير الخرطوم"، مشيرا إلى استنفار "التيار الشعبي الإسلامي" داخل الجيش، من أجل تحقيق هدف تحرير الخرطوم من الدعم السريع أيضا.
أضاف: "الإسلاميون أيضا ليس لديهم رغبة في أن يتخلصوا من البرهان حاليا لرمزيته في المعركة"، وبالتالي فالأمر أشبه بـ "شيلني وأشيلك".
وتوقع المحلل السوداني أن يدعو البرهان، بعد تحرير الخرطوم، كل فصائل القوي المدنية (اليساريين والليبراليين) في حوار، ويضم لهم الإسلاميين، ولا يستثني أحدا وذلك ضمن فترة انتقالية، مشيرا إلى أنه حتى الغربيون يتكلمون عن حوار لا يستثني أحدا في السودان.
قطع إمدادات حميدتي
ويقول دبلوماسي سوداني سابق بالقاهرة لـ "الاستقلال" إن أطرافا عربية ودولية كانت تضغط على البرهان كي يضحي بتحالفه مع الإسلاميين خاصة مع توالي هزائم الجيش أمام الدعم السريع.
لكن كلا من البرهان والإسلاميين يحتاج أحدهما الآخر في المعركة الحالية، حيث يلعب الضباط الإسلاميون في الجيش دورا مهما في الحرب، ويشكلون عموده الفقري وأغلب ضباطه.
وأوضح، مفضلا عدم ذكر اسمه، أن الجيش ضيق الخناق على الدعم السريع بالعاصمة الخرطوم بعد التدمير الجزئي لجسر شمبات النيلي الرابط بين مدينتي أم درمان وبحري، الذي يمثل خط الإمداد الرئيس للدعم السريع من غرب البلاد.
وأنهى التدمير الجزئي للجسر ترابط قوات "الدعم السريع" بمدن العاصمة السودانية، ما اضطرها إلى شن هجمات عنيفة على جسر خزان جبل الأولياء بالضفة الشرقية للنيل الأبيض جنوبي الخرطوم، وذلك في محاولة لفتح خط إمداد جديد مع أم درمان.
لكن الجيش الذي يتحصن في الجسر ومحيطه، يتصدى لهجماتها ما دفع بها لتدمير جسر جبل الأولياء أيضا.
وخزان جبل الأولياء الواقع أقصى جنوبي غرب الخرطوم، هو السد المائي الوحيد بالعاصمة السودانية، ويعمل على ضبط منسوب المياه في أثناء الحبس والتفريغ بالسد العالي جنوبي مصر.
كما يحتوي على جسر يربط الخرطوم وأم درمان ويمكن استخدامه كممر إستراتيجي لربط القوات العسكرية بين جنوب الخرطوم والجنوب الغربي لأم درمان.
وترتبط أم درمان الواقعة غربي الخرطوم، بالعاصمة السودانية بأربعة جسور نيلية أخرى هي: الفتيحاب والنيل الأبيض مع الخرطوم، والحلفايا وشمبات مع بحري.
وتحتاج "الدعم السريع" إلى السيطرة على أحد هذه الجسور الخمسة لإعادة ربط قواتها وفتح خطوط إمداد لها، لكن سيطرة الجيش على جسر خزان جبل الأولياء بالكامل من الجهتين، تجعله يسيطر أيضًا على جسور الحلفايا والفتيحاب والنيل الأبيض من جهة أم درمان.
وكثفت قوات الدعم السريع هجماتها على الجيش في جبل أولياء خلال الأيام الأخيرة الماضية للسيطرة على جسر الخزان، الذي يربط أم درمان بجنوب الخرطوم، وذلك لإيجاد خط إمداد جديد لقواتها بعد تدمير جسر شمبات.
وبحسب خبراء، فإن المعارك الدائرة على مقربة من خزان جبل أولياء ربما تقود إلى نتائج كارثية، قد تصل إلى إغراق العاصمة الخرطوم، وذلك بالنظر إلى السعة التخزينية الكبيرة للبحيرة البالغة سعتها ثلاثة مليارات متر مكعب، بحسب ما أورده موقع "ألترا سودان" 18 نوفمبر 2023.
وأطلق سودانيون ومهتمون بالسدود نداءات تحذر من خطر كبير قد يواجه الخرطوم جراء العمليات الحربية الدائرة في منطقة جبل أولياء.
قالوا إن المعارك التي دارت بين الطرفين في معسكر الدفاع الجوي ومعسكر آخر للجيش على مقربة من خزان جبل أولياء، ربما تتسبب بكارثة تؤدي إلى انهيار خزان جبل أولياء.
وافتتح هذا الخزان عام 1937 بطول يبلغ 6 آلاف و680 متراً وارتفاع 22 متراً من قاع النيل الأبيض و381.5 مترا من سطح البحر.
وكان الجيش الذي يخوض معارك عنيفة ضد "الدعم السريع" في أم درمان، قد اقترب من السيطرة على بعض أحياء وسط المدينة.
إلا أن عمليات الكر والفر التي تنفذها "الدعم السريع"، ممثلة في الإسناد القادم من بحري عبر جسر شمبات، مثلت عائقًا أمام سيطرته على المنطقة.
ورغم أن الجيش، اتهم الدعم السريع رسميا باستهداف الجسر بسبب "التقدم الذي بدأت تحرزه قواتنا في الميدان، خاصة في محور أم درمان"، يقول مراقبون إن القوات المسلحة السودانية هي من فجرته لتمنع الإمدادات من الوصول لقوات حميدتي.
وقال شهود عيان في أم درمان لـ "الاستقلال" إن قوات الجيش والمخابرات السودانية حققتا تقدما كبيرا في المدينة منذ التفجير الجزئي لجسر شمبات.
وتحرك الجيش في أكثر من محور داخل المدينة وحاصر قوات حميدتي التي باتت تفتقر إلى الحصول على الإمدادات التي كانت تصل عبر هذا الجسر، وفق الشهود.
ورغم أهمية هذه الانتصارات التي حققها الجيش في الخرطوم وأم درمان وقرب إعلانه النصر في العاصمة، كما يتوقع محللون، يخشى سودانيون أن يزيد ذلك من فرص انقسام السودان.
ففي حين يتوقع سيطرة الجيش على الخرطوم وأهم مدن السودان، ستسيطر قوات الدعم السريع على دارفور بشكل شبه كامل، وسط تساؤلات عما إذا كانت ستعلن سلطة مستقلة هناك كما هددت سابقا حين أعلن البرهان الانتقال إلى بورتسودان.